تستطيع حتى النظرة العجلى ملاحظة هذا الحضور الكبير للشخصيات «المقدسة» في الأدب الروائي والمسرحي الحديث والمعاصر، سواء كان حديثنا عن الأدب الغربي أو العربي، فنحن لو ركزنا نظرتنا على شخصيتي المسيح والنبي محمد فحسب، فسنجد عددًا كبيرًا من الروايات والمسرحيات التي تجعل هاتين الشخصيتين موضوعًا لها، فعن المسيح نجد روايات مثل: «الإنجيل يرويه المسيح» لسارماغو و«إنجيل الابن» لنورمان ميلر و«يسوع ابن الإنسان» لجبران وحتى «باراباس» للاغريكفست، أما عن النبي محمد فثمة «محمد رسول الحرية» لعبد الرحمن الشرقاوي، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ و«آيات شيطانية» لسلمان رشدي، هذا لو قصرنا حديثنا على الروايات الأشهر والتي تقوم في مجملها حول الأنبياء، أما لو وسعنا إطار نظرتنا ليشمل مجمل الاستحضارات الرمزية لهذه الشخوص فربما سنجد أنفسنا أمام تراث ضخم من الروايات والقصص والمسرحيات والأشعار التي تحتضن رموزًا «مقدسة».

ونحن لا نستطيع أن نفصل هذا الرواج المعاصر للتمثل الأدبي لـ«شخصيات مقدسة» مثل المسيح ومحمد، عن التزعزع التاريخي الذي طال المدونات التقليدية والتي احتضنت قصص هذه الشخصيات لقرون طويلة، «الأناجيل بالنسبة للمسيح والسير بالنسبة للنبي محمد»، فبعد تعرض هذه المدونات للنقد التاريخي وتحديدًا منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أصبح من الممكن للمسيح ومحمد أن يحضرا في الأدب المعاصر وفقًا لحرية تصرف واسعة وخيال لا يوجد ما يحكمه أو يحاكمه سوى مهمات جديدة للأدب أو رهانات خاصة للأديب.

لكن ليس النقد التاريخي في ذاته هو الذي أتاح هذا الحضور الحر، بل كذلك وبصورة أهم، طبيعة هذا النقد، فلأن جانبًا كبيرًا من هذا النقد اعتمد وبصورة أساس على مقالة «أدبية» هذه التقاليد، أو بالأدق ملحميتها، فقد استحالت تلك التقاليد محض قصص ديني أسطوري وملحمي، وأصبح الأنبياء موضوعات عريقة للتقاليد الأدبية، وبات مستساغًا أنه وطالما قد ارتحل الأدب من الملحمة إلى الرواية، فعلى هذه الشخصيات أن ترتحل معه لهذا العالم الجديد، عالم الرواية الذي تحددت لحظة ميلاده باستقلاله «كعالم من الأكاذيب والسرد الخادع»[1] -مهما استند «مؤلفه» إلي التاريخ-، كذلك فإن النزول بهذه التقاليد من مرتبة «التأريخ» لمرتبة «التمثل الأدبي» و«التبرير الإيماني» و«خلق سرديات الخلاص»، فتح الباب واسعًا أمام إضافة تمثلات جديدة قد تنطوي هذه المرة على «مرافعات تشكيكية» في مواجهة الإيمان.

هذه المقالات والتي نبتدؤها بهذا المدخل، تحاول تتبع صورة هذه الشخصيات في ارتحالها من المدونات التقليدية إلي الأدب المعاصر – تحديدًا الرواية – لاكتشاف التغيير الذي طال صورهم جراء هذه الهجرة (أو التهجير)، ولأننا وكما سنوضح نتنبى رأيًا مفاده كون أدبية التقاليد «والتي لا تستوعب كل النص التقليدي» هي «أدبية فعالة»، بمعنى أنها استطاعت، وعبر السرد و«نجاعة الخيال» بتعبير الفرنسي التونسي فتحي بن سلامة، كشف عوالم لا يطالها التوثيق التاريخي الواقعي الذي يماثل كل الوقائع واللحظات، ولا تخضع لثنائية وهم/حقيقة وصدق/كذب، بل لأفق مستحيل/نجاعة الخيال [2]، فإن تتبعنا هنا لهذا الانتقال للمسيح ومحمد من «الأناجيل» و«السير» إلي الرواية محدد بتتبع أثر تغير «الشكل السردي» على اكتشاف أبعاد هذه الشخوص التي لا يستوعبها «الواقع المباشر» و«التاريخ متماثل اللحظات».

