عينٌ غائرة، تتشاجر مع جفنِها لكي يفسح لها فُرجَةً للضوء، وجهٌ شاحب، جلدٌ مائل للاصفرار، صدرٌ منقبض، قدمان لا تستجيبان للحركة إلا بعد جدلٍ طويل لإقناعِها. قرار إقناع النفس بالقيام بأقل مجهودٍ بدني أو ذهني، يشبه قرار خوض حربٍ مريرة. حنين جارف إلى النوم، يبدأ ولما يقم الشخص من سرير النوم بعد.

إذا سألت معظم من تعرف، خاصة من الشباب، وأصحاب منتصف العمر، عن الأعراض السابقة، أو حتى دقّقت النظر في أحدهم لبرهةٍ قصيرة، ستجد معظمها، إن لم يكن كلها، متجسدًا، وأحيانًا متفاقمًا ومضاعَفًا. ولا نكون مبالغين إذا اعتبرنا هذا الشعور المطبِق بالإجهاد المزمن أحد أوبئة العصر الفتاكة، فهو بمرور الوقت يجعل روح الحياة، وشعورنا بها، وإنتاجنا الفعّال في دروبها، تنزف شيئًا فشيئًا، حتى ينفد هذا الرصيد الحيوي صعب التعويض.

في السطور المقبلة، سنتحدث عن الإجهاد المزمن، عبر شِقَّيْن. الأول، كمرضٍ أصبح له اسمٌ محدد، وبدأت معالمه تتضح بمرور الوقت. والثاني، سيكون أوسع مجالًا، حيث نتحدث عن ظاهرة الإرهاق العام الأكثر انتشارًا، والتي أصبحت من أبرز سمات حياتنا المعاصرة.

متلازمة الإجهاد/التعب المزمن

في السنوات الأخيرة، انضم إلى قائمة الأمراض فردٌ جديد، وغامض في آن، وهو «متلازمة الإجهاد/التعب المزمن».وهي حالة مرضية يشعر فيها المريض بإجهادٍ شديدٍ، ليس له تفسير طبي آخر، ولا يتحسن بالراحة والنوم، وقد يصاحبها آلام متفرقة بأجزاءٍ مختلفة من الجسم. تشيع الإصابة بتلك المتلازمة لدى السيدات في منتصف العمر، وبعد الأربعين.

ما أسباب الإصابة بها؟

للأسف لم تعثر الدراسات الطبية على سبب محدد يمكن بعلاجه أن تنتفي الحالة، ولذا فما نملكه حتى الآن هو مجرد نظريات ما تزال قيد البحث، منها على سبيل المثال الاضطرابات الهرمونية خاصةً لدى السيدات قرب سن انقطاع الطمث، والضغوط العصبية والنفسية، والإصابة ببعض الفيروسات التي تستهدف الجهاز العصبي أو العضلات، والضعف العام بجهاز المناعة. يرجح بعض الباحثين أيضًا وجود عوامل وراثية تزيد من فرص الإصابة بها لدى بعض الأشخاص. تقدر بعض الإحصائيات أن نحو مليوني مواطن أمريكيٍّ على الأقل مصابون بتلك المتلازمة.

ما أعراضها، وكيف يمكن تشخيصها؟

الأعراض متنوعة للغاية، وتتباين بشدة من شخصٍ لآخر، ومن يومٍ لآخر، بل قد تتذبذب بين الليل والنهار في نفس اليوم. أبرزها الإجهاد الشديد الذي لا تداويه الراحة، بحيث يمكن أن يستمر لأكثر من يوم بعد القيام بمجهود بدني أو ذهني، واضطرابات النوم، والشعور بالصداع، وبآلامٍ بالحلق دون وجود التهابٍ به، وكذلك آلام متفرقة بمختلف عضلات الجسم، والشعور بتسارع أو اضطراب ضربات القلب، وصعوبة شديدة في التركيز الذهني، وفي مهارات الحفظ والتذكر.

وتشخيص تلك المتلازمة ليس بالأمر الهين، لعدم وجود تحاليل أو أشعة محددة قادرة على إثباتها أو استبعادها، ولعدم وضوح الكثير من معالمها. لذا، فهي تُشَخَّص بالاستبعاد، بعد إثبات عدم الإصابة بأشهر الأمراض التي تسبب أعراضًا متقاطعة معها مثل أمراض المناعة الذاتية كالذئبة الحمراء، وأمراض الوهن العضلي، وتيبُّس العضلات، وقصور الغدة الدرقية، والتصلب المتعدد، والإصابة بفيروس إبشتين بار، والسمنة الزائدة… إلخ.

