ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من الأطروحات التي تتناول فكرة نهاية عصر النيوليبرالية ومبادئها وتبرز أوجه العجز فيها وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات المرحلة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ناهيك عن الاجتماعي. فمع الحديث المتواتر عن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وأهمية عودة الدور الاجتماعي والاقتصادي للدولة بالإضافة إلى عجز المؤسسات الدولية سواء السياسية متمثلة في الأمم المتحدة أو اقتصادية متمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عن الوفاء بالمهام المنوطة بها، ثم الخروج البريطاني عن الاتحاد الأوروبي ليضع الاتحاد ويضع معه فكرة التكامل الإقليمي – والتي تعد من الأفكار الأساسية للفكر النيوليبرالي – في مهب الريح.


مبادئ الليبرالية الجديدة

بدأ استخدام مصطلح الليبرالية الجديدة في منتصف الخمسينيات في إطار محاولات تطوير الليبرالية الكلاسيكية، لكن تبلور المصطلح بمعناه الحالي في نهاية السبعينيات. تدور بشكل أساسي حول قدرة الأسواق على تنظيم نفسها بنفسها، والحد الأدنى من التدخل الحكومي، ودعم القطاع الخاص، والتقشف المالي، والتركيز على مؤشرات الاقتصاد الكلي.أيضًا فللمؤسسات الدولية بشقّيها السياسي والاقتصادي دور كبير في تنظيم النظام العالمي ودعم حرية السوق و القطاع الخاص وإدارة الفوضى في النظام الدولي، «يقصد بالفوضى هنا عدم وجود سلطة عليا على الدول»، إضافة إلى العمل على خلق مصالح مشتركة للوقاية من الدخول في الصراعات. يعتبر هذا الفكر هو الحاكم لكلّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كما أن غالبية الاقتصادات الأوربية والغربية تدين به.من أبرز معتنقي هذه الأفكار تاريخيًا رئيس الوزراء البريطانية «مارجريت تاتشر» والتي مكنتها من ضبط وإصلاح الاقتصاد البريطاني، أيضًا يعدّ الرئيس الأمريكي ريجان أبرز الرؤساء المعتنقين لهذا الفكر.


مؤشرات النهاية

ظهر العديد من تجليات تداعي فكر الليبرالية الجديدة في الآونة الأخيرة، فمن ناحية الاقتصاد الكلي تواجه الأيديولوجية معادلة معقدة تتمثل في نمو متباطئ وتضخم منخفض وأسعار فائدة منخفضة، يتجلى ذلك في تحذيرات صندوق النقد الدولي المتكررة من أن الاقتصاد العالمي لم يعد بمقدوره العودة إلى نمو مستمر ومتوازن.فوفقًا لدراسة قام بها 3 باحثين اقتصاديين بصندوق النقد، فإن الليبرالية الجديدة قد بولغ في تقييمها، وأنها لم تتمكن من تحقيق النمو الاقتصادي المنشود بل ساهمت في تعميق عدم العدالة، حيث جعلت بعض الأثرياء أكثر ثراءً بشكل فج، يدعم هذا الطرح الإحصائيات التي تشير إلى أن 1 % من سكان العالم يملكون حوالي نصف ثرواته بينما خمس سكان العالم تقع ثرواتهم بين 10 و 100 دولار فقط إضافة إلى 383 مليون شخص تزيد ثروة الواحد منهم عن مئة ألف دولار، من بينهم 34 مليون مليونير.كما أشار تقرير منظمة التعاون الأوربية إلى أن حصة العمال البريطانيين من عوائد معدلات النمو في أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر لا يقتصر على العمال البريطانيين بل إن التقرير أشار إلى أن الحالة إما مشابهة أو أكثر سوءًا في عموم دول الغرب الرأسمالي.

خلصت دراسة صندوق النقد الدولي إلى أن الليبرالية الجديدة قد بولغ في تقييمها، وأنها لم تتمكن تحقيق النمو الاقتصادي المنشود بل ساهمت في تعميق عدم العدالة.

