يسعى هذا التحليل إلى تناول دور السينما وإمكانات تأثيرها في المجال السياسي فكرًا وحركة. وعند التعاطي مع دور السينما هنا، فنحن نحاول تأطيره كناتج ثانوي نشأ في خدمة غرض آخر تتحكم به عوامل عدة تعنينا منها العوامل ذات الصلة بالشأن السياسي، وهو ما يقود إلى أهمية لفت النظر كون تبنينا لفحص وتفنيد دور الفن في السياسة من منطلق أشمل من النظر إلى الفن كمنتج مادي فحسب، بل أداة أكثر مرونة وعمقًا للتنظير السياسي، وأكثر إثراءً له بمستويات تحليل أكثر نفاذًا واستبصارًا.

وعليه، فإننا نتناول دور السينما هنا كأداة للتنظير السياسي، وكذلك للحركة السياسية كأداة أيديولوجية ودعائية.


الوظيفة الدرامية للزمان والمكان

تشكّل خصوصية الطابع الزماني والمكاني للسينما أداة ثرية للتنظير السياسي لما لها من سيولة وديناميكية تمنح التنظير السياسي قدرة تأويلية أكثر رحابة ومرونة، حيث نجد عنصر المكان سيالًا ديناميكيًا غير محدد، بل له تاريخ وتطور خاص متجاوز فيزيائية وجوده المتجانس بمخالطة الزمان غير المتجانس وغير المحدد بنقطة زمانية ثابتة كغيره من أنواع الفنون، وإنما قد تتفاوت النقاط الزمانية ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبما يلائم التطور الداخلي للمشهد السنيمائي بمحتواه محل التحليل السياسي.

بمعنى آخر، فإن العلاقة المتبادلة بين عنصري الزمان والمكان في الفيلم واتسامهما بالسيولة يوفران عنصر الحرية للباحث أو المنظر السياسي ليفرد تأويلاته بديناميكية وتعال لما هو محدود[1].

يمنح عنصر الزمن كذلك إمكانية إضافية للتنظير السياسي حيث يرادف الوعي عند الحديث عن الفن السينمائي، فيشير الزمن إلى الوعي، الوعي بالحاضر. كما أنه العنصر المميز للفن السينمائي الذي يمنح السينما قاعدتها الجماهيرية لافتتان الجماهير دائمًا بما يقدم لهم على سبيل التزامن في كافة أنشطة حياتهم اليومية في لحظتهم الآنية، حيث يمكّن عنصر الزمن السينما من اجتياز العالم الذهني للمشاهد الذي يفتتن بتجربة الكثير في الوقت الواحد، وهو ما يمثل «أزمة الحداثة»، وهي صراع اللحظة الحاضرة في ظل إدراك محدودية الوقت والطاقة البشرية[2]. وعليه، تمثل السينما انعكاسًا لفهم الذات وصراعاتها عبر توظيف طابعها الزماني والمكاني في التعبير عن أزمات الوجود الإنساني وإشكالاته.


الصبغة الديمقراطية للفن السينمائي

تكتسب السينما صيغة ووظيفة ديمقراطية تمنحها لها سمات جماهيرها، والتي تختلف عن سمات جماهير أشكال الفنون الأخرى والتي نستعرضها في التالي:

1. التركيب الاجتماعي لجماهير السينما

تتميز التركيبة الاجتماعية لجماهير السينما بكونها تركيبة متمايزة غير متجانسة ومختلطة، حيث يكون الرابط الوحيد بينهم هو التوافد على دور السينما، وعدم الانتماء لطبقة أو ثقافة متجانسة حيث لم تتلق تكوينًا ثقافيًا مشتركًا، فيعد الفيلم السينمائي أول محاولة لإنتاج فن للجمهور العام، وهي بداية اصطباغ الفن بالصبغة الديمقراطية بعد التغيرات التي طرأت على جمهور المسرح والرواية، حيث اتسمت جماهيرهما بالتجانس والثبات كونهما يستهدفان مستويات اجتماعية معينة تنتمي للطبقة البرجوازية[3].

2. تأثير الجماهير: سيادة المستهلك

يتضح في السينما تأثير الجماهير في أساليب الفن تأثيرًا مباشرًا يختلف عنه في باقي أنواع الفنون، فيظهر تأثير الجماهير الشعبية في إنتاج الفن، والذي يمكن إيضاحه بتتبع رؤية تأثير جماهير الفنون الأخرى، حيث انتقل التأثير من المسرح الخاص عند الأمراء إلى مسرح الدولة والمسرح المحلي البرجوازي، ثم إلى شركات المسارح، أو من الأوبرا إلى الأوبريت ثم إلى الحفلات الاستعراضية، والتي تعكس كلها مراحل منفصلة للتطور الديمقراطي الذي صبغ الفن، والهادف في الأساس إلى جذب أكبر عدد من المستهلكين/الجماهير لتغطية نفقات الاستثمارات المتزايدة، وعليه أصبح تأثير الجماهير أكبر لأنها تدفع أموالها فيما يلائمها ويرضيها وأصبحت بتفضيلاتها توجه أساليب إنتاج الفن[4].

