– هل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنًا؟
فقالت ببساطة:
– إنه الكبر!
فقال بارتياب:
– لم أسمع عن مُعمِّر عاش طول هذا العمر.

يعود عرفة بعد غيبة طويلة، يقف قليلًا أمام البيت الكبير ثم يتقدم على مهل إلى «حارة الجبلاوي». لم يكن لعرفة في حياته شيء غير أسرته الصغيرة التي تضم أمه وأخاه. الأخ هو حنش، صاحبه ومساعده في العمل. والأم هي جحشة بنت زين، سائلة الغيب وضاربة الودع في الحارة. يعتبرها عرفة صاحبة الفضل في تشكيل شخصيته ومصيره، فقد سلّمته إلى الساحر العجيب، قارئ الأفكار الذي علّمه فنون السحر وغيّر حياته كليًا.

عاد مدفوعًا برغبة خفية إلى الانتقام لأمه، ضحية الفتوات، التي لاقت كثيرًا من الآلام في حياتها، وأخذ الناس يعرضون بها بعد موتها. وحدث أن وقع أمامه الاعتداء على شكرون -والد حبيبته– فتأصلت عنده الرغبة في الانتقام من جميع الفتوات. يقول بأنه سيذهب إلى الجبلاوي، وتنقلب الكلمة إلى حقيقة مرعبة، تشتعل رغبته في التسلل إلى البيت الكبير ليطّلع على الكتاب الذي طُرد بسببه أدهم، كتاب السحر الأقدم، ويحصل على سر قوة الجبلاوي.

جدنا من دنيا ونحن من دنيا أخرى، وما كنت لتفيد شيئًا من محادثته لو وقعت، ولعله نسي الوقف والنظارة والفتوات والأحفاد والحارة!

في كتابه «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، يوضح جورج طرابيشي ملامح التجربة الإنسانية التي شكّلها محفوظ في الروايـة، وهو ينتقد التصور الديني –الخالص– الذي هيمن على الرواية في كثير من الفصول.

يقول:

إذا كان النجاح قد حالف محفوظ في القسم الأول من أولاد حارتنا، في قصة أدهم، فإنه أبعد ما يكون في الأقسام الثلاثة التالية عن أن يكون قد أعاد كتابة تاريخ البشرية روائيًا. والحق أن محفوظ لم يفعل من شيء سوى أنه نسخ هذا التاريخ نسخًا مع نزر من التحوير، فألبسه جلابيب أولاد حارة الجبلاوي. والتاريخ إذا ما أُلبس الجلباب يبدو ضامرًا هزيلًا، مهما يكن في الأصل عظيمًا مجيدًا.

وأخيرًا، يؤكد على أهمية الرواية في فصلها الخامس والأخير حيث تستعيد الحبكة قوتها، ويتخطى السرد الدرامي القصة التقليدية التي تأسست دينيًا وتشكلت مساراتها خلال العهدين القديم والجديد، وفي الدين الإسلامي بعد ذلك.

عرفة، إنه كما يدل على ذلك اسمه. نبي العصور الحديثة: العلم. قد سمع عرفة هو الآخر أنين المُعذبين من إخوته في حارة الجبلاوي، فقطع على نفسه عهدًا بأن يُخلِّصهم من سطوة الناظر والفتوات.

تسلّل عرفة إلى حديقة البيت الكبير من خلال ممر أسفل الأرض قد حفره بمساعدة حنش، وترقّى على الدرج حتى وصل زاحفًا إلى «الباب الجانبي الذي تقول الرباب إنه يفضي إلى المخدع». سار في ردهة على أطراف أصابعه، ثم أدار المقبض اللامع للباب العظيم وتسلّل برفق إلى الداخل. وبعد أن تعوّد الظلام وحاول الاستمساك بقوته وعزمه، تراءى له رسم فراش كبير وتوقع أن يكون الجبلاوي نائمًا عليه، ولكن حركة الخادمة العجوز التي غادرت الغرفة للتو قد تلاعبت بأعصابه وأفقدته التفكير:

الجبلاوي… إنه نائم الآن هناك غير دارٍ بجريمته، كم يود أن يلقي نظرة عليه ولو من بعيد، لولا هذا الباب الموارب الذي ينذر بعودة الذاهبة.

انتظر صابرًا حتى تعود المرأة للنوم، ثم جذب الباب برفق وتسلل زاحفًا إلى الخلوة ليسرق الكتاب الذي يتضمن شروط الوقف وآيات السحر التي سيطر بها الجبلاوي على الخلاء والناس. وأشعل شمعة ليكشف السر، فرأى عينين لعجوز أسود يرقد على فراش في مواجهة الغرفة، وانقض عليه بيد مجنونة قبضت على عنقه حتى تحرك العجوز حركة أخيرة ثم همد.

مرّت الثواني وهو في جحيم من العذاب الصامت، وشعر بقواه تخورـ وبأن الزمن بات أثقل من الذنوب، وناداه الهرب كقوة لا قبل له بها.

تتكرر المأساة مرة أخرى، خطيئة آدم، وأدهم. الرغبة في المعرفة، النار المقدسة التي حملها «برومثيوس» تشتعل مرة أخرى. لكن ليس عرفة هو الذي سيهلك هذه المرة، «فالبشرية قد تجاوزت أخيرًا بدائيتها».

وحين انكشف الظلام، جاء صوت يُجلجل في السكون بقوة، وتبعته أصوات الصراخ والعويل، وجاء رجل من أقصى الحارة، فلما مرّ بعرفة سأله: ماذا جرى؟ فأجابه: «لله الأمر، من بعد العمر الطويل مات الجبلاوي». وعُرف فيما بعد أن الجبلاوي حزن على موت خادمه الأمين «تأثرًا لم تحتمله صحته الواهية في تلك الذروة من العمر ففاضت روحه».

يوضح جورج طرابيشي جانبًا هامًا لموت الإله في رؤية محفوظ، فالجبلاوي «مات غمًا من تجرؤ ذريته عليه».

مات من تلقاء نفسه لمجرد أن أحد أبنائه قد تجرأ على اقتحام بيته، كأن محفوظ يريد القول إن العلم لم يقتل الله خلافًا لما هو شائع، «الجبلاوي مات ولم يُقتل، مات من تلقاء نفسه بمجرد أن أخذت عرفة الرغبة في أن يعرف».

– ألم تلمح الجبلاوي أو تسمع صوته؟
فهز رأسه في ضيق قائلًا:
– كلا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.