لا يخلو كتاب أو مرجع عن تاريخ السينما من جزء يخصص للسينما الصامتة، تلك السينما الساحرة، بل إن المرء لا يكون مغاليا إذا وضع كبار نجومها في الدرجة الأولى من درجات الإتقان والإبداع. فكوميديا تلك الحقبة –وحديثنا هنا أشد تعلقا بالكوميديا– كانت غنية بصورة لا تتماشى مع عمر فن السينما حديث الولادة. حقا، لقد ولدت السينما الصامتة عملاقة.

ولعل أشهر رموز السينما الصامتة على المستوى الجماهيري هو الإنجليزي «تشارلي شابلن»، لكن هناك آخر لا يقل عنه موهبة وإبداعا، وهو الأمريكي المجتهد، «باستر كيتون». نخصص تلك المقالة للحديث عن هاتين الظاهرتين، ولتكن البداية مع صعلوك السينما الأعظم، شارلي شابلن.


تشارلي شابلن: الصعلوك

من منا لا يشعر بالألفة عند رؤية هذا الرجل شديد البساطة، في زيه المميز، والقبعة والعصا والشارب والحذاء؟

أيا كانت ثقافتك، أو بلدك، أو لغتك، فسوف تتعرف على هذا الشخص، وعلى الأغلب ستشير إليه قائلا: شابلن. وإن كنت أكثر اطلاعا على السينما أو في مجتمع أكثر اهتماما بالفنون فربما تشير إليه قائلا: الصعلوك the tramp، وهو الاسم الصحيح لتلك الشخصية التي صنعها صانع الأفلام تشارلي شابلن، المولود عام ١٩٨٩ في إحدى ضواحي لندن.

كان شابلن مخرجا وممثلا في عصر السينما الصامتة، قام بكتابه معظم أفلامه، بل وقام بتأليف الموسيقى التصويرية للعديد منها. كان شابلن فنانا متعدد المواهب، وذلك أحد أسباب استحقاقه هذة الشهرة والاستمرارية التي حظى بها.

نجح شابلن ابن العائلة الفقيرة، والأم المريضة عقليا، في إنتاج أفلامه بنفسه بعد عدد قليل من الأفلام التي عمل فيها تحت سيطرة منتجين آخرين. لكن قصة كفاح شابلن ليست هى نقطة البحث الآن، بل قصة نجاحه واستمراريته.

لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف فكر شابلن في شخصية الصعلوك، وهل كانت صدفة كما يروي البعض، مثل فيلم شابلن الذي يجعل الأمر أشبه بإلهام جاءه في غرفة تغيير الملابس، وكأن القبعة والعصا نادتاه فارتداهما ليجد نفسه يمشي تلك المشية المميزة: مشية الصعلوك. لكن الأوقع أن شخصا بذكاء وموهبة شابلن، من المؤكد أنه فكر في الأمر وتخيله كثيرا في رأسه تلك المليئة بالمفاجأت.

ظهر شابلن بتلك الشخصية لأول مرة على الشاشة عام ١٩١٤، في فيلم «سباق سيارات الأطفال في البندقية»، ولما لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا وحظت باهتمام صناع الأفلام، قرر الاستمرار في استخدامها، بل وصنع لها عالما خاصا، ورسم لها صفات مميزة، لم يتخل عن أي منها لاحقا، حتى أصبح الصعلوك شخصية مستقلة ومميزة.

يكمن سر نجاح الصعلوك في قدرته على إثارة تعاطف المشاهدين معه، فتعاطف المشاهد مع الشخصية من أهم عناصر نجاحها ونجاح الفيلم. وسأضرب مثالا على ذلك بسلسلة الأب الروحي للرائع كوبولا، حيث نجد أن أحد أهم عوامل نجاح الفيلم هو تعاطفنا الحقيقي مع الشخصيات رغم كونهم رجال عصابات يرتكبون جرائم بشعة ويتصرفون بطريقة لاأخلاقية، فقد حرص صناع الفيلم على صبغ صفة معينة على هذه العائلة الأجرامية، ألا وهي صفة الولاء، ولاء الأفراد لبعضهم، ولعائلتهم، وللإرث الثقافي المميز لهم، كل ذلك أجبرنا على التعاطف معهم رغم فسادهم، فأي منا سيعجز عن استيعاب وتفهم جانب الانتماء إلى عائلة والولاء لها؟ وهكذا، كان تعاطفنا مع الصعلوك من أهم عناصر نجاحه، فما من شيء أشد أثرًا على أنفسنا من اللحظات التي يثير فيها ضحكنا، ونحن ندرك في أعماقنا أننا لا نضحك إلا على ضعفنا الإنساني، ذلك الضعف الكامن في كل منا، الذي نراه مجسدا فى ضعف وبراءة هذه الشخصية.

لا بد أن يكون الموقف المحرج الذي يتورط فيه الشخص مألوفًا كلية بالنسبة إلى المشاهد، وإلا فسيضيع المغزى تماما.

