بدايةً من مُنتصف ثمانينيات القرن الماضي إلى يومِنا هذا لم يغب براد بيت عن السينما عامًا وحدًا، بل كان يظهر أحيانًا في أربعة أفلام في العام الواحد، وبالطبع لا يخفى على أحد أهمية كثير من أفلامه في عالم السينما، وبسبب وجود كثير من الأفلام الجيدة، أصبح وجود براد بيت في أي عمل سببًا كافيًا لمشاهدته، وانتظاره بحماس. يكفي براد بيت وحده للفت الأنظار إلى العمل، ومن بعده يأتي ديفيد ليتش الذي يمتلك واحدة من أغرب قصص النجاح وأكثرها نُدرة.

ما حدث خلال الفيلم يجعلنا نُعيد النظر في كثير من الأمور، أولها أن المخرج استطاع أن يختار بعض الوجوه التي تجعلنا نقول بثقةٍ إنه لو اكتفى بها وأخرج براد بيت من الفيلم بأكمله، كان الفيلم سيكون مُمتعًا بدرجة كبيرة، وهنا نتحدث عن بريان تري هنري «ليمون»، وآرون جونسون «يوسفي». هذا غير كثير من تفاصيل الإخراج التي تُجبرنا على أن نتعامل مع ديفيد ليتش بجدية أكثر، وننتظر جديده وتطوراته.

اختيار الأسماء: قصة موجزة لكل بطل

قبل البدء في أحداث الفيلم يجب أن نتحدث عن أسماء الشخصيات، التي نرى أنها من التفاصيل المهمة التي استُعمِلت لتحريك الأحداث، وتغيير إيقاع الفيلم عن طريق الحس الكوميدي الخفيف الذي تُضفيه الأسماء على المشاهد، وتذكرنا هذه الأسماء كثيرًا بما فعله السيناريست المصري «محمود أبو زيد» في فيلم «البيضة والحجر»، ففي الفيلم لا نجد «أحمد، ومدحت، وخالد»، ولكننا نجد «مستطاع الطعزي، و سباخ التيبي، وتوالي جُنيح، نظنظ هانم»، وهنا يتحول كل اسم إلى دلالة في حد ذاته، وإلى أداة توقفك عندها لتُفكر، ولكني لا أرى أن «Bullet Train» يلعب هذه اللعبة للكوميديا وتخفيف حدة المشاهد في المقام الأول، وبالطبع سنجد أن لبعض الشخصيات نصيبًا من أسمائها.

نبدأ الفيلم ونتحرك خلال أحداثه مع براد بيت الذي قرر المؤلف زاك ألكويتش أن يُسميه «Ladybug»، في البداية نعرف أن هذا الاسم الذي يُشير إلى الخُنفساء الصغيرة مُرقطة الظهر وهو استعارة عن الحظ الجيد، والحظ الجيد هو أبعد شيء عن شخصية ليدي بج من مشهده الأول لمشهده الأخير، بل سنعرف بعد ذلك أن النقاط السوداء التي تُزين ظهر الخُنفساء، هي في ذاتها استعارة تُشير إلى أنها تحمل أحزان العالم فوق ظهرها. بعد براد بيت تظهر شخصية آرون جونسن، وبريان تيري هنري، وهما التوأم ليمون ويوسفي، وعلى الرغم من أنهما من القتلة المأجورين، ومن أننا نسمعهما يتحدثان بكل هدوء عن قتلهما أكثر من 15 شخصًا في عملية واحدة، فإننا نجد أن اسميهما بهذا القدر من البساطة المليئة بالسخرية، التي تجعل كل شخصية في الفيلم تتوقف للتأكد من أنهما يسميان كالفاكهة أم لا.

 ومن المثير للسخرية أيضًا أن المرأة المسؤولة عن عملية ليدي بج في الفيلم وهي ساندرا بولوك تُسمى «Maria Beetle» أي ماريا الخنفساء، أو الدعسوقة، وهذه المرأة هي نفسها من اختارت لبراد بيت اسمه. وأخيرًا لدينا اسم «White Death» أو الموت الأبيض، وهو اسم الممثل مايكل شانون. توجد بعض الأسماء الأخرى مثل الأمير والذئب والزعيم، ولكن في هذه الأسماء كثيرًا من تفاصيل أحداث الفيلم.

