في الأسابيع القليلة الماضية اجتاحت الصين احتجاجات واسعة النطاق وصلت إلى كبريات المدن كبكين وشنغهاي ووهان وقوانغتشو وشينجيانج، وهددت باضطراب سلاسل التوريد العالمية بعد تظاهر عمال أكبر مصانع «آيفون» رفضاً لسياسة «صفر كوفيد» التي تفرضها حكومة الحزب الشيوعي الحاكم، وتشمل تقييد حركة معظم السكان وإجراءات صارمة للوقاية من انتشار فيروس كورونا المستجد المعروف باسم كوفيد 19.

وهتف المتظاهرون «نريد الحرية.. لا مزيد من الإغلاق!» و«يسقط شي جين بينج (الرئيس) والحزب الشيوعي الصيني!»، ومع تباين أحجام الاحتجاجات ما بين مدينة وأخرى فإن انتشارها على نطاق واسع على مستوى البلاد لم يسبق له مثيل منذ مجزرة ميدان تيانانمين عام 1989، عندما قتلت القوات الحكومية ما يُقدر بعشرة آلاف شخص لقمع الاحتجاجات المطالبة بالحريات السياسية، ومن حينها طبقت بكين سياسة قمعية غاية في التشدد إلى يومنا هذا.

دولة الرجل الواحد

أتت هذه التطورات عقب حصول الرئيس الصيني، شي جين بينج، في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الثاني، على ولاية ثالثة في رئاسة الحزب الشيوعي الحاكم، لخمس سنوات أخرى من المرجح أن يتم تجديدها لاحقاً.

وأجرى الرئيس شي البالغ من العمر 69 عاماً، تغييرات كبيرة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (بمثابة برلمان داخلي للحزب وتضم 205 أعضاء)، استطاع بعدها الحصول على موافقة اللجنة لتجديد ولايته بعد تصويت جرى في جلسة مغلقة، ومن المقرر أن تبدأ هذه الولاية في آذار/مارس 2023.

كما رسخ شي نفوذه بتعيين نفسه رئيساً للجنة العسكرية المركزية، وتعيين رئيس مكتبه ومقربين منه كأعضاء في اللجنة الدائمة للحزب الشيوعي (تعد اللجنة الدائمة مجلس القيادة الفعلي للصين وتضم سبعة أعضاء فقط).

وقد ظلت الجمهورية الصينية منذ تأسيسها عام 1949 وحتى 1976 تحت حكم ماو تسي تونج، لكن بعد تولي دينج شياو بينج مقاليد الأمور تم ترسيخ نظام حكم يعتمد مبدأ تداول السلطة، إلى أن اعتلى شي السلطة عام 2012، وسعى لإعادة إرث حكم الرجل الواحد وإلغاء فكرة تداول السلطة، فبطش بالقيادات الكبرى للحزب الشيوعي تحت شعار مكافحة الفساد، وعدل الدستور عام 2017، وحذف منه تحديد مدة بقاء الرئيس في السلطة بولايتين، ما يمكنه من البقاء في الرئاسة مدى الحياة.

وخلال اجتماع الحزب الشيوعي الأخير نفذ شي حركة استعراضية أوحت بقوة هيمنته وسطوته؛ فقد حاول الرئيس السابق، هو جينتاو (2003 :2014)، الجالس عن يساره، الاطلاع على ملف يخص مسئولاً آخر، فما كان من شي إلا أن أحضر رجلاً اقتاده إلى خارج القاعة أمام الكاميرات، وتم نشر الفيديو في وسائل الإعلام.

لكن وسط هذه النجاحات الشخصية لشي، واجه الاقتصاد أسوأ انكماش منذ أكثر من أربعين عاماً في ظل التطبيق الصارم لسياسة «صفر كوفيد» مما أضر بشدة بمجالات اقتصادية عديدة كتجارة التجزئة وقطاع الترفيه والسفر، وأضعف من جذب الاستثمارات الأجنبية، وارتفعت البطالة وسط الشباب في المدن حتى وصلت إلى نحو 20%، مما زاد من حدة الغضب في الشوارع.

الاحتجاجات

خلال مؤتمر الحزب الشيوعي تفاخر شي بأنه حقق «معجزتين: تنمية اقتصادية سريعة واستقراراً اجتماعياً بعيد الأمد»، لكن يبدو أن الضرر الذي لحق بالمعجزة الأولى خلال الأشهر الماضية مثَّل تهديداً للمعجزة الثانية؛ وأثّر سلباً على صورة النظام الصيني أمام العالم بعد أن اجتهد ليثبت تفوق نموذجه وفعالية إدارته لأزمة كورونا مقارنة بالولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية.

