محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2016/12/05
الكاتب
ِشانتال موف

هذه هي ترجمة مقالة «التحدي الشعبوي» للمفكرة البلجيكية الراديكالية شانتال موف التي كنت قد وعدت بترجمتها في مقالة «الشعب السيد: الاستراتيجية الشعبية لمواجهة السلطة». وهي بمثابة بسط لأفكار مقالتها «اللحظة الشعبوية» التي ترجمناها وقدّمنا لها في مقالة «الشعب السيد» التي من المهم العودة إليها قبل قراءة تلك المقالة. تجب الإشارة هنا إلى أن العناوين الفرعية هي من إضافة المترجم.

لوقت ما حتى الآن، حذّرتنا أصوات من خطر الشعبوية مقدَّمة بوصفها «انحرافًا عن الديمقراطية». مع ذلك، وبانتصار البريكزيتيين في إنجلترا وفوز ترامب غير المتوقع في الولايات المتحدة، أصبح شجب الشعبوية أكثر حدة. وقد بدأ أعضاء من المؤسسة، فيما يبدو، يقلقون بشأن غياب الرضا الاجتماعي المحتمل الذي لطالما تغاضوا عنه. إننا مطارَدون بتصريحات إنذارية تزعم أن الشعبوية يجب أن يقضى عليها لأنها تشكّل تهديدًا مميتًا للديمقراطية. يعتقد هؤلاء أن شيطنة الشعبوية والفزع من عودة محتملة للفاشية سيكون كافيًا لوقف نمو الأحزاب والحركات التي تستدعي الإجماع النيوليبرالي للمساءلة.

من المهم أن نعالج تلك الهيستريا ضد الشعبوية عبر فحص ما هو على المحك بانبثاق الحركات المدعوّة «شعبوية» في السنوات الأخيرة. من الضروري أن نقدّم تحليلًا رائقًا للحالة القائمة لديمقراطياتنا في سبيل إبصار الطرق لدعم مؤسساتنا الديمقراطية ضد المخاطر التي هي معرّضة إليها. إن تلك المخاطر حقيقية، لكنها تنتج عن تخلي تلك الأحزاب التي تقدم نفسها بوصفها «ديمقراطية» عن مبادئ السيادة الشعبية والمساواة التي تقوم عليها سياستنا الديمقراطية. وبصعود النيوليبرالية، تم نبذ تلك المبادئ كمقولات زومبية، ولذلك دخلت مجتمعاتنا عصر «ما بعد الديمقراطية».


1. ما الذي نعنيه بالضبط بـ «ما بعد الديمقراطية Post-Democracy»؟

دعونا نبدأ بتبيين معنى «الديمقراطية». كما هو معروف إذا ما تحدثنا إيتيمولوجيا فإن كلمة الديمقراطية تأتي من المركب اليوناني demos/kratos الذي يعني سلطة الشعب. إنها مبدأ للشرعية لا يمارَس مجرَّدًا، وإنما عبر مؤسسات خاصة. عندما نتحدث عن «الديمقراطية» في أوروبا، فإننا نشير إلى نموذج خاص: النموذج الغربي الذي نبع من الالتزام بالمثال الديمقراطي في سياق تاريخي معين.

يتسم هذا النموذج الذي حظي بطيف من الأسماء: الديمقراطية الحديثة، الديمقراطية التمثيلية، الديمقراطية البرلمانية، الديمقراطية الدستورية، الديمقراطية الليبرالية، الديمقراطية التعددية – بتمفصل تقليديْن اثنيْن مختلفيْن. من جهة، تقليد الليبرالية السياسية: حكم القانون، والفصل بين السلطات، والدفاع عن الحرية الفردية.