القطار الطلقة كمجاز عن السيناريو

بالنظر إلى السرعة التي تتلاحق بها أحداث الفيلم، سنرى أن الفيلم في حد ذاته هو قطار منطلق، أحداث سريعة متلاحقة، وسيناريو لا يهدأ اللهم إلا عشر دقائق أو أقل، لكن هذا لا يعني أن اسم الفيلم بعيد عن القطار الياباني السريع، فالفيلم بأكمله يقع في هذا القطار.

تبدأ أحداث الفيلم بعودة ليدي بج للعمل، بعد إجازة طويلة كان يعمل فيها على تحسينه مزاجه وحالته النفسية، وعلى زيادة تواصله مع ذاته، وبسبب أنه لم يعمل في نشاطات إجرامية منذ زمن، طلب ليدي بج من المؤسسة التي يعمل معها «مُهمة سهلة»، وهذا ما ستفعله المؤسسة بالفعل وهو مُهمة شديدة البساطة كانت في الأساس من نصيبِ كارفر لكنه أصيب بمرضٍ في معدته جعله يعتذر عن المهمة، ففكرت المؤسسة حينها في ليدي بج، ومهمته هي الدخول إلى القطار السريع، والبحث عن حقيبة أوراق على قبضتها مُلصق أزرق يُلصق في المطارات، بعد إيجاد هذه الحقيبة يجب عليه أن يأخذها وينزل من القطار في أسرع وقت، ولا ينتظر المحطة الأخيرة.

نعرف بعد ذلك أن هذه الحقيبة مليئة بالدولارات، وهي الفدية التي ستُدفع ليُرجع «الموت الأبيض» ابنه الذي خُطِفَ، وبالفعل يستأجر الموت الأبيض يوسفي وليمون، لهذه المهمة، وينجح الاثنان في استعادة الابن والرجوع بالحقيبة أيضًا وهي الحقيبة التي يجب على ليدي بج سرقتها، أما عن مُبرر الموت الأبيض في اختيار يوسفي وليمون، فهو أنهما نجحا بشكل كبير في عملية سابقة تُعرف بعملية «بوليفيا».

هكذا نجد أن العملية البسيطة دخل بها اثنان من المجرمين الكبار شديدي الخطر، وسنرى أيضًا «الذئب» وهو يصعد على متن القطار فجأة ويبدأ في مهاجمة ليدي بج، وفي حين أننا لا نعرف من هو الذئب ولا ليدي بج نفسه يعرفه، فإن الأحداث ستعرض لنا قبسات من الماضي لنتعرف على واحدٍ من أهم رجال العصابات في المكسيك. وستظهر على القطار أيضًا شخصية «The Hornet» التي تقوم بدورها «زازي بيتز»، وقد أرسلها أحدهم أيضًا لسرقة الحقيبة، لكنها لا تعرف شيئًا عن التفاصيل، لأنه تم توظيفها أون لاين، يمكن أن نقول إنها مُجرمة فري لانس.

على القطار أيضًا كارثة تتمثل في هيئة فتاة ملائكية صغيرة بريئة الملامح، تُسمى الأمير «Prince»، وهدفها الوحيد هو التخلص من «الموت الأبيض»، هذا الرجل العملاق الذي جاء من شمال روسيا، وقتل كل منافسيه، وتخلص من المنظمة الإجرامية الأقوى بعد التودد إلى رئيسها والتقرب منه، وفي النهاية أصبح صاحب المنظمة الإجرامية الأخطر في العالم، وحتى تقوم هذه الفتاة بقتل الموت الأبيض، قامت بتدبير خُطة مُحكمة، بداية من دفع واتارو ابن «The Elder» من سطح المنزل، وبالتالي تم وضعه في غرفة الطوارئ في أحد المستشفيات، ثم قامت بتوظيف «The Elder» لقتلها في القطار، وكان هدفها هو أن تدفعه بعد ذلك لخيانة الموت الأبيض ومحاولة قتله، وحينما يقبض عليه الموت الأبيض، ويقتله بسلاحه كما يفعل دائمًا، تكون هي قد وضعت مُتفجرات داخل السلاح، وبالتالي سيموت الموت الأبيض بُمجرد أن يضغط على الزناد، ولتتأكد أن كل شيء سيسير في الاتجاه الصحيح، وضعت الأمير رجلًا على غرفة الصبي الصغير في المستشفى حتى يقتله إذا لم ينفذ والده كلامها.. وأخيرًا لدينا نوع من الثعابين السامة الذي تم سرقته من إحدى الحدائق، وقد أخذته «The Hornet» معها على متن القطار.

