إن أي دين يظهر في المجتمع كرفض أوردة فعل ضد ظاهرة معينة في المجتمع، ويتغير في النظرية والتطبيق تبعًا للتغيرات في نموه الدنيوي ونجاحاته وإخفاقاته وطبيعة الناس الذين يسودون فيه وما شابه من الأمور الأخرى.

يبدأ الورديّ بحثه بهذه الجُملة، فهو يُرجع عوامل ظهور الدين إلى محاولة تقويم انحراف يظهر في المجتمع، فيأتي الدين في صورة المنقذ بمُثل عُليا يبثها بين أتباعه لتلافي هذا الانحراف، ثَم ما تلبث أن تتراجع هذه المُثل وتضمحل.

ولقد قام العديد من الكُتاب بدراسة المسيحية واليهودية من وجهة نظر علم الاجتماع كتفسير سوسيولوجي، لكن القليل من تناول الإسلام من الوجهة نفسها. وبحث د. علي الوردي من هذا القليل، فقد حدد العوامل والمتفاعلات الاجتماعية والمتغيرات البيئية مستبعدًا العوامل الذاتية للدين الخاتم فضلًا عن اعتبار أي تدخل لوحي السماء في معادلة التفسير السوسيولوجي للإسلام.

ويتخذ المؤلف في تفسيره السنة والشيعة نموذجًا تحليليًّا يبين فيه أهم الأسباب التي شكلت نظرتهم للقضايا الدينية المختلفة مع محاولة جاهدة في إبراز العوامل السوسيولوجية الدافعة لكل جماعة لتبني ما تبنته من مواقف بصرف النظر عن المخطئ والمصيب منها.


الفصل الأول: الخلاف السني الشيعي

يبدأ «الفصل الأول: الخلاف السُنيّ الشيعي» متجاوزًا لسؤال: أي الفريقين على حق؟؛ السُنة أم الشيعة؟. فالمؤلف ينطلق من منظور اجتماعي غربي المنشأ مبني على نسبية الثقافات، ويعبر عن ذلك بقوله: «من ناحية سوسيولوجية لا يوجد حق مطلق أو باطل مطلق، إن كلا الفريقين على صواب وخطأ في الوقت نفسه». وبالتالي فسؤال المصيب والمخطئ غير هام هنا، بل غير مطلق في الوصف السوسيولوجي للظاهرة الدينية.

يُشَبه المؤلف الشيعة بأصحاب المذهب «المثالي» الذين لا يرضون عن ظلم الحكام لانحرافهم عن مثاليات الإسلام الأولى، فيُشكلون حركات العصيان الثورية لرد الحق لأصحابه من نسل عليّ، بينما السُنة فيُشبههم بـ «الواقعيين» الذين يضطرون للتعاطي مع الواقع والقبول بالخلفاء لدعم تماسك المجتمع.

وبهذا التصور المختزل يُغفل المؤلف باقي الفروقات المذهبية العديدة بين السنة والشيعة خارج قضية الإمامة، ثم يحصر مثالية الشيعة في معارضتهم السياسية للحكام، فيُغفل مرة أخرى معارضات حركات سنيّة كبرى لا تقل عن معارضات الشيعة في تاريخ الإسلام الأول مثل حركة ابن الزبير ومعارضة الفقهاء للحجاج، ويغفل أيضًا حركات ثورية غير منتمية للفضاء السني ولا الشيعي مثل فتن الخوارج وحروبهم المتعددة مع الحكام المتعاقبين والممتدة تاريخيًّا حتى الخلافة العباسية!.