فالبنية التحتية الصحية في الصين أثبتت قصوراً فادحاً في الأداء مقارنة بنظيراتها في الولايات المتحدة وأوروبا وفشلت بكين في تنفيذ برامج التطعيم واتخاذ التدابير اللازمة، وعوضاً عن ذلك اتبعت سياسة القمع والحظر، ورفضت الاعتراف بفشل سياساتها الصحية.

ضاق المواطنون ذرعاً بسياسة صفر كوفيد المتشددة ولكن سطوة الحزب الشيوعي أبقت هذا الغضب مكتوماً حتى انفجرت تظاهرات في كبريات المدن رفضاً لاستمرار الإغلاق، مما وضع النظام أمام تحد غير متوقع مع احتمال اتساع حجم الاحتجاجات ووصولها إلى مناطق إضافية وانضمام شرائح أخرى لها، فبالنظر إلى مناخ الخوف العام، يبدو من الواضح أن المتظاهرين يمثلون قمة جبل الجليد ويعبرون عن كتلة ضخمة يخاف معظمها التعبير عن غضبهم.

ومع اقتراب مهرجان الربيع في 22 يناير/ كانون الثاني، سيواجه النظام اختباراً مهماً؛ فإذا منع السفر على نطاق واسع في أهم إجازة سنوية في البلاد، فسوف تتعمق الأزمة، كما أن إتاحة حرية السفر قد تنشر روح الاحتجاج إلى جميع أنحاء البلاد، وذلك قبل موعد لمؤتمر الشعبي الوطني في مارس/آذار الذي سيعقد لتعيين رئيس الوزراء الجديد ومجلس الدولة لاستكمال ترتيبات القيادة التي تم الكشف عنها في مؤتمر الحزب الشيوعي.

ولا تبدو الأزمة حتى الآن كافية لخلق تصدعات في النخبة الحاكمة أو تشجيع ظهور أجنحة متعارضة داخل الحزب الشيوعي، خصوصاً بعد وقت قصير من إجراء شي ترتيبات أفضت إلى إحكام سيطرته على منظومة الحكم بشكل غير مسبوق.

وقد عملت آلة الرقابة الصينية في الأشهر الماضية على إزالة أي أخبار أو تعليقات على منصات وسائل التواصل الاجتماعي المحلية تتعلق بمشاعر الغضب العام واليأس بشأن إجراءات الإغلاق، خصوصاً موضوع الوفيات الناجمة عن إجراءات الإغلاق الصارمة، فمثلاً فرضت السلطات تعتيماً على حادثة مقتل 27 شخصاً بسبب انقلاب حافلة كانت تقلهم إلى الحجر الصحي في سبتمبر / أيلول الماضي، مما أثار مشاعر السخط لدى المواطنين الذين علموا بالحادث.

وهذا هو السبب في أن أخبار حريق أورومتشي كانت بمثابة حافز لهذه الجولة من الاحتجاجات؛ إذ عجزت عربات الإطفاء عن الوصول إلى الحريق بسبب غلق الطريق إلى المبنى المنكوب، مما أشعل احتجاجات واسعة غير معتادة، فالغالبية العظمى من الفعاليات الغاضبة سابقاً تعلقت بالشكوى من سلطات محلية، بينما ظلت الحكومة المركزية فوق مستوى النقد، ولكن نظراً لأن «صفر كوفيد» سياسة مركزية فإنها تشكل تحدياً لشرعية النظام.

واتخذ النظام إجراءات للتخفيف من سياسة صفر كوفيد، مثل تخفيض فترات الحجر الصحي، لكن ذلك لم يحل المشكلة فما زالت مصالح المواطنين معطلة بشكل عام، لذا قد يستمر السخط العام، كما أنه ما دامت القيادة تطالب بضرورة إبقاء الإصابات عند الصفر أو بالقرب منه ، سيظل المسؤولون المحليون يشعرون بالضغط لاتخاذ أي خطوات ممكنة لمنع انتشار الوباء مما يعني استمرار سياسة التضييق.

