لقد ثَبَتَ أن الأشياء لا يمكن أن تكون غيرَ ما هي عليه؛ وذلك لأن كل شيءٍ إذ صُنِعَ لغايةٍ كان كل شيءٍ لأصلح غايةٍ بحكم الضرورة، فلاحظوا أن الأنوف خُلِقَت لوضع نظاراتٍ؛ ولذا فإن لدينا نظارات، وأنَّ السيقان خُلِقَت لِتُسَرول؛ لذا فإنّ لدينا سروايل. ومن ثَمَّ كان من الهراء قول: إنَّ كل شيءٍ حسن، بل يجب القول: إنه على أحسن ما يكون، في أفضل العوالم الممكنة.
بنغلوس: أحد أبطال رواية «كَنديد».

كان الدّافعُ غير المباشر لإشهار «فولتير» سلاح قلمه في وجه «ليبنتز» في روايته «كَنديد»، دفاع الأخير عن المذهب التفاؤلي في كتابه Monadology الذي اختصر جوهره بقوله: «كل شيء في هذا العالم سيسير إلى الأفضل؛ لأنه أفضل العوالم الممكنة».

أمّا دافعه المباشر، فكانت حرب السنوات السبع التي وقعت في أوروبا بين عامي 1756م و1763، وزلزال لشبونة عام 1755م، الذي جعل عاليها سافلها، وتوفي خلاله 100 ألف إنسان.

سخَّرَ «فولتير» شخصيات جدَلية عدّة في روايته لطرح أفكاره الهجومية، بحسٍ ساخر طاغٍ على فصولها الثلاثين: فها هو «بَنغَلوس» يرتدي حُلّة «ليبنتز» الفلسفية، و«كَنديد» الساذج في بداياته، اليقظ في الختام، يرتدي حُلة «فولتير»، ويقضم ثمرة تجاربه، وها هو «مارتن» العالِم الزاهد المتشائم، الذي يُجسِّد كل يأسٍ ولا مبالاة فينا، وها هي الآنسة «كونيغوند» الجميلة، فردوس «كَنديد» الضائع.

كَنديد يُطرَد من فِردوسه الأول

ويمرُّ السيد البارون بجانب الحاجز، ويشاهد هذه العلة وهذا المعلول، فيطرد كَنديد من القصر، راكلًا إياه من الخلف بشدة، ويغمى على كونيغوند، ويستحوذ الذعر على الجميع في أجمل ما يمكن أن يكون من القصور، وأبهج ما يمكن أن يشاد منها.

في يومٍ ما وجد كَنديد نفسه صديقًا للعراء؛ بعد أن دفع ثمن قبلته للآنسة كونيغوند الحسناء، بعدما طرده البارون صاحب قصر «ثَندِر تِن ترنك»، راكلًا إياه من الخلف بشدة.

ينتهي به الحال بقيود حديديّة في قدميه، ثم يُقاد إلى معسكر البلغار، وساحات معارك حرب السبع سنوات، فإمّا أن يَقتل وإما أن يُقتَل، وإمّا أن يبقر بطون الآنسات الصغيرات بعد اغتصابهن، وإمّا أن يُبقَر بطنه، ومع اختياره البقاء حيًا يأخذ مُرددًا تعاليم مُعلِّمه الأول العزيز بنغلوس، فيقول:

لا معلول بلا علة، وكل متسلسلٍ بحكم الضرورة، وكان لا بدّ من طردي من عند الآنسة كونيغوند، ولا بدّ من جلدي، ومن طلب خبزي حتى أكسبه، وما كان هذا ليقع على وجهٍ آخر، وكل شيءٍ حسن.

يحطُّ به الترحال في مدينة لشبونة، فيستقبله زلزالها المدمر، ويرى من نجا وأسكت ضميره ليستغل موت الناس؛ لسرقة منازلهم، وسَوّق الناجين ليكونوا عبيدًا للبيع. ومع هذا وبعد ومضة صغيرة خافتة من الشك بتعاليم بنغلوس، يمضي كَنديد مُستسلمًا لرسالة معلمه الأول بأن هذا العالم هو «أحسن العوالم الممكنة».

