إطلاق نار وتمرد في ثكنات للجيش، تزامن مع تلك النيران وجود رئيس بوركينا فاسو روش كابوري في المعسكر. وجود الرئيس قيل إنه كان تزامنًا، والأرجح أن الرئيس قد احتجز في المعسكر بعد أن داهمه عسكريون في منزله وأمطروه بالرصاص. وأعقب النيران إعلان مجموعة عسكرية انتزاعهم للسلطة. البيان العسكري أعلن حل الحكومة والبرلمان، والإغلاق الكامل لحدود البلاد. وأردف البيان أن البلاد سوف تعود إلى النظام الدستوري بعد مدةٍ، وصفها المتحدث، بالمعقولة، دون تحديد أي إطار زمني.

بيان الانقلاب ظهر بتوقيع الحركة الوطنية للحماية والاستعادة، ورئيسها الكولونيل بول هنري. الحركة التي بدأت قبل الانقلاب بيوم تمردًا في كافة قطاعات الجيش وثكناتها في مختلف أنحاء البلاد للمطالبة بإقالة كبار مسئولي الجيش. كما طالبوا بتخصيص موارد إضافية لمواجهة الجهاديين. تلك الاحتجاجات ترافق معها انتشار أنباء عن وجود مروحية عسكرية تحلق فوق منزل الرئيس. انتشر الخبر عبر ألسنة المواطنين وجهًا لوجه، لكن لم يتم التحقق من صحتها بسبب قطع خدمة الإنترنت عن كافة الهواتف المحمولة منذ الأحد 23 يناير/ كانون الثاني 2022.

حالة اللا يقين وصلت لدرجة أن 10 جنود ملثمين انتشروا حول مقر تلفزيون بوركينا فاسو الرسمي، لكن لم يستطع أحد أن يسألهم، وحتى الصحف العالمية لم تستطع أن تصفهم، هل هم جنود نظاميون جاءوا لحماية مقر التلفزيون، أم مشاركون في الانقلاب وجاءوا لفرض السيطرة عليه.

وبمجرد أن صدر البيان الرسمي، أدرك العالم حقيقة الضباط العشرة، وحقيقة أن ما يحدث هو انقلاب عسكري. تبادرت التنديدات الدولية للانقلاب من قبل الأمم المتحدة ومختلف دول العالم. لكن تلك الإدانات شديدة اللهجة لم تغير شيئًا، كما لم تغير شيئًا من قبل في وباء الانقلابات المصابة به أفريقيا عبر تاريخها، وبوركينا فاسو التي تشهد انقلابها التاسع في قرابة 60 عامًا.

أعلى معدل انقلابات

معدل الانقلابات في بوركينا فاسو أعلى معدل انقلاب في كافة الدول الأفريقية. ما يعني أن الدولة تعيش حالة شديدة التعقيد من العلاقة بين الأطراف الفاعلة في العملية السياسية. كذلك يكشف كل انقلاب عن مدى تغول القيادات العسكرية في الحكم، وتأثيرها المباشر على موازين القوى في داخل البلاد.

في يناير/ كانون الثاني عام 1966 شعر المواطنون بالاستياء من حكم ياميوجو، رئيس حزب التجمع الديموقراطي، ورئيس البلاد طيلة 5 سنوات. انفجرت الأوضاع حين وضعت حكومته خطةً للتقشف المالي، فدعا اتحاد العمال لسلسلة من الإضرابات. لم يستطع الرجل احتواء الاحتجاجات فتدخل الجيش للإطاحة به وتولى الجنرال أبو بكر سانجولي الرئاسة.

حكم الجنرال البلاد لمدة 14 عامًا، لكن في عام 1980 أصاب الجفاف البلاد، خسر المزارعون كامل محاصيلهم. تزامن ذلك مع إضراب المُدرسين اعتراضًا على قرارات تعسفية صدرت بحق مجموعة من زملائهم. وتصادف إضراب آخرين بسبب انتشار الفساد. تجمعت كرة الثلج ولم يستطع الجنرال أن يكبحها عن الازدياد، فتدخلت اللجنة العسكرية للتغيير، وأعلن العقيد سايي زيربو الانقلاب وتولي السلطة.