ولمبررات ستظهر في المقالات القادمة فقد اخترنا لاشتغالنا هذا أربع روايات؛ اثنتين عن المسيح «الإنجيل يرويه المسيح» و«إنجيل الابن»، واثنتين عن النبي محمد «محمد رسول الحرية» و«آيات شيطانية»، كي تكون محور تتبعنا لأثر التشكيل السردي الحديث على هذه الشخصيات.

لكن ربما علينا وقبل القيام بهذا التفحص لأثر الانتقال بين العوالم السردية، أن نتتبع أولا تاريخ التشكيك في هذه المدونات التقليدية وصلته بمقالة «أدبية التقاليد» ورؤيتنا لهذه الأدبية من حيث شمولها للنص من جهة ومن حيث فعاليتها «في كشف الأصول» من جهة أخرى.

ولأننا كنا قد تناولنا في مقالين سابقين تاريخ التشكيك في السيرة النبوية، فنسقصر اشتغالنا هنا على تاريخ التشكيك في الأناجيل [3].


موجز تاريخ التشكيك في الأناجيل

نستطيع أن نقول مع جاك شلوسر إن «يسوع التاريخ هو نفسه نتاج التاريخ، التاريخ الحديث، وحصرًا تاريخ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر»[4]، فهذا التشكيك في صحة روايات الأناجيل والذي يصل حد التفرقة الحاسمة بين «مسيح الإيمان» من جهة و«يسوع التاريخ» في جهة أخرى هو تشكيك حديث تماما، يرجعه كاسبر لتداعيات الإصلاح الديني والحركة التقوية [5]، فقيام هذه الحركة على التوق إلى «لاهوت كتابي عملي بسيط» أفقد التقاليد السابقة سلطتها، مما صنع مسافة مع هذه التقاليد مهدت لنقدها تاريخيا، فضلاً عن فعالية هذا النقد نفسه في مواجهة الإصلاح لـ«لاهوت العقائد» الكنسي، فبإثارته تفريقًا بين يسوع التاريخ ويسوع الكنائس فإنه يجرد الكنائس من سلطتها المستندة ليسوع هو من صنعها هي الخاص «فالبحث عن مسيح التاريخ لم ينبع من اهتمام تاريخي بحت بل كمعين في صراع التحرر من العقيدة» كما يقول شفايتزر.

ومن ضمن تلك التيارات المعاصرة الباحثة عن «يسوع التاريخ» وما يتصل بهذا البحث من تناول لمعنى كرازة المسيح ودلالة إتيان الملكوت السماوي وسبب الصلب ومعنى القيامة، وهي تيارات لها منطلقات شديدة التنوع بل والتناقض أحيانا ما بين عقلانية ورومانسية وفردية واجتماعية ودنيوية وأخروية، يهمنا في مقالنا هنا مدرسة تاريخية محددة، هي مدرسة «نقد الشكل»، هذه المدرسة التي بلغت أوجها مع الفيلسوف الألماني الهيدجري رودلف بولتمان، فإذا كانت هذه المدرسة تتفق مع كثير من المدارس الأخرى حول التشكيك في مدى قدرة الأناجيل على مساعدتنا في تقديم صورة تاريخية عن يسوع أو عن «الناصري الذي الذي صُلِبَ في عهد بيلاطس النبطي»، واعتبار الأناجيل هي مرآة لفكر كاتبيها أكثر منها تعبيرًا عن حياة المسيح، خصوصا مع التدقيق الذي وضعه بولتمان حول هذا بتقسيمه صورة المسيح إلي مسيح الكنيسة الفلسطينية ومسيح الكنيسة الهلينية – فضلا عن إرجاع كثير من أفكار وأقوال الأناجيل المنسوبة ليسوع إلي مصادر يهودية أو حتى كتابات أدبية للشعوب القديمة، إلا أن ما تتميز به هذه المدرسة ويجعلنا نركز اشتغالنا عليها هو مقاربتها الخاصة لمسألة «البحث عن يسوع التاريخ» والقائمة على تقديم قراءة «شكلية» للأناجيل، أو ما يمكن التعبير عنه بتقديم قراءة «للطبيعة النوعية للأناجيل» كأساس يقوم عليه تقييم الصحة التاريخية لهذه النصوص.