هكذا قال شابلن، وشرح في مناسبة أخرى أنه عندما أراد إضافة جانب قلة الحيلة على الصعلوك، فعلها عن طريق كتفيه المتقوسين إلى الداخل، فهذه الوضعية تعطي لأي شخص يراها الانطباع المراد تماما. ولعل تلك الهيئة مما جال بخاطر الناقد البلجيكي لوك سانت عندما قال إن تمييز شخصية الصعلوك سهل بدرجة لا تنافسها فيها أي شخصية أخرى من أي نوع.

أخذ شابلن يضيف إلى هذه الشخصية جوانب متعددة تزيدها قربا من ذهن وقلب الجمهور، لكن براعته الشديدة تجسدت في عمله الدءوب على تزويدها بصفات لا تقف أمامها حواجز الثقافة أو اللغة أو حتى الزمن. فجعل من الصعلوك شخصية صامتة تماما، وحافظ عليها كذلك معظم الأوقات، حتى بعد دخول الصوت إلى السينما، فأنت لا تحتاج إلى معرفة لغة معينة كي تفهم الصعلوك.

كانت هناك دائما رسالة غير مباشرة في صعلوك شابلن، وهي ضرورة تقبل الآخر والكف عن إصدار الأحكام في حق بعضنا، خاصة بناء على المظهر الخارجي.

عرف شابلن كيف يجعل صعلوكه يضحكنا بأقل الإمكانيات، دون ربطه بزمان أو مكان معين، مثل ذلك المشهد في فيلم «حمى الذهب» عندما قدم الصعلوك رقصة مستخدما لفافتي خبز. ويحكى أنه عند عرض الفيلم لأول مرة في برلين تحمس الجمهور لهذا المشهد بشدة إلى درجة المطالبة بإعادته، فتم وقف الشريط وإعادة عرض المشهد ثانية، وهو الحدث الذي وجده «لوك سانت» حالة نادرة الحدوث.

كان شابلن يجل ويحترم الإنسانية والنفس البشرية، وكان يحب إدخال السعادة والصفاء على قلوب جمهوره، ربما بسبب طفولته القاسية ورحلته الشاقة. كتب شابلن مرة: «ليس لدي فلسفة معينة أو خطط للحياة، سواء كنا حكماء أو بلداء، فعلينا جميعا خوض الصراع مع الحياة». وحكى أنه اضطر مرة إلى المبيت في منزل سائق تاكسي كان يتولى إيصاله إلى أحد الفنادق الفاخرة، لكن بسبب بعض المشاكل القانونية المعتادة، واحتياجه إلى تغيير الفندق في ساعة متأخرة، لم يجد شابلن غرفة فارغة في فندق أخر، فعرض عليه السائق المبيت في منزله، ووجد نفسه مستلقيا إلى جوار طفل صغير، ربما في الثانية عشرة من عمره، فلم ينم شابلن طوال الليل خوفا من إيقاظ الطفل، وبعد أن تناول الإفطار في الصباح ظل يقدم عروضا للطفل وابن الجيران مستخدما ما وجده في المنزل البسيط، ليستغرق الصبي في الضحك ويقول له: «المزيد، أريد المزيد»، حتى قال له الصبي: «أنت حقا تشارلي».

كانت هناك دائما رسالة غير مباشرة وغير منطوقة في صعلوك شابلن، وهي ضرورة تقبل الآخر والكف عن إصدار الأحكام في حق بعضنا البعض، خاصة بناء على المظهر الخارجي. ألقى شابلن بهذة الرسالة في القلوب دون أن يصرح بها في أفلامه في حقبة العشرينات والثلاثينات، في حين يحتاج بعض كبار الفنانين حتى الآن إلى قولها صراحة، أو تورية في اعمالهم حتى بعد كل ما وصلنا إليه من تقدم تكنولوجي وتقني.

توفي شابلن، وعاش الصعلوك، وما يزال حيا يضحكنا أي مشهد نراه له، وما زلنا نشاركه همومه وأعباءه رغم الاختلاف الكبير بين حياتنا اليوم وحياته. لقد جعل شابلن من الصعلوك المسكين سيء الحظ، شخصية ذات مبادئ وقيم وقلبٍ صاف وأخلاق عالية. فهل من مشهد أكثر رقيا من الصعلوك في فيلم «أضواء المدينة» عندما أدرك لتوه أن الفتاة التى يميل إليها كفيفة، فما كان منه –بدون تفكير– إلا أن خلع لها قبعته.


باستر كيتون: الوجه الحجري الأعظم

في حين تميز شابلن في التعبير عن أعمق المشاعر بمنتهى البساطة، ومخاطبة وجدان المشاهد، وإقامة رابط عاطفي بين الشخصية السينمائية وبين المشاهد، كان باستر كيتون المعاصر له يتميز بأمور مختلفة تماما، مكنته أيضا من التواصل مع جمهوره بنجاح شديد، وإن كان لم يحظ بالتقدير الحقيقي المناسب لموهبته إلا بعد انتهاء مسيرته الفنية، وربما حتى بعد وفاته.

