ازداد الاهتمام بالطب والدعم النفسي في الفترة الأخيرة، ما يعكس الزيادة المطردة للثقافة والمرض النفسي، وهو أمر ضروري في ظل التفكك التدريجي في الروابط الإنسانية، الذي يٌخلّفه مجتمع السوق الحرة، وفي ظل المدن الحديثة التي تنتج الفصاميين والمكتئبين بسرعة إنتاجها للوجبات السريعة، حيث أُلغيت كل الحواجز، وصار الفضول جائزاً لتجربة كل ما لا يخطر على البال، دون الاعتراف بمقدار الضعف البشري في إنسان لا يملك التحكم في زمان موته ولا في انهيار قوته.

اختلال الروابط الأسرية في تلك المجتمعات يتبعه بالضرورة اختلال في روابط الحب والصداقة، فلا يوجد سوى ما يخدم مصالح السوق، لا يوجد هنا سوى المصلحة.

بتفكك جدار الروابط الأسرية والاجتماعية، يتحول الشخص إلى صخرة وحيدة مُلقاة تعبث بها الرطوبة والرياح وأنياب الحيوانات، مما يدفع بصاحبها إلى البحث عن «صنايعي» شخصيات، على أمل أن يتمكّن من تقويم  ما لحق بشخصيته من بؤس وتشوه. هذا المجال الذي تحوّل في وقتنا إلى حرفة يمارسها كل من يبحث عن الهروب من مآسي حياته الفارغة من المعنى، وكل منْ لديه فراغ زائد وإحساس زائف بالمشاعر، ومنْ لديه فائض في العواطف وفقر في الأفكار، تلك العواطف التي شبهّها دستويفسكي بعواطف العجول.

كل هؤلاء وجدوا في هذه الحرفة من السهولة ما يمكّنهم من ادعاء الحكمة فضلاً عن الشعور بالقيمة.

نتج عن ذلك وجود العديد من المعالجين والأطباء النفسيين أصحاب العقول الضحلة، ألبسوا أنفسهم ثوب المُصلح وجلسوا على مقعد وثير يتشدّقون بكلمات مقولبة لا يفهمونها، كمدير المصنع؛ مصنع العبث الأحمق لتسمين وتفريخ النفوس البشرية.

دعونا نتناول في هذا المقال بعض أشكال بائعي الوهم هؤلاء، نماذج عايشتها خلال ممارستي الفعلية للطب النفسي في مصر.

النوع الأول: الحنون

هذا النوع أعفى نفسه من الغوص في تعقيدات النفوس وتفرغ للحديث عن العلاقات، ما يجلب آهات المراهقات وأموالهن، وقام باختزال البؤس البشري في مشكلات العلاقات، فأصبح طبيباً لرد المطلقة وجلب الحبيب.

قد تتطور الحنية مع نوع آخر من المعالجين فتصل إلى حد التلامس مع مريضاته فاقدات الأمل، بل الطلب منهن إرسال صور خاصة لأجسادهن، وقد يُطلق عليه العلاج بالتقبل، بمعنى أنني سأقف أو أنام معكن، فقد يساعدكن ذلك على تقبل أجسادكن وتجاوز المجتمع الذي لا يبالي سوى بأجسادكن الرائعة متفجرة الأنوثة التي يعوزها بعض الاحتواء.

يتعلق المريض النفسي في أضعف أحواله بأذرع هؤلاء الممدودة، أذرع رخوة لا تقوى على حمله، كل ما في مقدورها هو سحله فوق التراب.

بديهيات:
يمنع منعاً باتاً مقابلة الطبيب لمرضاه في مكان غير عيادته.
المعالج النفسي يُمنع منعاً باتاً من الارتباط العاطفي بمرضاه، حيث يطلق بعض العلماء على تلك العلاقة لبشاعتها «سفاح القربى المهني».

النوع الثاني: المذيع

نوع أُحبطت أحلامه في الشهرة وأصبح طبيباً نفسيّاً، فقرّر المتاجرة بلقبه وبمرضاه في محاولة استجلاب اهتمام الإعلام ، فحين يتحدث هناك آخرون ينظرون أيضاً إلى صورته على صفحة المياه ويعجبون بها مثله، هذا النوع ليس لديه مانع في الخوض في السياسة أو في أي تريند سائد وربطه بمنتهى السذاجة بالطب النفسي، ليس لديه مانع من إفشاء معلومات ومشاعر مرضاه الخاصة لجلب بعض الاهتمام لذاته الحقيرة.

هذا النوع أيضاً لديه عصا سحرية يستعملها لحل مشكلات المستمعين والمشاهدين النفسية في لحظات، أو لنقل بعض القوالب الجاهزة للتركيب في أي حائط، فلا أحد يبالي!