ونحن نتفق تمامًا مع هذا المدخل المنهجي للتعامل مع نصوص الإنجيل كمدخل أساس، حيث لا يمكن في ظننا البت في مدى موثوقية هذه النصوص التاريخية إلا بعد تكوين رؤية أولية عن الطبيعة النوعية لهذه النصوص وتحديد أبعادها؛ الخارجية «أهداف كتابتها، وعلاقتها بتشكل الكنيسة» والداخلية «الحقول المعرفية المشكلة للنص داخليًا»، إلا أننا نختلف مع النتائج التي توصل لها بولتمان عن هذه الطبيعة، فنص الإنجيل وفقًا لبولتمان هو نص لا يمكنه أن يقدم لنا صورة سليمة عن يسوع التاريخ لأنه وفقًا له «صيغ بأكمله من وجهة نظر الإيمان والعبادة» بمعنى اقتصار أهداف كتابته على صنع وتبرير الإيمان وتشكيل معتقدات الكنيستين الفلسطينية والهلينية، فضلاً عن كونه نص «صيغ في مجتمع غرائبي وأسطوري وغير مهتم بالتاريخ»[6]، بمعنى أنه داخليًا ينتمي بأكمله للأدب الأسطوري الخالي من الحس بالتاريخ، وأمام رؤية كهذه لطبيعة الأناجيل لا يمكننا سوى القيام بتفريق حاسم ونهائي بين «يسوع التاريخ» و«مسيح الإيمان» معتبرين أن الثاني وحده يمكن التعامل معه.

اختلافنا مع هذه النتيجة هو أنها تحمل رؤية شديدة الإجمال لأبعاد النص الداخلية والخارجية، فخارجيًا يتم اعتبار التأثر بمعتقدات كنيسة أورشليم ثم الكنيسة الهلينية في كتابة الأناجيل هو تأثر كامل بحيث يشمل كل بنية النص ويفسر كل أهداف ومنطلقات كتابته، وداخليا يتم اعتبار الأسطورية سمة تشمل كل النص الإنجيلي -مع إضفاء دلالة سلبية على هذه الأسطورية بحيث تعني «اللاحقيقة»- وتفسر تماما بناءه الداخلي، مما يجعلها رؤية تهدر تعقد بنية الأناجيل الداخلية والخارجية.

وربما هذا الإجمال الشديد في رؤية بولتمان كان هو السبب في أن حتى تلاميذه وكما يقول أندريه زكي كانت لهم اعتراضاتهم على آراء أستاذهم شديدة التطرف، فضلاً عن تشكل مدرسة «البحث الجديد» كرد على نتائج مدرسة «نقد الشكل»، ومن بين تلك النقودات الكثيرة التي وجهت لبولتمان ولمدرسته نستطيع أن نميز نقدين أساسيين لهما عمق كبير وصلة بهذا الإهدار لتعقد البنيتين الداخلية والخارجية للأنجيل، النقد الأول هو نقد قدمه أحد دارسي الأمثال بنفس منهج نقد الشكل، وهو يواكيم جريماس، ويمكن عنونة هذا النقد بـ«الدرس التفصيلي لتطور التقليد من يسوع إلى الكنيسة الأولى إلى الثانية» والثاني هو نقد جون درين صاحب الكتاب الكلاسيكي الهام «يسوع والأناجيل الأربعة» والممكن عنونته بـ«ثقل المناخ المصاحب لكتابة العهد الجديد».