أما إجراءات التقشف المالي التي دائمًا ما تدعو إليها الليبرالية الجديدة، فبينما يصفها مؤيدو ومعتنقو الفكر الليبرالي بأنها «إصلاح للسقف بينما الشمس ساطعة» يقصدون بذلك الاستعداد للأزمات قبل وقوعها، فإن الدراسة السابق الإشارة إليها ترى أن الإجراءات التقشفية لها آثار سلبية ربما تفوق ما تحققه من إيجابيات خصوصًا فيما يتعلق بدور الدولة والنواحي الاجتماعية، ناهيك عن الآثار الاقتصادية السلبية المباشرة، ولعل أزمة اليونان وما أدت إليه سياسات التقشف من تفاقم للأزمة هو خير مثال على ذلك.أن تخرج مثل هذه الدراسة من صلب الليبرالية صندوق النقد الدولي هو أمر يدعو للتأمل، فيبدو أن الصندوق قد اعتاد في الآونة الأخيرة على التعارض بين سياساته وبين ما يفكر به باحثوه، حيث لا يزال الصندوق يفرض شروطه المتعلقة بالتقشف ودعم القطاع الخاص على حساب القطاع العام وتعويم العملة كشروط مسبقة للقروض التي يمنحها.على صعيد دور المؤسسات الدولية، تواجه تلك المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين اتهامات متعددة بعدم الفاعلية في أكثر من أزمة، ففي منطقة الشرق الأوسط وحدها جاء تدخل حلف الناتو تحت مظلة الأمم المتحدة وما خلَفه من نتائج سلبية جعلت ليبيا تسقط في معترك الحرب الأهلية، ناهيك عن سيطرة تنظيم داعش على أجزاء ليست بالهينة من الدولة، بينما لم يحرك المجتمع الدولي ساكنًا في الأزمة السورية رغم مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين؛ مما يجعل دور مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة موضع تساؤلات ليست باليسيرة.على الصعيد التنظيم الاقتصادي وتحقيق التكامل، فتواجه عملية التكامل سواء العالمي أو الإقليمي تحديات جسيمة، فبينما فشلت منظمة التجارة العالمية في تحقيق تقدم ملموس في لقاءاتها المتعددة، ولعل جولة الدوحة و ما شهدته من اختلافات بين الدول النامية من جهة والدول المتقدمة من جهة أخرى، إضافة إلى الخلافات بين الاتحاد الأوروبي من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى بشأن السياسات الزراعية وعدم التوصل إلى توافقات حقيقية لهذه الخلافات والاكتفاء ببعض المسكنات يعطي صورة عمّا تواجهه العولمة والتكامل العالمي من مشاكل و أخطار.

هناك العديد من المؤشرات التي تنذر بنهاية الليبرالية الجديدة سواء من ناحية الاقتصاد الكلي أو على صعيد التنظيم الاقتصادي وتحقيق التكامل.

يأتي ذلك في الوقت الذي يطرح فيه البعض فكرة أن التكامل الإقليمي ساهم في منع التقدم نحو تكامل إقليمي عالمي، حيث اكتفت بعض الدول بما حققت من تكامل فيما بينها وأصبحت أكثر تشددًا فيما يتعلق بالتكامل العالمي، بينما ما زال الليبراليون الجدد يرون أن التكامل الإقليمي هو خطوة نحو التكامل العالمي من باب أن التفاوض بين عدة كتل أسهل كثيرًا من التفاوض بين 162 دولةً عضوًا بمنظمة التجارة العالمية.أما التكامل الإقليمي فلم يخلُ بدوره من الأزمات، فمن ناحية فقد تعثرت عدة تجارب تكاملية في مهدها مع تشابه هياكل الإنتاج في الدول المتكاملة، ناهيك عن تمسك بعض الدول بإجراءاتها الحمائية لبعض السلع الإستراتيجية وتضمين ذلك في جداول استثناءات أتت على جوهر عملية التكامل، ومن ناحية أخرى يواجه النموذج الأكثر نجاحًا في التكامل الإقليمي؛ الاتحاد الأوروبي عدة أزمات متتالية لعل أبرزها الازمة المالية اليونانية وأشباح أزمات مماثلة في كل من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، إضافة إلى صاعقة الاستفتاء البريطاني والذي جاءت نتائجه داعمة للخروج من الاتحاد؛ مما قد يؤدي إلى تفكك الاتحاد أو خروج بعض الدول منه خصوصًا في ظل تزايد النزعة الشعبوية و الصعود اليميني، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية.أما الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الرغم من كونها قِبلة النظام الليبرالي وحارسه الأول، فإنها لم تتعدّ في جميع اتفاقاتها التجارية الخارجية مرحلة منطقة التجارة الحرة، «من المعروف أن التكامل الإقليمي يتكون من خمس مراحل رئيسية: منطقة تجارة حرة، اتحاد جمركي، سوق مشتركة، اتحاد نقدي، تكامل سياسات مالية ونقدية»، وهو أمر يدعو للتساؤل وربما التعجب. ومع ذلك فإن ظلال تراجع الفكر النيوليبرالي تلقي بظلالها على الانتخابات الأمريكية، حيث نجد أن كلا المرشحين؛ الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطي برني ساندرز اختلفا في كل شيء لكن اتفقا على عداوة النظام الاقتصادي الحالي والامتعاض من نتائج العولمة وإن كان لكل منهما زاويته المختلفة، حيث يرى ترامب أن التجارة الحرة تعطي الأمم الأخرى فرصة لسرقة عوائد الأمريكيين، كما أنها تجعل الشركات الأمريكية تنقل أعمالها إلى البلدان ذات العمالة الرخيصة؛ مما يؤثر سلبًا على معدلات البطالة والتشغيل بالولايات المتحدة. أما ساندرز فيرى أن العولمة تمكّن الشركات الكبرى من أن تزيد من أرباحها وتضاعفها على حساب حقوق العمال والموظفين الأمريكيين.ختامًا، لن يتمكن هذا التقرير من تغطية جميع أوجه تراجع أفكار الليبرالية الجديدة، كما أن الحديث ما زال مبكرًا عن بديل أيديولجي وفكري حقيقي قادر على مناوئة ناهيك عن إزاحة هذا الفكر، إلا أننا يمكننا أن نجزم بأن عودة دور فعال وقوي للدولة قادر على التعامل مع مشكلة عدم عدالة التوزيع أصبح أمرًا لازمًا ومتوقعًا.