أينما حل الظلم فنحن الكتّاب مسئولون عنه.

لم تصلنا هذه الجملة المنسوبة للأديب الفرنسي «جان بول سارتر» من خلال عمل فني لأديب مصري آخر، خصوصا وأننا نمر بواحدة من أشد الفترات ظلاما في تاريخ مصر الحديث، ولكنها وبشكل مفاجئ للكثيرين وصلت على لسان أحد أعضاء فريق «كايروكي» الغنائي المصري.

كتب «أمير عيد»، مغني الفرقة الرئيسي، هذا الاقتباس على صفحته الرسمية على فيسبوك قبل أن يتبعها بذكره لموقف الكتاب ومؤلفي الأغاني والأفلام المصريين الذين قرروا نزع السياسة تماما من كافة أعمالهم. وبعد ذكره لهذه المقولة بعشرين يوما صدر ألبوم الفريق الجديد بعنوان «نقطة بيضا»، صدر الألبوم على الإنترنت فقط ولم يتم السماح له بالصدور بشكله الحقيقي في الأسواق بعد أن رفضت الهيئة العامة للرقابة على المصنفات الفنية بعضا من أغاني الألبوم.

كان واضحا للجميع أن كايروكي قرروا المخاطرة بتقديم محتوى فني سياسي حتى ولو كلفهم ذلك منع خروج هذا المحتوى للأسواق. لكن الشيء الأهم هو ما أظهره فريق كايروكي من انحياز حقيقي لجمهورهم من الشباب، انحياز بدا صارخا، وواضحا في الدفاع عن أفكارهم، لا يخجل من سب أعدائهم في بعض الأحيان.


هدنة: آن الأوان أحارب عشان أعيش في سلام

أول ملامح انحياز كايروكي لجيلهم ظهرت واضحة من خلال أغنية «هدنة» التي تتحدث بشكل واضح عن فترة هدنة بين شباب كايروكي وبين مجتمعهم. هدنة لابد وأن تنتهي بصدام، قريب جدا.

كلمات الأغنية التي كتبها أمير عيد تعبر بشكل واضح عن حالة «الاغتراب» التي يعانيها جيله داخل مصر الآن، اغتراب لن يصلح معه الإنكار أو الاستسلام. تبدو إذن جملتا «انكسار في شكل انتظار» و«استسلام في شكل سلام» من بين أكثر الجمل تعبيراً عن حالة الشباب في زمن ما بعد انتكاس الثورة.

تحمل الأغنية أيضا فكرة تسيطر تماما على عقول شباب كايروكي وهي أن الجميع شارك في إجهاض حلم جيلهم، يبدو هذا جليا في جملة «الكل شارك في الجريمة، الكل داس على الزناد»، نرى هنا مرة أخرى كلمات عنيفة للغاية «جريمة» و«زناد» لتضاف لكلمات أخرى على شاكلة «طبول الحرب»، «يا انتصار يا انتحار»، لتبدو الأغنية كنشيد حرب جيل يرى نفسه وحيدا في معركة ممتدة ضد الاستعباد، محاصرا بالكلاب من كل جانب.

وبين نصف أول يحمل إيقاعا هادئا على مستوى الموسيقى، نشهد تصاعدا قبل الكوبليه الأخير يصاحبه عزف ترومبيت من عازف الفرقة «شريف هواري»، ترومبيت يحمل إيقاعا ينذر ببداية معركة، ليختتم أمير عيد الأغنية بكلمات «آن الأوان الحقيقة تنفجر، في وش مجتمع مريض بيحتضر».


السكة شمال في شمال: خدلك جوب وإزازة وابعد عن السياسة

قد تكون الأغنية الأكثر انتشاراً بمقاييس مواقع التواصل الاجتماعي، لحنا وكلمات يمكن تصنيفها على أنها شعبية، وإن كانت أقرب للمزاج الشعبي في التسعينات عن المزاج الشعبي في زمن المهرجانات الحالي. لا أعرف بشكل واضح إن كان الربط مقصودا، ولكن الأغنية تبدو قريبة جدا من جو تسعينات مبارك، سخرية جنائزية من ضرورة الابتعاد عن السياسة، جمل على شاكلة واطي بقى عالي، رخيص بقى غالي، وفي الخلفية موسيقى شعبية تحت قيادة عازف الفريق شريف مصطفى على الأورغ يصاحبه زغاريد وأصوات متكررة لسيدات تذكرنا بتلك المستخدمة في أغاني حسام حسني.

الأغنية تبدو كجزء ثان لأغنية الفريق في ألبوم 2014 بعنوان «السكة شمال»، ولكن بينما كان «اليمين مش شغال» في 2014 تتحول الجملة الافتتاحية في 2017 إلى «اليمين اختفى».