يلاحظ جون درين بذكاء أن مدرسة نقد الشكل «لم تقدم نقدًا للشكل»![7]، وإنما قدمت استنتاجات مرتبطة بمضمون النص لا شكله فضلاً عن إصدار «أحكام تاريخية» على هذه المضامين، لذا فلم يسفر اشتغال هذه المدرسة عن تقديم قراءة لتطور التقليد من الشفاهة للتدوين كما يفترض بها، ونحن بالفعل لا نجد هذه القراءة التفصيلية إلا لاحقًا مع «جريماس»، حيث قام وعبر دراسة الواقع اليهودي المعاصر لميلاد يسوع وكرازته ومجمل الأفكار الأخروية والمسيانية المنتشرة وقتها عن المسيح ابن داوود، ودراسة اللغة الآرامية الأصلية ليسوع، ودراسة الإناجيل، وضع تصورات حول طريقة التدوين وتطور التقليد، توصل بها لبعض القواعد التي حكمت في ظنه تطور التقليد من يسوع إلى الكنيسة الفلسطينية إلى الكنيسة الهيلينية [8].

هذه الرؤية التفصيلية لتطور التقليد من جريماس تظهر بوضوح عدم دقة النقد المجمل الذي قدمه بولتمان للإنجيل ككتاب مصاغ تماما بفعل الإيمان أو بتوجيه الكنائس، حيث أن هذه الرؤية تقدم أداة قادرة على فصل التاريخي من غير التاريخي داخل الأناجيل عبر تتبع مبادئ تطور التقليد، بل وكذلك تتبع عمليات التشكيل الإيماني والكنسي لأقوال يسوع ذات الأصل التاريخي، مما ينفي الغياب التام لـ«يسوع التاريخ» وراء تشكيلات يصعب الإحاطة بها كما افترض بولتمان وديليوس ونقاد الشكل.

النقد الآخر الذي وُجِه لبولتمان هو نقد جون درين، وهو نقد يتمحور حول التشكيك في إمكانية الاختلاق الكامل «الفبركة» لنص الإنجيل، بسبب «وجود شهود عيان، كانوا على قيد الحياة في الوقت الذي كتبت فيه الأناجيل»[9] مما يمكنهم من مواجهة رواية الإنجيل وتكذيبها، وإذا كان البعض لا يثمن مضمون هذا النقد، حيث إنه ومن حيث المضمون فمن الممكن توجيه نقد لدرين عن وجود شهادات أخرى بالفعل لكن الكنيسة حرمتها بترسيمها كـ «ابوكرفيا» أو أناجيل منحولة، لكن مع هذا يظل النقد سليمًا من حيث شكله، فلا يمكن أن يخضع النص بأكمله للفبركة وهذا لوجود أهداف تأريخية عند كاتبيه تضاد أحيانا أو على الأقل تفترق عن أهداف الإيمان وأهداف الكنيسة، لذا فقد افترض البعض معايير لالتقاط هذا الغير المصاغ إيمانيا أو كنسيا داخل الأناجيل، وتستطيع اكتشاف وقائع لا يمكن لها أن تكون مختلقة بفعل الإيمان والكنيسة وهذا لكونها وبالعكس تمثل حرجًا للإيمان أو اختلافًا بينًا عن أهداف الكنيسة، مثل «الحرج» و«التمييز» و«الترابط المنطقي» و«تعدد المصادر»[10]، قوة هذا النقد هي كونه يعقد البنية الخارجية والداخلية لنص الإنجيل بحيث يصبح التاريخ والتوثيق وكتابة الشهادة جزءًا من أهداف النص إلي جانب تبرير الإيمان والصياغة الكنسية لنص وضع من أجل الكرازة والتبشير – بل أحيانا في مواجهتها – كما تصبح الوقائع التاريخية جزءًا من بنيته الداخلية إلى جانب التخييل والأسطرة.