عامان فقط من انقلاب العقيد عصفت أزمة داخلية باللجنة العسكرية للتغيير، فحسمها توماس سانكارا بالانقلاب على رفيقه سايي. الانقلاب مهد وصول الرئاسة لطبيب جان أويدراجوا. عام واحد فحسب من وصول الطبيب للسلطة، ومع افتقاره للخبرة السياسية، عُزل من الحكم بتهمة خدمة المصالح الأجنبية. ولم يكن مفاجئًا أن من تولى بعده هو توماس سانكارا. سانكارا هو من غير اسم البلاد من فولتا العليا، إلى بوركينا فاسو، وتعني بلد الرجال المستقيمين.

الخميس الأسود

عام 1987 عاشت البلاد خميسها الأسود، فاندلعت مواجهات دامية بين مؤيدين للحكومة ومعارضين لها. انتهت المواجهات بمقتل سانكارا، ونجاح المستشار بليز كومباري في تحقيق انقلابه والوصول للسلطة. كومباري حل المجلس الثوري، وأعلن حظر التجوال في كافة أرجاء البلاد.

حكم كومباري 27 عامًا، لكنه في 2014 أراد تعديل الدستور كي يُسمح له بولاية ثالثة. أعلنت المعارضة والنقابات العمالية العصيان المدني، واتسعت دائرة الاحتجاجات فتدخل الجيش. هيئة الأركان العامة للجيش أعلنت حل الحكومة والبرلمان ونصّبت هيئة لتسيير الأعمال، فاضطر كومباري لتقديم استقالته.

بعد عام من الاستقالة، واقتراب انتهاء المرحلة الانتقالية، رفضت لجنة الانتخابات أوراقًا لمرشحين كانوا مقربين من كومباري. وطالبت اللجنة الوطنية للمصالحة بضرورة حل فرقة الحرس الرئاسي التي عملت في كومباري. يومان فقط من تلك المطالبة، اقتحمت قوات الحرس اجتماع الحكومة في مقر القصر الجمهوري واحتجزت الرئيس الانتقالي ورئيس الحكومة، وعُين جلبرت ديانديري رئيسًا جديدًا لتسيير البلاد.

ثم آلت الأمور إلى كابوري لكنها أخذت في التدهور، وهذه المرة طال التدهور الجيش نفسه. فقد أقال الرجل عددًا من أبرز القادة العسكريين، وعلى رأسهم القائد العام للجيش. أدت تلك الحركة إلى ضعف في سلسلة القيادات الجديدة، تجلى ذلك الضعف في هجوم مسلحين على ثكنة عسكرية وقتل عشرات رجال الأمن، في غياب واضح للدعم اللوجيستي، وغياب التدريبات لرفع كفاءة الجنود.

قائد الانقلاب صُنع في فرنسا

لكن انقلاب هذه المرة يبدو أنه يمثل تهديدًا للنفوذ الفرنسي في بوركينا فاسو بصورة كبيرة. وهو ما ظهر في بيان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أدان الانقلاب، وأعلن أن توقيته خطير في الوقت الذي يجب التركيز فيه على محاربة التطرف الإسلامي.

التصريح الفرنسي قد يبدو غريبًا خاصة وأن قائد الانقلاب الجديد شاب له شعبية بين النخبة العسكرية الفرنسية. لأن بول هنري دامبيا، أكمل تعليمه في فرنسا على غرار غالب العسكريين الأفارقة. دامبيا تخرج من المدرسة العسكرية في باريس، وحصل على ماجستير في علم الإجرام من باريس أيضًا، ونال من فرنسا كذلك شهادة خبير دفاعي في الإدارة والقيادة الإستراتيجية.