من جهة أخرى، التقليد الديمقراطي وأفكاره المركزية هي المساواة والسيادة الشعبية. وعلى خلاف ما يقال أحيانًا، ما من علاقة ضرورية بين هذيْن التقليديْن، وإنما تمفصل تاريخي عَرَضي وقع في القرن التاسع عشر، كما بيّن ماك-فيرسون، عبر النضال المشترك لليبراليين والديمقراطيين ضد الأنظمة الاستبدادية.

يؤكد بعض الكتاب ككارل شميت أن ذلك التمفصل الذي كان منبع الديمقراطية البرلمانية أنتج نظامًا غير قابل للحياة، حيث إن الليبرالية تنفي الديمقراطية والديمقراطية تنفي الليبرالية؛ آخرون يُبقون تبعًا ليورجن هابرماس، على الأصل المشترك لمبادئ الحرية والمساواة. بالتأكيد فإن شميت مصيب في كشف وجود تناقض بين «القاعدة» الليبرالية للمساواة التي تفترض الكونية والعزو إلى «الإنسانية»، وقاعدة المساواة الديمقراطية التي تتطلب بناء مفهوم للشعب ومجابهة بين «نحن We» و«هم They». لكنني أعتقد أنه مخطئ في تقديم ذلك التناقض بوصفه تناقضًا لا بد أن يدفع الديمقراطية الليبرالية نحو التدمير الذاتي.

طرحت في كتابي «المفارقة الديمقراطية The Democratic Paradox»، أن نفهم التمفصل بين تلك التقاليد التي هي بالفعل متضاربة في الأخير، على نمط التشكّل غير المتوقّع وبوصفه موضعًا للتوتر يحدّد أصالة الديمقراطية الليبرالية ويمنحها سمتها التعددية. ويعد المنطق الديمقراطي لبناء الشعب والدفاع عن الممارسات المساواتية ضروريًا لتحديد الديموس وتفنيد الميل نحو الخطاب الليبرالي للكونية المجرّدة؛ لكنّ تمفصله مع المنطق الليبرالي يتيح لنا تحدي أشكال الإقصاء الكامنة في الممارسات السياسية لتحديد الشعب الذي سيحكم.

تتكون السياسة الديمقراطية الليبرالية من عملية تفاوض ثابتة – عبر تكوينات هيمنة مختلفة – حول هذا التوتر البنيوي. يمكن لهذا التوتر، معبّرًا عنه بمصطلحات سياسية تقوم على المجابهة بين اليمين واليسار، أن يستقر مؤقتًا فحسب عبر مفاوضات برجماتية بين القوى السياسية بحيث تؤسِّس تلك المفاوضات دومًا لهيمنة إحدى تلك القوى.

بإعادة النظر في تاريخ الديمقراطية الليبرالية التعددية، نجد أن المنطق الليبرالي ساد في بعض المناسبات، بينما ساد الديمقراطي في أخرى. وعلى الرغم من ذلك، بقي المنطقان كلاهما قويين، وبقيت دومًا إمكانية التفاوض الجدلي بين اليمين واليسار المميزة للنظام الديمقراطي الليبرالي.


2. ما بعد السياسة Post-Politics

إذا كان الوضع الحالي يمكن أن يوصف بـ «ما بعد الديمقراطية»، فذلك لأن ذلك التوتر البنيوي قد تم القضاء عليه في السنوات الأخيرة مع إضعاف القيم الديمقراطية كنتيجة لتحقّق الهيمنة النيوليبرالية، وقد اختفت الفضاءات الجدلية التي كان يمكن فيها لمشاريع المجتمع المختلفة أن تواجه بعضها البعض.

تجلى هذا التطور في الحقل السياسي عبر ما اقترحت في كتابي «في السياسي On the Political» أن نطلق عليه «ما بعد السياسة» إشارة إلى ضبابية المجابهة السياسية بين اليمين واليسار. أعني بهذا المصطلح الإجماع الذي تأسس بين أحزاب يمين ويسار الوسط على فكرة أنه ما من بديل للنيوليبرالية. وانطلاقًا من مبدئية «التحديث» الذي تفرضه العولمة، قبلت الأحزاب الديمقراطية الليبرالية إملاءات الرأسمالية التمويلية Financial Capitalism والحدود التي فرضتها تلك الإملاءات على تدخلات الدولة في سياساتها التوزيعية.