شخصيات كثيرة شديدة التفرد

من هذه النقطة يمكنك أن تتخيل كيف ستنقلب هذه المُهمة البسيطة إلى كارثة، فالحقيبة التي يجب أن يأخذها ليدي بج ويخرج مُسرعًا من القطار، أصبحت مُهمة أكثر من شخص، وكلهم من الكبار في عالم الجريمة، لكن على الرغم من هذه الجدية، فإن الفيلم استطاع أن يحافظ على كونه فيلمًا، ممتعًا، ومسليًا، وبطابعه الكوميدي الذي رافق الأحداث جميعًا، وعلى الرغم من تعدد شخصيات المجرمين فإن هناك تفردًا شديدًا لكل شخصية، فلدينا شخصية براد بيت، الرجل الهادئ الذي يحاول ألا يقع في المشاكل، الذي تأثر بشكلٍ كبير بحكم التطوير الذاتي والعلاج النفسي، ويحاول أن يطبق ما تعلمه في جلسات العلاج في العالم الوردي، في خضم جعجعة عالم الجريمة.

 ولدينا أيضًا هذه الكيمياء المذهلة بين شخصية ليمون ويوسفي، وعلى الرغم من الاختلاف الشديد بينهم في الشكل، بداية من اللون والحجم فإنهما يُلقبان بالتوأم، وبسبب التناغم السلس الذي نراه بينهما طوال الأحداث، نجد أننا نتقبل بسهولة أنهما توأم، بل ويمكن القول إنهما كانا ممتعين للدرجة التي تجعلهما يأخذان الفيلم بأكمله من براد بيت، أو بتعبيرٍ أقل حدة؛ الذي رأيناه منهما في هذا الفيلم، يجعلنا نريد أن نراهما معًا في أعمال أخرى، أو ربما في عالمٍ مشتق من عالم الفيلم، ربما تفاصيل أكثر عن حياتهما، أو عملياتهم السابقة، وبالمناسبة يرى براد بيت أنه يجب أن يتم عمل فيلم ليوسفي وليمون.

المهم أن عالم المجرمين على هذا القطار شديد التنوع، فلدينا توأم يثق في قدراته ويريد أن ينهي مُهمته بهدوء، ولدينا ليدي بج الذي يبحث عن السلام، في عالمٍ ليس له فيه إلا الحظ السيئ، ولدينا «الأمير» التي تتحرك بدافع الانتقام، ولدينا الزعيم الذي يحاول أن يبقي ابنه سالمًا، وخلال كل هذه القصص والشخصيات، تنطلق الأحداث وتتشابك في أسلوب شبيه بالأسلوب السردي لـ«جاي ريتشي». أحداث الفيلم بأكملها تحدث على متن القطار، لكن مشاهد «الفلاش باك» التي نعرف فيها قصص الأبطال، وتبريرات بعض المشاهد التي رأيناها تحدث خارج القطار، وعلى الرغم من وجود عدد كبير للشخصيات في الفيلم، فإننا عرفنا تفاصيل كل شخصية، والماضي الذي شكلها وكون دوافعها، بل وصل الأمر إلى أننا عرفنا تفاصيل خلفية زجاجة من الماء كانت معنا خلال الأحداث.

القطار كعالم مصغر شديد التنوع

يتكون القطار من 16 عربة، 10 عربات من الفئة الاقتصادية، و6 عربات من فئة الدرجة الأولى. ينطلق القطار بسرعة كبيرة، ويتوقف في كل محطة دقيقة واحدة فقط، في بداية الفيلم ستظن أن المخرج قد حصر نفسه في مكانٍ ضيق، مما سيشكل تحديًا كبيرًا له، خصوصًا وأن مُدة الفيلم تتجاوز الساعتين، لكن سنكتشف خلال الفيلم أن المُخرج ديفيد ليتش استغل القطار بأفضل طريقة مُمكنة، وذلك عن طريق جعل كل عربة مُتميزة في ذاتها، كل عربة لها ديكورها الخاص، وألوانها الخاصة، وأحيانًا شخصياتها قوانينها الخاصة -كعربة الصمت على سبيل المثال- كما أن كل عربة بها بعض الأدوات والأسلحة التي ستغير تفاصيل المشهد ومنطقه، والاحتمالات التي من الممكن أن تحدث، بسبب هذه الطريقة أصبحت كل عربة «لوكيشن تصوير» مختلفة، أصبح القطار فجأة يحمل أكثر من عشرة أماكن مختلفة، أحيانًا نراه باللون الذهبي، وأحيانًا أخضر، وأحيانًا أزرق، وأحيانًا بشكلٍ كرتوني، كمان كان يتم استغلال الضوء والأماكن الخارجية، لتعزيز الصورة السينمائية داخل القطار نفسه، كما حدث مع شروق الشمس؛ حتى عندما دخل ليدي بج إلى الحمام كان منبهرًا بالتكنولوجيا اليابانية وطريقة صناعتها للحمامات الحديثة، ومن داخل الحمام استطاع براد بيت أن يجعل تفاصيله أدوات كوميديا من الصعب أن نتخيل أنها ستخرج من هنا.