لذا فنحن نستطيع أن نجمل تصورنا لعدم دقة النقد التاريخي المستند على مدرسة نقد الشكل وفي أعلى صوره مع بولتمان وفقًا لهذه النقودات في هذه الصورة، وهي أن نص الإنجيل هو نص متراكب داخليًا بحيث يجمع بين التاريخ والتخييل، كما أنه متراكب خارجيًا من حيث أهدافه بحيث يجمع بين كتابة الشهادة وبين تبرير الإيمان والكرازة والتبشير، كما أنه نص يحمل ملامح تطور صياغة مضمونه من عهد يسوع إلى الكنيسة الأولى الفلسطينية ثم إلى الكنيسة الهلينية.

هذه الصورة لتعقد نص الإنجيل تجعل النقد المجمل الذي قدمه بولتمان غير ممكن، كما تجعل البعد التاريخي حاضرًا في نسيج الأناجيل.


نجاعة الخيال

لكن مشكل نتائج بولتمان لا يقتصر على رؤيته المجملة لـ «لا-تاريخية الأناجيل» وإهداره تعقد تركيبها وتطورها، لكن وبصورة أهم لتقليله أهمية «التخييل» الأدبي والأسطوري، ووضعه له في مقابل التوثيق التاريخي، ككذب ولا حقيقة، هذا التعامل مع الأسطرة والتخييل كنوع من أنواع الجهل بالواقع وغياب الحس بالتاريخ ومحاكمته انطلاقًا من ثنائية حقيقة واقعية/لاحقيقة، هو تعامل يفتقر للدقة، حيث إنه لا يلتفت لطبيعة الواقع الذي تسرده هذه التقاليد، فهي تسرد واقعًا يحدث على الحدود بين الواقع وما وراءه، وحقيقة لا يمكن اختزالها في الواقع المباشر، فعل التخييل في كشف واقع كهذا والتعبير عن حقيقة كتلك يكتسب أهمية كبيرة قد تعادل أو تفوق أهمية التوثيق التاريخي لواقع صلب ومباشر.

انطلاقا من هذا نستطيع القول أن الطابع الأسطوري للأناجيل -وكما الطابع الأسطوري للسير- والمرتبط بإيمان كاتبيها هو موضع قوتها الأساس في تحقيق مهماتها «التأريخية»، وأن هذا الطابع لا يوجد إلي جوار «الأخبار التاريخية» وإنما هو إعادة تشكيل لها عبر السرد «كفعالية رمزية كاشفة ومفسرة»، فبالنسبة للأناجيل فإن «حقيقة القيامة» كحقيقة مركزية في إيمان الكتاب، شكلت وكما يقول أندريه زكي محور استعادة وسرد أحداث حياة يسوع، من هنا تصبح القصص والمعجزات والأمثال هي محاولات تخييلة (متطورة بالطبع، وفقًا لآراء جريماس) لكشف الأبعاد المتعالية لوقائع حياة رجل الناصرة والتي لا يمكن كشفها عبر محض التسجيل التاريخي الصلب لأنها تحدث على حدود الواقع وما وراءه.