القمع الاستباقي

تتميز الصين ليس بنظام قمعي فقط، بل بنظام رقابي صارم يتصدى لمشاعر السخط مبكراً لمنع تحولها إلى أعمال احتجاج، وتم اعتماد هذا النظام منذ مظاهرات تيانانمين عام 1989، وهذا هو نظام «الاستقرار الاجتماعي» الذي يفخر به شي جين بينج، ويطلق عليه نظام «Weiwen tizhi»، والنفقات السنوية على هذا النظام تتجاوز بكثير ميزانية الدفاع الوطني، فهو يمكن الحزب الشيوعي من القضاء على جميع أشكال الاستياء الاجتماعي في مهدها بحيث لا يحتاج إلى نشر الجيش أو قوات الأمن كما فعل في عام 1989، لأن ذلك سيضر بشرعية الحزب.

وتنتشر مكاتب الحفاظ على الاستقرار في جميع مستويات الحكومة إلى جانب المؤسسات الإدارية العادية للرقابة الاجتماعية، ويعمل في هذه المكاتب بشكل أساسي عناصر من الأجهزة الأمنية، يركز عملهم على كيفية السيطرة على آراء المواطنين، وإدارة أجهزة الدعاية، والتحكم في تدفق المعلومات.

يتمثل أحد الأجزاء الأساسية في عمل هذا النظام في استخدام الأشخاص المؤثرين لإقناع الناس بالرضوخ لقرارات الحزب الشيوعي، فمثلاً يلجأ النظام للتواصل مع أعمام بعض المعترضين على هدم بعض المساكن لإقامة مشروعات حكومية، وعن طريق الأقارب مثلاً يتم دفع المعترضين إلى تغيير مواقفهم المعارضة بالترهيب أو الترغيب أو الإقناع.

ولكن مع طول فترة الإغلاق، مؤخراً، لمنع انتشار فيروس كورونا، مل المواطنون وتضرروا بشدة في معاشهم، وزاد عبء العمل على أجهزة الدولة والمتطوعين المقربين منها، والمتعاونون المحليون، وبدأ الناس يعبرون عن غضبهم علنا.

فلجأ النظام إلى إلى توظيف بلطجية للسيطرة على تحركات الناس والحفاظ على النظام الاجتماعي، وظهر بعض هؤلاء في فيديوهات وهم يستخدمون إجراءات عنيفة ضد السكان المعترضين، بما في ذلك ركلهم وضربهم بالعصي.

وتجدر الإشارة إلى أن سياسة صفر كوفيد لاقت استحساناً ونجاحاً في البداية، لكن الموجة الجديدة من عمليات الإغلاق التي أشعلها انتشار المتحور الفيروسي «أوميكرون» في أوائل صيف هذا العام 2022، مثّل الأمر اختباراً لصبر المجتمع إلى أقصى الحدود؛ فظهر النقص في الغذاء، ووقعت أخطاء كثيرة مثل إرسال أشخاص بالإكراه إلى الحجر الصحي على الرغم من نتائج الاختبارات السلبية، ومات بعض الناس لأنهم لم يستطيعوا الوصول إلى العلاج في المستشفى بسبب الحظر، وتم غلق البيوت على البعض تماماً.

ومع طول فترة الإغلاق، خصوصاً مع فتح بقية العالم، كان على الموظفين والمتطوعين الذين حشدتهم الدولة استخدام تدابير متطرفة لإجبار المواطنين على الامتثال للنظام، مما أدى إلى ردود فعل عكسية.

ظهرت ردود الأفعال العكسية في الاحتجاجات الشعبية الواسعة، وتحول نجاح الصين السابق في سياسة صفر كوفيد إلى مقاومة واسعة النطاق ليس فقط ضد الإغلاق ولكن أيضاً ضد حكم الحزب الشيوعي الصيني بشكل عام، وتطورت الاحتجاجات إلى تبني شعارات مناهضة للنظام مثل «يسقط شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني!» و«نريد الحرية!».

 لا يزال من غير المتوقع أن يسقط النظام الشيوعي في هذه المرحلة ، لكنه لو تخلى عن الاعتماد على نظام القمع الاستباقي ولجأ إلى تدابير قسرية صريحة لقمع المعارضة ستتعرض شرعيته للتهديد، ويزداد تآكل الثقة في البناء الذي شيده الحزب الشيوعي بشق الأنفس.

ورغم أنه من الصعب جداً أن تؤدي هذه الاحتجاجات إلى سقوط الحزب الشيوعي على المدى القريب، لكنها تذكر العالم بنقطة ضعف للنظم الأوتوقراطية في منافسات القوى العظمى، فقد أثبتت دروس التاريخ أن هذه النظم عادة ما تواجه الأخطار من الداخل وهي في أوج قوتها، وتخسر في هذه المنافسات.