كيف يمكن علاجها؟

للأسف لا يوجد علاج حاسم يقتلع تلك الحالة المرضية من جذورها، لكن توجد بعض الخطوات التي تخفف كثيرًا من آثارها، وتساعد المرء على التأقلم مع وجودها، ومواصلة معظم جوانب حياته بكفاءة وفعالية:

  • أن يكون الشخص على معرفة جيدة بحدود طاقته الجسدية والذهنية، فلا يكلف نفسه قدر المستطاع بمهامٍ تتجاوزها، وأن يخطط جيدًا للمهام البدنية والذهنية المطلوبة منه، فيوزعها جيدًا على الوقت والجهد المتاحيْن. ويمكن في سبيل القيام بذلك الاستعانة بالتدوين في مفكرة شخصية. مثلًا في اليوم الفلاني قمت بالعمل كذا كذا، وظللت بعدها لمدة (..) ساعة في حالة من الإرهاق، بينما في اليوم الترتاني، كان الوضع كذا وكذا .. إلخ. بهذا الشكل سيبدأ المرء بالتعرف على نوعية وحجم المجهود الذي يفاقم إرهاقَه.
  • الحفاظ على قسطٍ مقدسٍ معقول من النوم مساء معظم الأيام لتجديد النشاط لو بشكلٍ جزئي. وتجنب نوم القيلولة النهاري قدر المستطاع لأنه يجعل مهمة النوم مساءً أكثر تعسُّرا.
  • تقليل استهلاك الكافيين، كالقهوة والمشروبات الغازية، قدر المستطاع، خاصة مساءً، وذلك للمساعدة في هدوء الذهن، وفي نومٍ أكثر سلاسة.
  • بالنسبة للأدوية، فتكون بعدَ الكشف لدى الطبيب المختص، وهي غالبًا ما تتعامل مع مضاعفات متلازمة الإجهاد المزمن، أكثر من علاجها نفسِها. فمثلًا قد تؤدي تلك المتلازمة إلى إصابة البعض بالاكتئاب، حينها سيصف الطبيب مضادات الاكتئاب، وإذا كانت الآلام الناجمة عنها شديدة، فيمكن أن يصفَ الطبيبُ المسكِّنات لفترة محددة دون إسراف لتجنب آثارها الجانبية. أيضًا في حالة تعثُّر تنظيم النوم، يمكن للطبيب أن يصف بعض الأقراص المهدِّئة والمنوِّمة المعتدلة .. إلخ.
  • كذلك للطب البديل مساحةً في السيطرة على مضاعفات تلك المتلازمة، خاصة الآلام المزمنة. تحسَّنت الأعراض لدى بعض المرضى مع جلسات الإبر الصينية، وتمارين العلاج الطبيعي، واليوجا.

اقرأ: المسكنات تؤلم .. وتقتل أيضًا

وأيضًا: لهذه الأسباب يجب تجنب مضادات الاكتئاب دون إشرافٍ طبي

ظاهرة الإرهاق العام 

أسبابٌ عديدة لانتشار ظاهرة الإرهاق أو الإجهاد العام، تتنوع بين أسبابٍ نفسية وجسمانية ومرضية. هناك الاكتئاب الذي يقتلعُ الدافعية من كل شيء كما تُنتزَع البطاريات الجافة من جهازٍ، فلا يعمل، وهناك اضطرابات القلق والوسواس القهري التي ترهق الشخص ذهنيًا وجسديًا في الإمعان في تفاصيل التفاصيل وترقب الأسوأ من وراء كل ذرةٍ في الهواء، ولديْنا أنيميا الدم التي تصيب قطاعاتٍ واسعة من النساء والأطفال وكبار السن، والأمراض المزمنة كالضغط والسكري وضعف عضلة القلب، وقصور الشرايين التاجية للقلب… إلخ، والتي تصيب عشرات الملايين، ليس من كبار السن فحسب، إنما بدأت متوسطات أعمار المصابين بها تهوى بشكلٍ مخيف صوبَ متوسطي الأعمار والشباب. ولكي يمكن السيطرة على الإجهاد الناجم عن الأمراض السابقة، لا بد من علاجها بشكلٍ جيد، والمتابعة المستمرة من الطبيب للحفاظ على استقرار الحالة المرضية.

وهناك أسبابٌ أكثر عمومية، لكنها الأكثر انتشارًا، وهي تعني كل واحدٍ منا تقريبًا، مثل العادات السيئة في النوم والطعام، وضعف اللياقة البدنية لإهمال المجهود البدني المطلوب، وضعف اللياقة النفسية الذي يضاعف من التأثير السلبي للضغوط النفسية للدراسة وللعمل وللحياة الاجتماعية. وغالبًا ما يقع الشخص الواحد فريسةً لكل العوامل السابقة معًا، مما يضاعف من أعراض الإجهاد المزمن، وانعكاساته السلبية على الحياة اليومية للإنسان بكافة مساراتها.

في النقاط التالية، سنتحدث عن كيفية التغلب على تلك العوامل المسبِّبة للإرهاق العام، أو على الأقل الحد من تأثيراتها.