لقد تقلّص بشدة دور البرلمانات والمؤسسات التي تتيح للمواطنين التأثير على القرارات السياسية، وجُرّد المواطنون من إمكانية ممارسة حقوقهم الديمقراطية. لم تعد الانتخابات تقدّم أي فرصة للاختيار بين بدائل فعلية وسط الأحزاب التقليدية التي تشكّل الحكومة. غدت السياسة مسألة محض تقنية تتعلق بإدارة النظام المتمأسس، وهو حقل حصري للخبراء.

الشيء الوحيد الذي سمحت به ما بعد السياسة هو تداول السلطة المتفق عليه بين أحزاب يمين ويسار الوسط. وقد عومل كل أولئك الذين عارضوا «إجماع الوسط» هذا «كمتطرفين» ووصفوا «بالشعبويين». أُعلنت نهاية السيادة الشعبية، وتقلّصت الديمقراطية إلى مكوّنها الليبرالي. وهكذا قُوّض أحد أركان المثال الديمقراطي الأساسية: سلطة الشعب. بالتأكيد، ما زال يمكن الحديث عن «الديمقراطية»، ولكن فقط للإشارة إلى وجود الانتخابات والدفاع عن حقوق الإنسان.

لقد حدثت تلك التغيرات على المستوى السياسي في سياق نمط جديد من تنظيم الرأسمالية يحتل فيه رأس المال التمويلي مكان القلب. فمع أمولة الاقتصاد Financialization of Economy، وقع تمدد هائل للقطاع المالي على حساب الاقتصاد الإنتاجي. وتحت التأثيرات المشتركة لخفض التصنيع ودعم التغيرات التكنولوجية وعملية الانتقال إلى البلدان ذات العمالة الرخيصة، فُقدت وظائف عديدة.

أسهمت سياسات الخصخصة وخفض التنظيم أيضًا في خلق حالة من البطالة المتفشية، ووجد العمال أنفسهم في ظروف متزايدة الصعوبة. إذا أضفنا إلى ذلك آثار سياسات التقشف التي فرضت بعد أزمة 2008، يمكن للمرء أن يفهم أسباب الزيادة الهندسية في اللامساواة التي قد شهدتها بلدان أوروبية عديدة، خاصة في الجنوب. لم تعد تلك اللامساوة تؤثر على الطبقة العاملة فحسب، بل أيضًا على جزء كبير من الطبقة الوسطى التي قد دخلت في عملية من الإفقار والتهديد[5].

لقد واكبت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية هذا التطور، بل قد لعبت في أماكن عديدة دورًا في تنفيد السياسات النيوليبرالية. صبّ ذلك في حقيقة أن الركن الآخر من المثال الديمقراطي – الدفاع عن المساواة – تم التخلص منه أيضًا في الخطاب الديمقراطي الليبرالي. ما يحكم الآن هو رؤية ليبرالية فردانية تحتفي بالمجتمع الاستهلاكي والحرية التي تقدمها الأسواق.


3. ألجرة أوروبا Oligarchization of Europe

كانت نتيجة الهيمنة النيوليبرالية هي مأسسة نظام أوليجاركي بحق على الصعيدين السياسي والاقتصادي الاجتماعي كليهما. إنها تلك الألجرة للمجتمعات الأوروبية هي بالضبط أصل نجاح الأحزاب الشعبوية اليمينية. وفي الواقع، هم غالبًا من يشجبون تلك الحالة ويعدون بالدفاع عن الشعب ضد العولمة، وإعادة السلطة التي قد صادرتها النخب، إليه.