ديفيد ليتش: دوبلير براد بيت ومخرجه

كما قُلنا تُعتبر قصة المخرج ديفيد ليتش من قصص النجاح النادرة، فقد دخل ديفيد ليتش إلى أضواء هوليوود «كدوبلير»، وكان ليتش يؤدي المشاهد الخطيرة بدلًا من براد بيت أكثر من غيره، وذلك حيث لعب دوره في خمسة أفلام، لكن مع مرور الوقت أصبح ليتش ينجذب لأكثر من هذا، وكما يقول هو «كُنت أضع عيني على كُرسي الإخراج»، كان ديفيد ليتش يُحب الإخراج والعمل مع الممثلين، وقد وقع أسيرًا للقصص، أحب الحكاية وشكلها وطريقة روايتها، لذلك وكما يقول براد بيت «اختفى وعاد مُخرجًا»، وقد أخرج ديفيد ليتش أفلام مهمة قبل هذا الفيلم مثل «DeadPool» الجزء الثاني، وفيلم «Atomic Blonde»، كما شارك في إخراج «John Wick» الجزء الأول مع المخرج «تشاد ستاهلسكي».

لكن على الرغم من إخراج ديفيد ليتش للعديد من الأفلام الجيدة، وعلى الرغم من الإخراج الذي لا يختلف عليه أحد في فيلمه الأخير، فإنه لا يمكن أن نقول إن الأسلوب الإخراجي لديفيد ليتش هو أسلوبه الخاص بشكلٍ كامل، خلال مشاهدة الفيلم ستشعر طوال الوقت أنك داخل عالم من عوالم «كوينتين تارانتينو»، سواءً في مشاهد الأكشن، أو طريقة التصوير، أو بناء الشخصيات، على الرغم من أن بناء الشخصيات عند ديفيد ليتش تفتقد للعمق الذي نجده عند تارانتينو، هذا غير المشاهد الدموي والعنيفة على طريقة تارانتينو تمامًا.

نلاحظ أيضًا أن ليتش متأثر بالحوار الذي يكتبه تارانتينو، وبالجمل العبثية البعيدة عن الأحداث، وفي الوقت نفسه فهي تنذر بكارثة قريبة، هذا غير استغلال نظرية القنبلة لألفريد هيتشكوك في العديد من المشاهد، مجرد حوار بسيط يحدث، لكننا نعرف أن هناك قنبلة ستنفجر في أي لحظة.

في النهاية لا يمكن أن نقول إن المخرج يسرق من غيره، الأمر في الأخير تأثُر، وخير من يفعل هذا هو كوينتين تارانتينو نفسه، فقد اتُهِمَ بالسرقة مراتٍ ومرات، لكن نرى أنه مثل ديفيد ليتش فالاثنان قدما كثيرًا في الإخراج، ولهما كثير من الأشياء المميزة في أسلوبهما، وبسبب ما نراه في الفيلم كمجمل يجعلنا لا نستطيع أن نقول إن الأسلوب مسروق، السرقة المباشرة كانت ستجعل الفيلم مبتذلًا بشكلٍ كبير، وهذا أبعد ما يكون عن الفيلم.

لا يقدم الفيلم أفكارًا عميقة، ولا فلسفة متشابكة تحتاج أن ينبش الواحدُ خلفها كثيرًا. الفيلم هو عمل ممتع في المقام الأول، ولا يقدم نفسه كأكثر من ذلك. وبالمناسبة يوجد العديد من المبالغات خلال الفيلم، بل وبعض المشاهد التي يصعب تصديقها، مثل المشاهد التي تعامل فيها المخرج مع فيزياء القطار السريع كأنه دراجة، أو كأنه يسير بسرعة كيلو في الساعة. لكن على أي حال يقدم الفيلم وجبة مكثفة من المتعة والإثارة، والكوميديا المقبولة، والتمثيل الأكثر من جيد، ومشاهد الأكشن المعاصرة في شكلها وتصميمها، التي تمشي بخفة على الموسيقى في الفيلم وتشكلها.