النوع الثالث: الديلر

هذا طبيب نفسي في الأغلب ليس لديه أي مانع في بيع بعض الأدوية الممنوعة في مصر بأسعار تماثل أسعار الديلارات أو تفوقها، أدوية مثل suboxone & subutex & tramadol، يبيعها لمريضه المدمن بدعوى أنها تريحه من أعراض الانسحاب، والديلر يُروِّج بضاعته بأنها تُريح من بؤس الحياة.

كلاهما ليس لديه سوى غرض واحد، زيادة ارتباط المدمن ببضاعته، فلو قدر الله واكتمل شفاء المدمن على عكس رغبته، لجلس هذا الطبيب إلى جوار شقيقه الديلر يتسولان على قارعة الطريق.

النوع الرابع: رجل الأعمال

مريض اضطراب وجداني في نوبة هوس أو مريض إدمان ناجح ولديه الكثير من المشروعات والأموال، هذا هو نوعهم المفضل، يتعرّف عليه المعالج أو الطبيب، وبعد معرفة كل أسراره في جلسات علاجية مبتذلة، قد يقنعه بالشراكة والدخول معه في أحد مشروعاته الناجحة.

هذا هو نفس النوع الذي قد يحتجز مريضاً لديه رغماً عن إرادته، استجابةً لرغبة أهله بلا أي سبب طبي، فقط للتخلص منه، أو إجباره على التنازل عن أمواله وممتلكاته، في مقابل مبلغ مالي ضخم يُدفع يومياً لهذا الطبيب ووكره، وقد يبقى المريض مُحتجزاً حتى التعفن.

ليس من الصعب على هذا الطبيب تلفيق أي تشخيص طبي لهذا المريض، فتشخيص المرض النفسي ذاتي أكثر منه موضوعياً، أي غير معتمد على التحاليل والأشعات الطبية، لكنه معتمد على نظرة الفريق الطبي.

وهناك نوع آخر أكثر تطوراً قام بإنشاء تطبيقات للدعم النفسي أون لاين، دون أية قواعد ثابتة تحكم أخلاقيات الممارسة الطبية، فترك مجال الممارسة للمعالجين منعدمي الذكاء الاجتماعي.

النوع الخامس: المدرسة

هذا النوع مجتهد إلى حد ما ولكنه بلا عقل، بعض الكورسات والشهادات الأجنبية، وبعض الترجمات السطحية لكتب أجنبية أكثر سطحية، تُنقل كما هي، فبدلاً من تكييفها لتُوائِم اختلاف النفوس والثقافات، يحاول تغيير النفوس والثقافات لتتقبلها، مُستفيداً من جهل الناس بما يقول وانجذابهم الأعمى نحو الجديد.

هذا النوع قد يُسبِّب من الضرر لمرضاه ما لم يسببه المجتمع المُشوه. نفس الكلام ينطبق على استعمال تقنيات غربية دون تشذيبها لتوافق مجتمعاتنا، ودون تدريب كافٍ. حيث أن أحد الأطباء من مشاهير السوشيال ميديا حاول علاج إحدى مريضاته من بعض الذكريات المكبوتة، فقام بإقناعها عن طريق الخطأ أن أباها قام بالإساءة الجنسية لها وهي صغيرة.

تنويه:
يجب على المريض أو من يعوله سؤال الطبيب عن الخطة العلاجية التي سيسير عليها، ومدتها ومتى يتوقع النتيجة، وسؤال الطبيب في كل جلسة عن مدى البعد من المشكلة والقرب من النتيجة.

أثناء العلاج النفسي ينقل المريض المشاعر التي كان يشعر بها عندما كان طفلاً إلى المُعالِج، يفعلون هذا دون وعي، وهذا يضع المُعالِج في وضع قوي والمريض في وضع ضعيف، فالمُعالِج منعدم الضمير في ظل انعدام الرقابة الحالي، قد يستفيد من لعب دور الأب أو الشريك أو الحبيب بما يُحقق له أكبر المكاسب الممكنة، وبما يُعوِّض به كل النقص في شخصيته.

حينما يكون المُعالِج أو الطبيب النفسي بلا شخصية سوية وتجربة حياتية عميقة ومرجعية ثقافية وأخلاقية قوية، يصبح أكثر خطراً على مرضاه من أي مرض نفسي قد يُصيبهم، فهو الحلقة الأخيرة القادرة على نزع بقايا إيمانهم بالحياة والبشر أو إعادتها، وكثرة الشهادات بالتأكيد لن تُثبِت لصاحبها شخصيته السوية، فـ «موسيليني» كان يحمل شهادة الدكتوراه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.