بكل تلك الشهادات والخبرة حين عاد دامبيا إلى بلده كان شهيرًا بالفعل، وتولى قيادة الحرب على الإرهاب في الساحل. وازداد نجمه بزوغًا حين انضم إلى الحرس الرئاسي للرئيس السابق كومباري. ثم ترقى إلى قيادة المنطقة العسكرية الثالثة التي تغطي العاصمة. كما نشر دامبيا كتابًا عنوانه جيوش غرب أفريقيا والإرهاب في يونيو/ حزيران 2021.

تلقي دامبيا تعليمه في فرنسا واحترامه الشديد للقيادة الفرنسية يجعل من غير المنطقي تحدث ماكرون بلهجة شديدة عند رفض الانقلاب، على عكس عادة فرنسا في مباركة العديد من الانقلابات في القارة السمراء. لكن من الواضح أن ماكرون يوجه خطابه للناخبين والمعارضين في الداخل الفرنسي، فهو لا يريد أي اضطرابات مع بقاء شهور قليلة على الانتخابات الرئاسية. ولهذا فإن توقيت الانقلاب قد يكون هو الدافع وراء الذعر الفرنسي، كما أن للانقلاب خطورة من جهة أخرى.

القوات لا يجب أن تتقدم

خطورة الانقلاب أنه قد يؤدي عدم الاستقرار الناتج عن الانقلاب إلى تهديد عملية بركان الفرنسية المستمرة في منطقة الساحل الأفريقي منذ سنوات. فالانقلاب يشكل مشكلة لوجيستية للعملية الفرنسية كما يرى الجنرال دومينيك ترينكوان، الرئيس السابق للبعثة العسكرية الفرنسية لدى الأمم المتحدة. المشكلة تأتي من أن قوافل تموين القوات الفرنسية تأتي من قاعدة جاو في شمال مالي، كذلك تأتي من ميانكا في شمال النيجر، وفي الحالين تمر عبر بوركينا فاسو.

لذلك ففرنسا مضطرة للحفاظ على العلاقة الطيبة مع السلطات التي تحكم البلاد أيًا كانت. لهذا لا يتوقع أن تساهم قوات السيف الضالع في حماية الرئيس المخلوع كما فعلت عام 2014 حين نقلت بلير كومباري، الرئيس الذي أطيح به عام 2014، إلى بر الأمان. خصوصًا أن الوجود العسكري في بوركينا فاسو يبدو بسيطًا، يتآلف من 350 جنديًا فحسب. فهي قوة سرية في المقام الأول، وتعمل في بعض المهام الخاصة التي لا تستدعي اشتباكًا عنيفًا.

ولا تستطيع فرنسا أن تلعب دور شرطي البلد بتلك القوة الضئيلة، إلا إذا حصلت باريس على ضوء أخضر أوروبي بالتصرف لضمان بقاء كل شيء تحت السيطرة الفرنسية، من ثم السيطرة الأوروبية. خصوصًا أن أوروبا تعاني من تدهور الأوضاع في أفريقيا خصوصًا مع التدهور الحاصل في مالي، واقتراب سيطرة النفوذ الروسي على مالي. لدرجة إعلان السويد أنها قررت سحب قواتها من عملية تاكوبا الأوروبية، المؤلفة من 800 جندي يقومون بما يقارب عملية بركان الفرنسية.

غير أن اقتراب الانتخابات الفرنسية، متبقٍ عليها أقل من 100 يوم، يجعل من الصعب على أي قيادة سياسية اتخاذ قرارات مصيرية كإنهاء أو تجميد أو استمرار عملية عسكرية في وسط منطقة مضطربة. والأقرب للواقع أن إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، سيحرص جدًا على ألا تحدث خسائر بشرية بين صفوف قواته، ما قد يعني أن القوات لن تبارح مكانها.