عام 1966، أصدر «نيكولاي تشاوتشيسكو» قرارًا بمنع الإجهاض في رومانيا. القرار أتى بعد عام واحد من توليه السلطة، ورافقته قرارات أخرى مثل حظر وسائل منع الحمل وتخفيض سن الزواج إلى 15 عامًا. جعل تشاوتشيسكو الأمومة واجبًا واطنيًا لتقوية اقتصاد رومانيا وزيادة عدد سكانها بصورة سريعة. وبات الرجل يعاقب الأسرة التي لا تنجب أطفالًا، ويحتفي بالنساء اللاتي ينجبن عشرة أطفال.

خصص تشاوتشيسكو شرطة سريةً عُرفت باسم شرطة الحيض. يمر أفرادها على النساء في أماكن عملهن، ومن يأتي اختبار حملها سلبيًا يفرض عليها ضريبة عزوبية باهظة. وتُعفى منها المرأة إذا كانت تملك 4 أطفال بالفعل، أو تعدى سنها 40 عامًا، أو تشغل منصبًا مهمًا في الحزب الشيوعي.

بعد عام واحد فقط من تلك القرارات ماتت 10 آلاف امرأة حاولن الإجهاض في أماكن غير مجهزة، وزاد عدد سكان رومانيا بـ4 ملايين فرد، لكن تلك الزيادة وجدت الواقع الكئيب في انتظارها. تشاوتشيسكو أعلن أن الأطفال ملك المجتمع لا ملك أهليهم. ودارت الآلة الإعلامية لتقنع الأهالي أن الدولة بإمكانها تربية الأطفال أفضل منهم، وبفعل الفقر والظروف المقفرة والقمع لم يجد الأهالي بدًا من تسليم أطفالهم لدور أيتام تابعة للدولة. واسى الأهل أنفسهم fأنهم سوف يستردون أطفالهم حين يصبحون شبابًا قادرين على العمل وبصحة جيدة.

لكن بداخل دور الأيتام الضخمة التي بناها تشاوتشيسكو كان النظام أشد رعبًا. عند سن الثالثة يُفرز الأطفال، من هم بصحة جيدة يحصلون على الطعام والملابس. أما الطفل الذي يعاني من أي مشكلة صحية أو بنية جسدية ضعيفة أو احتياج خاص، فكان يُجرى إهماله، بجانب إرغامه على تناول مهدئات بصورة مفرطة للسيطرة على سلوكه وحركته.

السجن نقطة الانطلاق

تلك المعلومات عن الأوضاع داخل دور الأيتام تلقاها الرومانيون بنفس الصدمة التي علت وجه العالم حين كُشف الأمر. لم يكن الأهل على علم بما يجري داخل تلك الأماكن، وحتى من ساوره الشك أحيانًا فنظام تشاوتشيسكو الديكتاتوري كان يتكفل بإسكاته للأبد.

تشاوتشيسكو نشأ في بيت ريفي بسيط، طفل ضمن تسعة إخوة يسكنون 3 حجرات لا أكثر. حين ولد تشاوتشيسكو عام 1918 لم تكن أحوال أسرته المادية جيدة، فلم يتلق تعليمًا كافيًا حتى سن الحادية عشرة. في تلك السن هرب من والده مدمن الكحول ليعيش مع أخته في بوخارست. وفي العاصمة عمل صبيًا في محل صنع أحذية يملكه رجل ينتمي للحزب الشيوعي سرًا، وكانت تلك هي نقطة دخول الديكتاتور تشاوتشيسكو عالم السياسة.

كان الفتى مراهقًا لا يُلقى له بال أثناء الاجتماعات، فآثر أن يثبت نفسه للقادة فنفذ العديد من العمليات الخاصة في مختلف مدن رومانيا. حتى أُلقي القبض عليه عام 1936 وحكم عليه بالسجن مدة عامين. ثم حكم عليه بستة أشهر إضافية لإهانته القضاء، ثم عامين من الإقامة الجبرية بسبب تحريضه المستمر لنشر الشيوعية. ولم يكد يخرج من إقامته الجبرية حتى أُعيد تدويره بتهمة التآمر ضد النظام المجتمعي.