وفي بلدان عديدة، وبترجمة المشكلات الاجتماعية إلى لغة إثنية، ضمّن هؤلاء في مفردات معادية للأجانب، مطالب القطاعات الشعبية التي تجاهلتها أحزاب الوسط لأنها لا تلائم المشروع النيوليبرالي. رفضت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية سجينة عقائدها ما بعد السياسية والمتراخية عن الاعتراف بأخطائها، الاعتراف بأن العديد من تلك المطالب هي مطالب ديمقراطية شرعية لا بد أن تقدم لها استجابة تقدمية. من هنا عجزهم عن الإمساك بطبيعة التحدي الشعبوي.

من الضروري لكي نأخذ هذا التحدي في الحسبان، أن نرفض الرؤية التبسيطية التي تنثرها الميديا التي تقولب الشعبوية بوصفها محض ديماجوجية. يقدم لنا المنظور التحليلي الذي طوّره إرنستو لاكلو أدوات نظرية مهمة لمعالجة هذا السؤال. إنه يعرف الشعبوية بوصفها طريقة لبناء السياسي الذي يتقوّم على تأسيس مجابهة سياسية تقسم المجتمع إلى معسكرين داعية إلى تحريك «الفئة القليلة» ضد «من هم في السلطة».

إن ذلك وثيق الصلة بالسعي نحو بناء حامل جديد للممارسة الجمعية – الشعب – قادر على كشف النظام الاجتماعي المعيش بوصفه نظامًا غير عادل. إنها ليست أيديولوجية، ولا يمكن أن ينسب لها محتوى برنامجي معين. ولا هي نظام سياسي. إنها طريقة لمممارسة السياسة يمكن أن تأخذ أشكالًا متنوعة بحسب الزمان والمكان، وتتلاءم مع طيف متنوّع من الأشكال المؤسسية. تشير الشعبوية إلى بعد السيادة الشعبية وبناء «الديموس» الذي هو مكوّن أساسي للديمقراطية. إنه هذا البعد بالضبط ما قد نبذته الهيمنة النيوليبرالية، وذلك هو السبب في أن القتال ضد ما بعد الديمقراطية يتطلب تدخلًا سياسيًا شعبويًا.


4. الشعبوية اليسارية التقدمية

تقدم لنا «اللحظة الشعبوية» التي نشهدها الفرصة لإعادة تأسيس المجابهة السياسية التي تسمح لنا بإعادة خلق التوتر الجدلي المميز للديمقراطية. في الواقع، يقوم العديد من الأحزاب الشعبوية اليمينية بذلك بالفعل، وهو ما يفسر تقدمها مؤخرًا. يمكن أن تفسر قوة الشعبوية اليمينية بالتحديد بأنها قادرة في بلدان عديدة على رسم جبهة وبناء مفهوم ما للشعب في سبيل ترجمة المقاومات المتنوعة لظاهرة الألجرة التي أنتجتها الهيمنة النيوليبرالية، سياسيًا. إن دعوتها بارزة بالخصوص بين الطبقة العاملة، لكنها أيضًا تنمو بين الطبقة الوسطى المتأثرة ببنى السيطرة الجديدة المرتبطة بالعولمة النيوليبرالية.

لسوء الحظ، ليست استجابة القوى الديمقراطية إلى الآن كافية. لقد تأثروا بخطابات قوى المؤسسة التي تحقّر الشعبوية في سبيل الإبقاء على سيطرتها. إنهم يواصلون الدفاع عن الاستراتيجيات السياسية التقليدية غير المناسبة لأزمة الشرعية العميقة التي تعصف بالأنظمة الديمقراطية الليبرالية. إن تلك الأزمة هي التعبير عن المطالب جد المتباينة التي لا يمكن صياغتها عبر ثنائية اليمين/اليسار كما جرى موضعتها تقليديًا. فعلى خلاف النضالات التي اتسم بها عصر الرأسمالية الفوردية عندما كان هنالك طبقة عاملة تدافع عن مصالحها الخاصة، تطورت المقاومات في ظل الرأسمالية النيوليبرالية بعد الفوردية في عدة مواقع خارج العملية الإنتاجية.