كان باستر كيتون، المولود عام ١٨٩٥ في ولاية كنساس، ممثلا ومخرجا أيضا للأفلام الصامتة، كما ألّف بعض أفلامه، لكنه لم يكتب لها الموسيقى مثل شابلن، ولم يُنتِج معظم أفلامه كذلك. وتميز كيتون بوجه تخلو ملامحه من أي تعبير، ولعل ذلك هو الاختلاف الأكبر بينه وبين شابلن، حتى أنه حصل على لقب «الوجه الحجري الأعظم». لكن حِرَفية كيتون تجسدت في إمكانياته البهلواينة الفائقة، وخفة حركته وسرعته ومهاراته الحركية، فقد كان أبواه من العاملين بالسيرك، واستخدمه أبوه في العروض مند صغره، فكان يربطه ويطوح به عبر مسافات كبيرة على المسرح، لكن كيتون الطفل لاحظ أن الجمهور لا يضحك جيدا إذا قام هو بالضحك عقب الدحرجة والسقوط الرهيب، بل ينفجر من الضحك عندما ينهي كيتون السقطة بوجه جامد تماما خال من أى تعبير، ومن هنا تعلم كيتون الحفاط على وجه ثابت؛ وظلت هذه هي علامته المميزة حتى بعد دخوله عالم صناعة الافلام. حتى أنه سخر من نفسه في فيلم «اتَّجِه غربا» حيث يرفع أحدهم السلاح في وجهه ويقول له: «ابتسم»، فلا يستطيع، ولا حتى يحاول، كأنه يعلم جيدا أن عقله لا يملك تلك الإشارة ليرسلها إلى شفتيه، فيكتفي بمحاولة رسم ابتسامة على شفتيه مستخدما إصبعيه، وهو ما يفشل فيه أيضا.

كان كيتون يقوم بأكثر الحركات «شقاوة» وبهلوانية ومهارة في أفلامه، ويؤديها بسرعة ودهاء، دون أن يسمح لتعبير واحد بالظهور على وجهه، وعلى عكس شابلن، لا يعطيك أبدا تمهيدا او تلميحا لما سوف يحدث في اللحظة القادمة. فنراه مثلا في ذلك المشهد يهرب من رجال الشرطة ثم يقف فجأة عندما يصل الى الطريق، وبمنتهى التلقائية وبوجه جامد يفاجئنا عندما تمر سيارة في المشهد، يمد ذراعه ليتعلق بها في أقل من الثانية، ويخرج معها من الكادر.

ربما لم يصنع كيتون شخصية تصل إلى العالمية وتنجح في اجتياز عامل الزمن مثل «الصعلوك»، لكنه نجح في ترك أثره الفني في صناع الأفلام حتى يومنا هذا، فالسيمترية (التماثل بين شقين) -مثلا– التي يتميز بها العبقري المعاصر «ويس أندرسون»، تعود بشكل كبير إلى سيمترية كيتون. فقد كان كيتون من أوائل من تعمدوا رسم الكادرات بطريقة سيمترية، كما نجد كثيرا من المخرجين الذين تعمدوا إعادة بعض مشاهده شديدة الابتكار (والخطورة أحيانا) مثل مشهد سقوط واجهة المنزل عليه في فيلم «سيمبوت بيل جونيور»، الذي نراه في عدد كبير من الأعمال التجارية مثل أفلام جاكي شان وغيره. وبهذا يبقى كيتون –على نحو ما– مؤثرا في الجمهور حتى الآن، وما تزال عبقريته تصل إلينا نحن المشاهدين وإن كان ذلك دون ذكر مباشر لاسمه.

ختاما

تميز كيتون بوجه تخلو ملامحه من أي تعبير، ولعل ذلك هو الاختلاف الأكبر بينه وبين شابلن، حتى أنه حصل على لقب «الوجه الحجري الأعظم».

ما زال بوسع كل من شابلن وكيتون رسم البسمة على وجهك حتى اليوم، وإدخال السرور والصفاء إلى قلبك، لكن من منا سيشعر بالألفة لمرأى صورة كيتون كما يشعر بها عند إبصاره صورة للصعلوك؟ وأيهما كان من الأيسر عليه الاستمرار في توصيل رسالته والتعبير عن نفسه بعد دخول الصوت؟ ففى حين كانت رسالة شابلن موجهة بالأساس إلى القلب، كان بإمكانه –وإن قام برفض ذلك– مواصلة ذلك في عصر الصوت، إلا أن كيتون كان يعتمد بشكل أكبر بكثير على مخاطبة العين وإمتاعها، ولم يكن الصوت عنصرا يمكن توظيفه لصالحه، أو ربما كان بإمكانه استغلاله في إضافة المزيد من الإثارة على حيله بإدخال بعض المؤثرات الصوتية، لكن جمال وفرادة حيله كانت في بساطتها.