في البدء دائمًا يكون الطعام

لم يبالغ أجدادُنا حين أعلنوها صريحةً أن المعدة بيت الداء. معظم الأمراض، خاصة المزمنة منها، للطعام دورٌ بارز في مفاقمتها، وفي حدوث مضاعفاتها، وفي المقابل لتنظيم الطعام، دورٌ مركزي في العلاج أو على الأقل السيطرة على الأعراض والمضاعفات. البداية تكون بتركيز الشخص مع حجم ما يأكل، وأنواعه، لكي يعرف بشكلٍ جيد الثغرات في نظامه الغذائي.

يجب أن يُوزَّع الطعام جيدًا على مدار اليوم، مع تجنُّب العشاء الثقيل الذي قد يفاقم الحموضة، ويصعِّب النوم المستقر ليلًا، ويزيد فرص حدوث السمنة. يجب التركيز على الأطعمة ذات القيمة الغذائية العالية، ومعتدلة السعرات الحرارية، كالخضروات ومعظم الفواكه، ومنتجات الألبان قليلة الدسم، والبيض، والأسماك، والبروتينات قليلة الشحم.

مثل هذا الغذاء المتوازن، يعطي الجسم ما يحتاجه من مصادر طاقة، ويحول بينه وبين الوقوع في زيادة الوزن والسمنة، والتي تعد من أهم أسباب الإجهاد المستمر، كذلك يجنبه الكسل والتثاقل الذي يعقب تناول الوجبات الثقيلة نتيجة سحب جانب كبير من الدورة الدموية إلى الجهاز الهضمي للتعامل مع كمية الطعام الكبيرة التي تحتاج إلى هضم وامتصاص.

بجانب الطعام، لا يمكن أن ننسى الماء، فالجفاف من أهم أسباب الإصابة بالإجهاد. يجب تناول وفرة من المياه خاصة في حالة بذل أي مجهودٍ عضلي. للإنسان البالغ متوسط الوزن، لا أقل من لترين من السوائل يوميًا، تتزايد بزيادة المجهود البدني والعضلي.

اقرأ: طعامُك .. الداء والدواء

وأيضًا: وجبة العشاء المتأخرة، خطرٌ داهم يهدد صحتك

النوم .. استعادة الأمل الذي تبدده الحياة المعاصرة

الكثير من الوظائف المعاصرة لا تتيح لأصحابها نومًا جيدًا. لا مفر من بذل كل جهدٍ في سبيل استعادة الحق الواجب في نومٍ ليلي كافٍ، ولو لأكثرية الأيام إن تعذّر كلها. لا مفر من الذهاب إلى السرير مبكرًا، ومحاولة النوم، وعدم اليأس ولو عجزنا لأسابيع أو لشهور عن الوصول إلى هذا الهدف العزيز.

من أهم النصائح عدم النوم نهارًا، فهذا سيساعد على النوم مساءً في المواعيد المطلوبة. لكن في حالة الشعور بالإرهاق نهارًا، فيُمكن أخذ قسطٍ قصير من النوم النهاري لا يزيد على 30 دقيقة. فهذا كافٍ لتجديد النشاط، دون إفساد النوم المنتظم.

هناك بعض الأشخاص لأسبابٍ وراثية وحياتية، يزداد نشاطهم ليلًا، وهم من يعرفون باللغة الإنجليزية night owls. على هؤلاء توزيع أنشطتهم اليومية بشكل سليم حسب فترات النشاط والكسل، مع ضمان الحصول على القسط الكافي من النوم لتجديد طاقتهم ونشاطهم.

المجهود البدني يعالج الإجهاد

قد يبدو العنوان متناقضًا، أو ناقصًا، لكن في حقيقة الأمر هو صحيح تمامًا. المجهود البدني المعتدل يجدد النشاط، ويحسن المزاج، ويزيل أو على الأقل يخفف من أعراض الإجهاد والإرهاق. إن مجرد المشي معظم الأيام لحوالي 20-25 دقيقة هو حدٌ أدنى جيد من أجل تحقيق هذا الغرض. إذا لم تستطِع أن تخصص وقتًا لمثل هذا، فاجعله جزءًا من حياتك اليومية، كأن تتعمَّد الذهاب إلى العمل أو التسوق سيرًا على الأقدام.

في المقابل لا تجبر نفسك على التمرين وأنت في حالةٍ من الإرهاق الشديد، أو نقص النوم، أو الجفاف، إذ سوف يجلب هذا عليكَ نتائج عكسية.

الاسترخاء.. ذهنًا وجسمًا

طبيعة حياتنا المعاصرة تجعل مثل هذا الاسترخاء حلمًا بعيد المنال، لكن لا مفر من المحاولة. الضغوط النفسية والعصبية مسئولة عن شطرٍ بارز من مشكلة الإرهاق الجسماني والنفسي العام. إذا كان من شبه المحال تغيير طبيعة أعمالنا، فعلى الأقل علينا أن نحاول مزاحمتها بالأنشطة التي تساعد على الاسترخاء، مثل لقاءات الأصدقاء، وقضاء الأوقات مع الأسرة والأولاد، وممارسة الهوايات المحبَّبة مثل القراءة، أو الرسم، أو الموسيقي.. إلخ.