الفصل الثاني: الخلافة

أما«الفصل الثاني: الخلافة»، فيبنى المؤلف فرضيته بأن الشيعة تبعًا لمثاليتهم وتمسكهم بالأصول النقية للإسلام في قضية الإمامة صاغوا قضية الإمامة أو الخلافة بشيء يُشابه نظرية الحق الإلهي في أوروبا الوسطى؛ أي أن الأئمة منصوص عليهم من الرسول، وهم من نسل عليّ. ويبني عوامل تأيد فرضيته لتصور الشيعية للإمامة سوسيولوجيًا إلى كون كثير من الشيعة من أصل فارسي وتأليه الملوك كان عقيدة راسخة في ساسان وفارس، فتجلى ذلك في الإسلام في ادعاء الشيعة النص على الأئمة بالوحي، وربما إلى تأليه بعضهم، كما أن التشيع غلب على المناطق الزراعية جغرافيًا في فارس ويميل الإنسان مع الزراعة إلى السكون والدعة فأَثر ذلك على انتظارهم لإمام منصوص عليه بدل الاشتغال بالبحث عنه وتنصيبه.

أما السُنة فغلب عليهم شيء يقارب الديمقراطية في انتخاب الخليفة، لكن ما لبثت الواقعية السياسية -مسايرة الواقع- للسُنة أن جعلت الإمامة بالتعيين وصار الانتخاب الديمقراطي شكليًّا أو صوريًّا، وفي عهد بني أمية لم يعد له معنى حقيقي. ويُرجع المؤلف عملية الديمقراطية عند السنة إلى كون أغلب السنة بدوًا من العرب ثم من البربر والترك فيما بعد، وهؤلاء البدو -باختلاف أعراقهم- يميلون نحو الشراسة والبطولة فلم يُرضهم أن يُفرض عليهم إمام دون مشورتهم، بل عنصر الحرية يجعل لهم حق تقرير مصيرهم من إمامهم.

ونرى أن محاولة المؤلف للتفسير بالأعراق التاريخية وتأثيراتها بمعزل عن المرويات التاريخية الواردة في سقيفة بني ساعدة والخلاف بين المهاجرين والأنصار ثم الاستقرار على أبي بكر، وبمعزل عن الأخبار والمرويات التاريخية الواردة في اختيار عمر ثم في المفاضلة بين ستة من الصحابة قبل انحصار الخيارات في عثمان وعليّ، نرى أن ترك ذلك كله للتحليل العرقي وأثر الثقافات الزراعية والصحراوية على الناس فيه كثير من المجازفة والخرص، نعم كان هناك اعتبار للإذعان العِرقي والإثني، وقد اعتبر الشرع هذه العوامل. ولعل من هذا الباب حديث النبي: «الأئمة من قريش»، وسجال الخليفة الأول أبي بكر أن العرب لن تذعن لبطن غير بطون قريش لأنهم سادة الناس حينها، كل ذلك يبين أثر الأعراق في تحليل سياسة الناس. لكن إغفال أسباب أخرى كانت من أهم العوامل في الاختيار للخلافة مثل السبق في الإسلام والأرفع قدرًا بين المسلمين والأكثر قربًا ودراية بأحوال رسول الله ومن جعله النبي يصلي بالناس في حياته وفي حضرته، ترك ذلك كله للتفسير العرقي فحسب فيه مجازفة كبرى، فالعوامل أكبر من التفسيرات الأحادية السوسيولوجية.

كذا لم ينشأ التشيع كحركة إلا بعد موت عليّ رضي الله عنه، فكيف يُزعم أن تنصيب أبي بكر كان سبب نشأة التشيع؟!.

وإغفال كل هذه العوامل الذاتية للإسلام ونظرة الجيل الأول من أصحاب النبي رضي الله عنهم للحياة والدين والإمامة بمنظار وحي السماء على كونها في خلافة للنبي عن إقامة الدين كما كان يقيمه النبي وسياسة الدنيا به، إغفال كل ذلك وردّ كل العوامل المحركة للناس إلى البيئة السوسيولوجية والصراعات العِرقية والقبلية فيه مجازفة كبرى ويُحيله النظر العلمي.