لم تعد تلك المطالب مقابلة للقطاعات الاجتماعية التي تعرَّف بمصطلحات سوسيولوجية ووفق موقعها في البنية الاجتماعية. عديدة هي المطالب التي تمس الأسئلة التي تتعلق بجودة الحياة والتي لها سمة مستعرضة transversal. تغدو أيضًا المطالب المرتبطة بالنضالات ضد التمييز الجنسي والعنصرية وأشكال السيطرة الأخرى مركزية بشكل متزايد. وفي سبيل تضمين مثل ذلك التنوع في الإرادة الجمعية، لم تعد المجابهة اليمينية/اليسارية التقليدية صالحة. تتطلب فدرلة تلك النضالات تأسيس تآزر بين أشكال الحركة والحزب الاجتماعية، وبين مقصد بناء «الشعب»، ومن أجل ذلك، يكون بناء جبهة على الطريقة الشعبوية مطلوبًا.

لا يعني ذلك أن التعارض بين اليمين واليسار لم يعد ذا صلة، بل يجب أن يطرح بطريقة أخرى، عبر الإحالة إلى النوع من الشعبوية الذي هو على المحك، وإلى سلاسل المعادلات التي يبنى عبرها «الشعب». نتج الشعب دائمًا، بوصفه مقولة سياسية، من بناء خطابي، ويمكن أن تبنى «النحن we» التي يتبلور حولها بطرائق مختلفة بحسب عناصرها المكوّنة والكيفية التي يحدد بها «الهم they» التي يواجهها الشعب.

تلك هي نقطة الاختلاف بين الشعبوية اليمينية – مثل تلك الخاصة بمارين لوبان التي تبني مفهومًا للشعب محدودًا بالمواطنين الأصليين، مستبعدة المهاجرين الذين ينبذون إلى «هم» بالتوازي مع قوى النخبة «المعادية للأمة anti-nation» – وبين الشعبوية اليسارية التقدمية. تمثَّل الأخيرة في فرنسا عبر حركة جون-لوك ميلانخو الذي لديه تصور أوسع «للنحن we» يضم المهاجرين والحركات البيئية ومجموعات الميم، معرِّفًا «الهم» بمجموعة القوى التي تدعم سياستها اللامساوة الاجتماعية. في الحالة الأولى، نواجه بشعبوية سلطوية مقصدها هو تقييد الديمقراطية، بينما في الحالة الثانية، هي شعبوية تتوق إلى توسيع وتجذير الديمقراطية.


5. الشعبوية المضادة

علاوة على سؤال كيف يُبنى الشعب، تساؤل مهم آخر يجب أن يوضع في الاعتبار لكي نميز بين أنماط الشعبوية المتنوعة: ما الطريقة التي تُفهم بها العلاقة بين الشعب وهؤلاء الذين «في السلطة». تتطلب الهويات الجمعية دائمًا ثنائية نحن/هم، لكن المجابهة بين «النحن» و«الهم» على الصعيد السياسي توضّح وجود تضاد هو ذاك التناقض الذي لا يمكن أن يحظى بحل عقلي.

يمكن أن يتجلى ذلك التضاد نفسه رغم ذلك بأشكال مختلفة. يمكن أن يأخذ شكل مواجهة الصديق/العدو التي يكون فيها الهدف هو استئصال «الهم» لتأسيس نظام جديد جذريًا. تزودنا الثورة الفرنسية بمثال لتلك الشعبوية «المضادة antagonistic». يمكن لتلك المواجهة أيضًا أن تحدث بشكل «جدلي agonistic» حيث «الهم» لا يُنظر إليهم كعدو، ولكن كخصم سيقاتل ضده المرء عبر وسائل ديمقراطية. ولكي تلتئم الحركة الشعبوية مع الديمقراطية التعددية، لا بد أن تكون المواجهة جدلية. لا تحاجج شعبوية جدلية عن الرفض التام للإطار المؤسسي القائم. إن هدفها ليس تحطيم مؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وإنما فك الاتصال بين العناصر التي تشكل النظام المهيمن، وإعادة تشكيل هيمنة جديدة.