لم يسمح له النظام بالبقاء في سجن واحد لفترة طويلة، وبات يتنقل بين السجون المختلفة. انتهى به المطاف في سجن معسكر تارجو جو. لم يكن المُعتقل يعرف أنه بذلك يمنح الفتى أبرز محطات حياته، لقاءه  بجورجي جورجيوديج، معارض شيوعي بارز. تبنى جورجي الفتى الطموح، وأعلن أن الفتى بات تحت حمايته الشخصية.

كان الإعلان بمثابة نقل تشاوتشيسكو من عالم الجموع المغمورة لعالم البطولة الفردية المطلقة. وشارك تشاوتشيسكو وجورجي في اجتماعات جلد الذات داخل المعتقل، وهي اجتماعات كانوا يعترفون فيها أمام بعضهم أنهم لم يفهموا قواعد الماركسية بشكل كاف، وأن أمامهم كثيرًا لفهمها. وفي تلك الاجتماعات كان دور تشاوتشيسكو هو ضرب من لا يبدي حماسًا كافيًا من الشيوعين تجاه حضور تلك الاجتماعات، أو يستهين بجورجي.

خطوات ثابتة نحو الرئاسة

أصبح تشاوتشيسكو يد جورجي الضاربة، فازداد جورجي نفوذًا وازداد تشاوتشيسكو تسلقًا لسلم السلطة. وفي عام 1944 حصل التتويج العملي لتلك السيطرة، فاستغل جورجي اشتعال الحرب العالمية الثانية وهرب من السجن. بعد هروبه نصب نفسه رئيسًا للحزب الشيوعي، وعيّن تشاوتشيسكو سكرتيرًا للاتحاد الشيوعي للشباب. وحين شاركت رومانيا الحلفاء ضد ألمانيا، ضمن جورجي لنفسه وزارة الاتصالات لتكون تتويجًا لنجاح حركته المضادة للفاشية.

كان منصب وزارة الاتصالات غير ذي أهمية، لهذا لم يعترض أحد على وجود جورجي فيها. لكن الرجل كان يرى ما لا يراه الآخرون، فاستغل وجوده واطلاعه على كافة المحادثات ليرتب تحالفًا، بالترغيب والترهيب، للإطاحة برئيس الوزراء، ووضع نفسه مكانه. وبالطبع تكوين حكومة ذات أغلبية شيوعية.

في تلك الحكومة شغل تشاوتشيسكو منصب وزير الزراعة أولًا، ثم نائب وزير الدفاع. وحصل على رتبة فريق ولمّا يبلغ السادسة والثلاثين من عمره. رافق ترقيه في الوزارات ترقيه داخل الحزب حتى صار الرجل الثاني بعد جورجي، ووريثه الرسمي. لهذا حين توفى جورجي عام 1955 تولى تشاوتشيسكو رئاسة الحزب. وبعد 12 عامًا تولى مجلس رئاسة الدولة، ليصبح بذلك رئيس رومانيا بالكامل.

في سنواته الأولى اتجه للانفتاح على الولايات المتحدة. تراجعت المناهج السوفيتية من المدارس، وأعلن أن هدفه الأسمى هو راحة الشعب الروماني. فأمر ببناء مدن جديدة كي يتوفر سكن مستقل للجميع. لكن بعد أعوام قليلة، عام 1971 تحديدًا، انقلب كل شيء.

الانبهار بالصين وكوريا الشمالية

عام 1971 زار تشاوتشيسكو جمهوريات شيوعية مثل كوريا الشمالية والصين. في تلك البلدان انبهر الرجل بصرامة وشخصية حكامها. وأعجبته فكرة التحول الشعبوي الكامل في البلاد، فقرر فور عودته أن يخوض ثورة جديدة في بلاده. ثورة على هوية بلاده كلها، لا حكومة تكنوقراط، ولا حكم ذاتي لأي إقليم، بل سيطرة كاملة لرجل واحد على كافة أنحاء البلاد.