الفصل الثالث: طبيعة الإسلام

أما «الفصل الثالث: طبيعة الإسلام» فيقسم فيه المؤلف الإسلام إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الهجرة، ويقرر أن المضطهدين في مكة هم أكثر الناس استجابة للإسلام، ثم يُرجع المؤلف السبب في ذلك سوسيولوجيًا إلى تبشير هذا الدين الجديد بالمساواة مع السادة والملأ من قريش. لكن يفوت المؤلف هنا أن كثيرًا من معتنقي الإسلام في هذه الفترة كانوا من سادات الناس وأغنياء قريش بل من أرفعهم نسبًا مثل أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وحمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، فلو كانت طبيعة الإسلام جاذبة للمستضعفين فحسب فما الذي جذب هؤلاء السادة في أقوامهم للإيمان بهذا الدين؟.

ولا يضمر المؤلف -خلافًا لكثير من المستشرقين- أي نية تحفز للنبيّ محمد –حاشاه صلى الله عليه وسلم– من أنه أراد التوسع العسكري الجهادي في مكة ومن ثّم مُلك العرب فكوّن هذه النواة من المستضعفين كمرتزقة للمُلك.

وعلى هذا التقسيم يصبح إسلام مكة غير المُسلح قريبًا من المسيحية من ناحية المقاربة السوسيولوجية بوجهة نظر المؤلف، وهو ما سيتغير تمامًا في المرحلة الثانية بعد الهجرة إلى المدينة المنورة. ففي المدينة ستنطلق الغزوات ويبدأ التوسع العسكري لهذا الدين، ومن ثَم يُفقد هذا التوسع المسلح لهذا الدين جاذبيته وبدلًا من أن يجذب طبقة المضطهدين والمعذبين يجذب طبقة أخرى من المنافقين والمنتفعين بالدين.

ونحن لا ننازع أن في ذلك الطرح شيء من الصحة وهي ظهور طبقة النفاق عند حدوث الرخاء في المدينة، لكن الإشكال البادي حقيقةً ها هنا هو الإغفال التام لوحي السماء ودوره مع محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن الله قد أمره – صلى الله عليه وسلم – بكف يده في مكة وجعل جهاده في مكة بالقرآن فحسب: «وجاهدهم به جهادًا كبيرًا»، ثم أمره -وهو حكيم في تشريعه سبحانه وتعالى- بأن يقاتل من قاتله من المشركين: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يجب المعتدين»، حتى استقر التشريع الخاتم: «فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا».

فمحاولة دفع التهم عن النبي -وما هو بمتهم بل هو أطهر وأشرف البشر- أنه لم يرد القتال في مكة سياسةً، ثم لما سنحت الفرصة قاتل وتخلى عن مبدئه الأول لتثبيت ملكه بعدما تغيرت الظروف سوسيولوجيًا، وكأن الأمر تنسيق تكتيكي أو إستراتيجي من محمد -صلى الله عليه وسلم- فيه تغييب لجوهر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي الإيمان بالغيب وبوحي السماء، وأن هذا النبي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى، وأنه مُبلغ عن ربه: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين».

وعلى هذا المنوال استمرت باقي الفصول بعدما حاول المؤلف رصد الظاهرة الدينية خارج إطار الصواب والخطأ أو بعبارة أخرى بعدما فرّغ الرسالة من بُعدها ومنشئها العقدي، فضلًا عن إغفاله للمرويات التاريخية، وجعل ظاهرة الدين كأي ظاهرة مادية يمكن تأطيرها ودراستها في حيز مغلق من الأسباب والمعطيات والنتائج السوسيولوجية المحددة.

الدراسة السوسيولوجية أو الدراسة من منظور علم الاجتماع الوصفي قد تُثري زوايا النظر لتاريخ الإسلام وربما تُثري تحليل تاريخ الفِرق بين المسلمين، لكنها ليست السبيل الحصري لزاوية النظر، بل بنبغي أن تتضافر زوايا أخرى للنظر ويُقدم القطعي وحيًا أو الثابت تاريخيًّا وينظر في أفعال الأوائل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودافعهم لنشر هذا الدين في العالمين. ينبغي أن يُقدم هذا على الظن الشخصي والتخمين والخرص الذي يحاول إيجاد أي وشائج صلة بين العوامل السوسيولوجية فيتعسف في رد باقي العوامل ويُقولب الحدث في نموذج تفسيري وحيد.

والله أعلم.