إن شعبوية يسارية ملائمة للوضع الأوروبي لا بد أن تفهم «كإصلاحية جذرية» تناضل من أجل استعادة الديمقراطية وتعميقها. إنها نضال يتحقق عبر أدوات «حرب المواقع» داخل المؤسسات في سبيل تغييرها. نضال سوف يتطلب بالفعل تغيرات مؤسسية فعالة كي تسمح بالتعبير عن الإرادة الشعبية، ولكن تلك التغيرات لا تطرح تحديًا راديكاليًا للمؤسسات الديمقراطية. إنها ليست مطلبًا لإنهاء الديمقراطية التمثيلية، ولكن لتقوية المؤسسات التي تعطي صوتًا الشعب. إنها شكل من «جمهورانية العامة» التي تندرج في المسار الديمقراطي للتقليد الجمهوراني الذي كان ميكيافيلي هو نواته.

تنبع الأزمة الحالية من أن مؤسساتنا ليست تمثيلية بما فيه فيه الكفاية، لا من جوهر فكرة التمثيل نفسها. فلا يمكن أن يكون الحل هو القضاء على التمثيل والمؤسسة في ديمقراطيتنا الراهنة كما يزعم البعض. وكما بسطت في «جدليات»، فإن المؤسسات التمثيلية في مجتمع ديمقراطي يعترف بالاحتمالية الحاضرة دومًا للتضاد، وحيث التعددية لا تُعامل بطريقة تجنيسية وضد سياسية – تلعب في منحها شكلًا لانقسام المجتمع، دورًا خطيرًا لأنها تسمح بمأسسة ذلك البعد الصراعي. يمكن الآن لذلك الدور فحسب أن ينجَز عبر وجود المواجهة الجدلية. فالمشكل الرئيسي لما بعد الديمقراطية هو غياب مثل تلك المواجهة الجدلية وعجز المواطنين عن الاختيار بين بدائل فعلية. ذلك هو ما يجعل سؤال المجابهات حاسمًا.

إنني مقتنعة بأن المحور الرئيسي لصراعنا السياسي في السنوات القليلة المقبلة سوف يكون بين الشعبوية اليمينية والشعبوية اليسارية، ومن الضروري أن تفهم القطاعات التقدمية أهمية الانخراط في ذلك النضال. وأن نشكّل شعبوية يسارية هو أمر يتطلّب إبصار السياسة بطريقة تعترف بسمتها القتالية. يجب أن ننبذ المنظور العقلاني السائد في التفكير السياسي الديمقراطي الليبرالي ونعترف بأهمية الأمزجة العامة (التي أدعوها «صبوات passions») في تشكيل الهويات الجمعية. وعبر تشييد مفهوم آخر للشعب، تنبع الإرادة الجمعية من تحريك الصبوات للدفاع عن المساواة والعدالة الاجتماعية بحيث إنه سيكون ممكنًا مكافحة السياسات المعادية للأجانب المدعومة من الشعبوية اليمينية.

وعبر إعادة خلق الجبهات السياسية، تشير «اللحظة الشعبوية» التي نشهدها في أوروبا إلى «عودة السياسي»، عودة يمكن أن تفتح الطريق للحلول السلطوية عبر أنظمة تضعف المؤسسات الديمقراطية الليبرالية، ولكن يمكنها أيضًا أن تقود إلى إعادة تأكيد وتعميق القيم الديمقراطية. كل شيء سوف يعتمد على نوع الشعبوية الذي سينبجس منتصرًا من النضال ضد ما بعد السياسة وما بعد الديمقراطية.