كَنديد يجدُ فِردوسًا آخر

بعد ترحال طويل في أوروبا اختبر فيه صنوف العذاب، يصل إلى مدينة إلدورادو البيرويَّة (مدينة مُتَخيّلة)، فيرى أولادها يرتدون الإستبرق، ويلعبون بأقراص من الذهب والياقوت والزمرد. وهناك يُعتَبر حساء النَسر والببغاء، والحلوى الفاخرة، أطعمةً حقيرةً فيها لا تُقدَّم سوى للفقراء.

لا وجود لدار قضاء في إلدورادو؛ فلا مرافعات ولا خصومات فيها، ولا وجود للسجون، والناس يعبدون إلهًا واحدًا بلا وسطاء. أمّا دار العلوم فهي الأكثر ازدهارًا.

مع ذلك يعزم كَنديد مع خادمه الأمين «كَكنبو» مغادرة إلدورادو؛ خشيةً من أن يغدو مساويًا لأي إنسان آخر، وأن تقتله الحياة الرتيبة هناك، فضلًا عن رغبته بالآنسة كونيغوند الجذّابة، وطمعه بالأموال التي أخذها من زعيم إلدورادو، والتي تجعله أغنى من ملوك إسبانيا وإيطاليا وألمانيا.

كَنديد في الآستانة

يصل كَنديد إلى الآستانة سعيدًا برؤية أمله الوحيد كونيغوند، بعد أن خسر أمواله بحسن نيته وصفائها حد البلاهة، ليجد الدَّهر قد أزرى بكونيغوند، فأصبحت عجوزًا بشعة؛ ثم يشتري مزرعة صغيرة يستقر فيها بعد رحلةٍ طويلةٍ تُوِّجت بخيبة أمل كبيرة.

إلى جوار مزرعةِ كَنديد مزرعة شيخ تركيّ مسلم، يلتقيه كَنديد صدفةً ويبادره بالسؤال عن اسم المفتي الذي قُتِل، فيجيبه الشيخ البسيط: «لا أعرف شيئًا عن ذلك، ولم يحدث قط أن عرفت اسم مفتٍ أو وزير، وأظن أنَّ الذين يتدخلون في شئون لا تعنيهم يهلكون ببؤس أحيانًا جزاءً وفاقًا، ولكنني لا أسأل عمّا يحدث في الآستانة مُطلقًا، مُكتفيًا بأن أرسل إليهم ثمرات مزرعتي للبيع».

فيقول كنديد له: «لا بد من أنَّ أرضك واسعة ورائعة». فيُجيب: «لا أملك غير عشرين فدانًا أزرعها مع أولادي، فالعمل يدفع عنّا ثلاثة شرور كبيرة: السأم، والرذيلة، والعَوز».

يعود كَنديد إلى مزرعته، ويتأمل بعمق كلام الشيخ المسلم، ليقاطعه بنغلوس بذكر تعاليمه، وأن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة، وأن كل شيء يحدث هو أحسن ما يمكن… وأنّ وأنّ… إلخ.

فيقول مارتن مُقاطعًا سردية بنغلوس الأزلية: «لنعمل من غير برهنة، فالعمل هو الوسيلة الوحيدة التي تُطاق بها الحياة». فيؤكد كَنديد ويقول: «وأعرف أيضًا أنه يجب أن تُزرع حديقتنا».

هذا العالم قاسٍ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً، ولا بدَّ من الاعتراف بقسوته وبشاعته، وحِدة منعطفاته، وجنونه، وقسوة البشر على بعضهم، واستعدادهم لخوض حروب دامية لا أخلاقية خدمةً لمصالحهم؛ لكن الحل لا يكون باعتزاله، ولا الإقبال الساذج غير الحذر نحوه، ولا الثقة العمياء بكل عابر سبيل تضعه الحياة أمامنا.

هذا ما يخبرنا به «فولتير» في صفوة كتاباته «كَنديد»، وهو ما اختاره كَنديد الناضج، من أن نزرع حدائقنا الخاصة، وأن نتخذّ من مبدأ أنطونيو غرامشي: «تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة»، أسلوب حياة.

توازن صعب لكنّه خلّاق، بين تشاؤم العقل الحذر الذي لا يثق بسهولة، والتفاؤل الذي يدفع بالإنسان نحو إعمار الأرض وتأدية العبادة التي خُلِقَ لأجلها، وقدرته دائمًا على البدء من جديد. فهل نحن قادرون على ذلك؟ أن نزرع حدائقنا في أسوأ العوالم الممكنة؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.