تدهورت أوضاع الشعب، وتدنى مستوى العلاقات مع أوروبا. وأعلن الرجل أن بلاده يجب أن تكون بلادًا صناعية، رغم أن الاقتصاد الروماني زراعي بنسبة كبيرة. أصدر قراراته ببناء مجمعات صناعية ضخمة، تأكل الطاقة المتوفرة والمواد الخام ولا تفيد الشعب الفقير في شيء. وتوجه الرجل إلى بناء القصور الضخمة، والدخول في سباق محموم لبناء كل ما هو كبير وضخم حتى لو لم يكن ذا نفع.

لم يكد الشعب يفيق من صدمة التحول السريع، حتى أعلن تشاوتشيسكو أنه سوف يسدد كافة ديون رومانيا الخارجية. وبالطبع الذي سيسدد حقًا هو الشعب المُعدم من الأصل. لا خبز، لا سكر، لا زيت. وما يتوفر منهم يتم توزيعه تحت إشراف مباشر من رجال الحزب الحاكم. وصدر قانون يقضي بالحبس ستة أشهر لكل فرد يشتري مواد غذائية تكفيه أكثر من شهر واحد فقط.

وبالطبع تدخلت الدولة لتضفي طابعًا وطنيًا على ذلك، فأعلنت أنها تحارب السِمنة لأجل صحة مواطنيها. ووضع متخصصو الصحة خطة لتخفيض استهلاك الفرد من 3300 سعر حراري يوميًا إلى 2200 سعر فقط. ما يعني أن الشيكولاتة مثلًا باتت ممنوعة. ولكي ينخفض وزن المواطن عليه أن يمشي أكثر، وليمشي عليه ألا يركب سيارته، ولكي تضمن الدولة ذلك لم تكن تسمح للسيارة الواحدة بأكثر من 20 لترًا من الوقود فقط كل شهر.

الانفجار الكبير

التقشف الذي طال الوقود لم يقتصر على حد السيارات فحسب، بل أصدرت الدولة قرارًا عام 1988 يقضي بعدم تدفئة الأماكن العامة بما يتجاوز 16 درجة مئوية. وتوفيرًا للنفقات وللوقود أصبح انقطاع التيار الكهربائي هو الأصل، ووجوده أمر استثنائي.

أغلق الرجل بلده على نفسه، لا سفر خارجه، ولا انتقاد لكل ما يتعلق بالسلطة. وتجنيد الجميع كجواسيس على الجميع. أصبح كتم الغضب هو الأساس خوفًا من أن يكون الأب جاسوسًا على ابنه، أو الأخ متربصًا لأخيه، أو مخافة أن يكون صديقك من البوليس السري. لكن الكتمان أدى لانفجار مهيب في نهاية الأمر.

بدأت إرهاصات الانفجار تبرز عام 1987. البوليس حاول وأدها فزادها اشتعالًا واحتقانًا. دخل تشاوتشيسكو على الخط فخرج إلى الجماهير يخاطبهم. كان خطابًا أسطوريًا، اتهم الرجل شعبه الواقف أمامه بالخيانة علنًا، وأخبرهم أن القوى الخارجية تلاعبت بهم، وأنهم لا يحبون رومانيا ولا يكترثون بمصلحتها العليا.

هاج الشعب على ذلك الخطاب الغريب، فأصدر تشاوتشيسكو أوامره لوزير دفاعه بالفتك بالخونة. فاسيل ميليا رفض الأمر، فدفع حياته ثمنًا لذلك الرفض التاريخي. وفي لحظتها أمر تشاوتشيسكو الجنود بإطلاق الجنود على المتظاهرين فأسقطوا قرابة 100 فورًا. وبمساعدة نائب وزير الدفاع استطاع تشاوتشيسكو أن يصل إلى طائرة هليكوبتر ليهرب بها خارج البلاد.

بعد الإقلاع أدرك أنه يمكن رصد الطائرة وإسقاطها من أي جهة، فآثر الهبوط للنجاة بحياته. كانت الجموع التي ملأت البلاد تبحث عن تشاوتشيسكو في كل مكان، وبمجرد هبوط الطائرة حاول تشاوتشيسكو أن يهرب بسيارة مع زوجته. لكن الجموع التقطتهما، ودخلا في محاكمة فورية عسكرية بتهمة القتل والتآمر وإصدار أوامر بالقتل. وصدر الحكم ضدهما سريعًا بالقتل رميًا بالرصاص على الهواء مباشرة.