تحمل الأغنية في كافة طياتها سخرية من كل ثوابت العصر الحالي، بدءاً من تجنب السياسة، مرورا بحكم العواجيز أصحاب الشعر المصبوغ، ونهاية بسخرية من الذات حينما تتكرر جمل على شاكلة «أنت ملكش عازة، أخرك دمعة وجنازة». يستمر أمير عيد في التراقص على تلك الأنغام الجنائزية، تراقص لا يبعث على السعادة بقدر ما يبعث على الرثاء.


الكيف: يخربيتك يا كيف ويخربيت معرفتك

الأغنية الأنجح حتى الآن في الألبوم بمقياس مشاهدات موقع يوتيوب، الانحياز هنا لجمهور جديد تعرف على كايروكي من خلال تعاونهم السابق مع المغني الشعبي المخضرم «عبد الباسط حمودة» في أغنية غريب في بلاد غريبة، ليأتي التعاون هذه المرة مع مغن شعبي من الأجيال اللاحقة لعبد الباسط، ونقصد هنا بالطبع «طارق الشيخ».

اشتهر طارق الشيخ في نهاية التسعينات وأوائل الألفية الثانية بمجموعة من الأغاني مثل «دقيقة حداد»، «شكلك ايه»، «إجرح». لطارق جمهور كبير جدا من محبي الفن الشعبي المغضوب عليه رسميا، الأمر تاريخي، فبينما كانت أغاني «عدوية» تحقق مبيعات ضخمة في الثمانينات كانت ممنوعة من البث على أي محطة تليفزيون أو إذاعة حكومية.

يبدو إذن أن تعاون كايروكي مع فنانين بحجم طارق الشيخ يوفر تلاقي ناجح للغاية بين مجموعات قد تبدو متناقضة من الشباب المصري، هذا النجاح تتم ترجمته في تأثير متبادل بين الطرفين، ويبدو هذا التأثير واضحا للغاية في كلمات ولحن الكيف.

فبينما تبدو الكلمات التي كتبها أمير عيد أقرب للغة شعبيات الشيخ تبدو المعاني أقرب لمقصد كايروكي، بينما نرى لحنا يحمل خليطا مميزا بين الأورج والأكورديون من شريف مصطفي.

التخوف الوحيد من هذا التعاون هو أن يتحول لمجرد إدعاء آخر للجو الشعبي، بنية تحويله لسلعة مناسبة لخريجي المدارس الدولية، هذا الإدعاء التسليعي الذي نشهده بشكل مستمر مؤخراً. ولكنه يبدو حتى الآن بعيدا عن أعضاء فريق كايروكي الذي يبدو في بعض الأحيان أكثر ارتياحاً وهو يؤدي اللون الشعبي، وأعتقد أن هذا ما ضمن لهذه الأغنية نجاحا معتبرا في تكاتك وميكروباصات مصر.


السواد يسيطر على المشهد

يحتوى الألبوم على 7 أغان أخرى من بينها أغنية «نقطة بيضا» التي تم إطلاقها في شهر مايو الماضي، بالإضافة لإعادة إطلاق لأغنية «آخر أغنية» التي تبدو ذات دلالة حالية بكلماتها «لو دي آخر أغنية ليا، هفضل أغني عن الحرية». من بين هذه الأغاني تظهر أغنية وحيدة لتحمل بعضاً من السعادة وهى أغنية «اضحك» للشاعرة دعاء عبد الوهاب، بينما يسيطر جواً من السواد على باقي الألبوم، سواد يبدو ظاهراً حتى في أزياء الفرقة في كافة الأغاني المصورة.

لا يعلم كثيرون أن فريق كايروكي قد تشكل منذ عام 2003، ولكن الجميع قد تعرف عليهم بشكل حقيقي عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، لا ينسى جميع من شاركوا في هذه الثورة -وبغض النظر عن أذواقهم الموسيقية- المرة الأولى التي استمعوا فيها لأغنية «صوت الحرية»، ارتبطت كلمات كايروكي وصوتهم بالثورة من اللحظة الأولى، واستمر الوضع هكذا في فترة حكم المجلس العسكري بأغان على شاكلة «إثبت مكانك».

مرت الأيام وانتكست الثورة وانكسر جيلها، تغيرت مواقف كثيرة فشاهدنا أعضاء فريق بلاك تيما مثلا وهم يغنون في افتتاح مؤتمر شباب الدولة، ولكن يبدو أن أعضاء كايروكي قد قرروا ألا يخذلوا جمهورهم، وقرروا أن ينحازوا لدولتهم الافتراضية، حتى لو كان ذلك على الإنترنت.