إذن، وعلى أساس كون «الأدبية» ليست هي البعد الوحيد للأناجيل والسير، وبالإضافة لحيوية وثراء وفعالية ونجاعة هذه الأدبية، يمكننا القول إن الأناجيل والسير استطاعت أن تحقق مهمة كشف كثير من الأبعاد المركبة لهذه الشخوص التي لا يستوعب فعالها الواقع المباشر، لكن يبقى السؤال الذي تتمحور حوله مقالاتنا القادمة هو: هل هذه التقاليد استوعبت كل الأبعاد الممكن اكتشافها في هذه الشخصيات بحيث تصبح كل قراءة جديدة هي محض تشويه؟ أم أن أنماطًا سردية جديدة مثل الرواية تحوي «تخييلات جديدة للأصول» قادرة على اكتشاف أبعاد جديدة من هذه الشخصيات؟


[1] ترى باري ساندرز في دراسة بعنوان «أكذبها بالطريقة المناسبة، سوشر يصبح مؤلفًا»، أن النقطة الفاصلة بين الملحمة وميلاد الرواية، هي أنه وقبل الرواية لم يكن يخطر على بال قائل الملحمة إن ما يسرده مختلق بالكامل، وولدت الرواية في اللحظة الذي أصبح فيها وجود عالم مختلق بالكامل ممكنًا. [الكتابية والشفاهية، ص202][2] فتحي بن سلامة، الإسلام والتحليل النفسي، ص60.[3] في مقالين سابقين «السيرة والتأريخ لحدث الوحي» كنا قد تناولنا تاريخ التشكيك في السير النبوية، والمتركز بالأساس في المقاربات الاستشراقية للسيرة خصوصا المقاربتين النقدية (مع بلاشير وكايتني) والتشكيكية (مع باتريشا كرون ومايكل كوك وجاكلين الشابي) والتي تقصي المصادر العربية باعتبارها مصادر غير موثوقة على أساس كونها محض تمثلات إيمانية، مما يجعلها وإما تلجأ من أجل البحث عن «محمد التاريخ» إلى مصادر غير عربية (بريمار)، أو تقول مباشرة باستحالة كتابة سيرة نبوية (الشابي) وتفرق بناء على هذا تفريقًا حاسمًا بين «محمد التاريخ» و«محمد الإيمان»، وقد وضحنا هناك رأينا تفصيلاً عن هذه المقاربات وكونها في أحكامها تهدر الطبيعة الطبيعة النوعية لنص السيرة والتي يجب تحديدها أولاً وقبل تقييم موثوقيته التاريخية، وحاولنا في مواجهة هذا تقديم مقاربة أخرى لنص السيرة سميناها «المقاربة الجزيئية» ظننا أنها أفضل في اكتشاف مدى ثراء وغنى نص السيرة وأهميته في اكتشاف سيرة النبي محمد خصوصا لحظة تلقي الوحي، لذا فإننا سنقصر اهتمامنا في هذا المدخل على التعامل التاريخي الحديث مع الأناجيل والتشكيك في موثوقية روايتها عن المسيح لينضم مع المقالتين السابقتين كمدخل لموضوعنا. [4] جاك شلوسر، يسوع التاريخ ومسيح الإيمان، ضمن كتاب يسوع التاريخي والذي يضم أعمال المؤتمر البيبلي التاسع، ص15 [5] فالتر كاسبر، يسوع المسيح، ص61.[6] أندريه زكي، المسيح والنقد التاريخي، ص24.[7] جون درين، يسوع والأناجيل الأربعة، ص243.[8] أندريه زكي، المسيح والنقد التاريخي، ص32.[9] جون درين، يسوع والأناجيل الأربعة، ص244.[10] هذه المعايير طبقها بعض الباحثين منهم بولتمان نفسه: «معيار التمييز»، كذلك نورمان بيرين، وقد أورد جون درين بعض الاعتراضات عليها، فضلا عن اعتراض أساس هو كونها قائمة على افتراضات غير مبررة عن أن الاناجيل في معظمها تحمل عقائد الكنيسة الأولى وأن كتاب الأناجيل لم يعنوا بالتفريق بين رؤيتهم وأقوال المسيح وهو ما لا يتفق معه درين، وعن معيار الحرج فقد استخدمه أندريه زكي في «المسيح والنقد التاريخي» تحت عنوان «سمات المسيح التي تعتبر حجر عثرة».