3. مستوى الفن وشعبيته

يظهر هنا نوع من التوتر بين مستوى الفن وشعبيته؛ فاستجابة جماهير السينما للعمل الفني غير مرتبطة بالمعايير المتعلقة بمستوى العمل الفني، وإنما للانطباعات التي تشعرهم بالارتياح أو الانزعاج في مجال حياتهم الخاص. ويُقصد بعدم وجود رابطة بين مستوى العمل الفني وشعبيته لدى الجماهير هو كون السينما بلا شفرة سرية كغيرها من أشكال الفنون، حيث لا تتطلب مستوى معينًا من التشكيل الثقافي أو الذائقة الفنية أو الإعداد الذهني السابق للتعامل مع العمل الفني[5].

4. السينما والرومانتيكية الاجتماعية

وتتجلى الرومانتيكية الاجتماعية فيما تطرحه السينما من فكرة الحراك الاجتماعي الملحة لدى الطبقى الوسطى الطامحة للانتقال لأعلى؛ حيث تسيطر فكرة التطلع للصعود الاجتماعي ما بين الطبقات العليا عليها فتجد منفذها الواهم بسلاسة ذلك الانتقال وسهولته فيما تقدمه لها السينما من أفلام يتحرك فيها الناس ببساطة من مستوى اجتماعي لآخر بتعزيز مبدأ «كل شخص صانع مصيره» وهو المبدأ الدافع لتلك الجماهير لارتياد السينما لما تقدمه لها من شعور بالارتياح والطمأنينة لقناعتها وتطلعاتها، والتي قد تكون واهمة وزائفة إلا أنها تشعرها بالارتياح[6].


التكنيك السينمائي والتنظير السياسي

تظهر كذلك إمكانات عدة تقدم التكنيك السينمائي المستخدم في إخراج الفيلم السينمائي للتنظير السياسي، من حيث إمكانات تأويل تلك الأساليب الفنية في التعبير، وتوظيفها لتفسير وتجسيد الإشكاليات السياسية، والترميزات الحاملة لمعانٍ باطنة أكثر عمقًا ونفاذًا من الدلالات الظاهرة.

على سبيل المثال، استخدام تكنيك اللقطة المقربة «close-up» التي اخترعها المخرج الأمريكي د. و. جريفييث، وطريقة الإدماج «Interpolation» التي اكتشفها الروس والمسماة بالقطع القصير «short-cutting» التي من خلالها يتم خلق أسلوب تعبيري للفيلم يأخذ طابعًا ثوريًا من حيث القدرة على التعبير عن الاضطراب، والإيقاعات العصبية، والسرعات المتصاعدة، ونقل تأثيرات للمشاهد يستحيل التعبير عنها بمثل ذاك التأثير في الفنون الأخرى[7].

لا ينحصر ذلك الطابع الثوري في هذا التكنيك أو ذاك، وإنما فيما يمكن تسميته باللغة التي تستخدمها السينما لتقديم رسالتها، حيث لا تقدم مباشرة ظواهر عالم متجانس في موضوعاته، وإنما تتناول عناصر غير متجانسة لذلك الواقع، وتجمع بين حقائق متباينة ومتناقضة ومحاولة التوحيد بينها من خلال تجاوز واعٍ لهذا الواقع. ومثال ذلك ما قام به المخرج إيزنتشتاين في فيلمه «المدمرة بوتمكين»، حيث عرض تعاقبًا لظاهرتين متباينتين، إحداهما روحية والأخرى مادية، والجمع بينهما في إيحاء بأن إحداهما تصدر عن الأخرى بتصويرها كالآتي[8]:

يتم كذلك استخدام أساليب المونتاج للتعبير الفني المباشر عن المواقف الاجتماعية التاريخية وتلك ذات الطابع الأيديولوجي، وتعد الأفلام الروسية أبرز النماذج في إجادة استخدام السينما كأداة أيديولوجية ودعائية، مثل دلالة استخدام أحذية قوية وجديدة للدلالة على القوة العسكرية الوحشية والباطشة، أو استخدام صديري مغطى بالنياشين للدلالة على أهمية الآلية الحربية؛ فالجماهير المنتصرة ما هي إلا تجسيد للآلة المنتصرة، فالإنسان بأفكاره وإيمانه وأمله مجرد عنصر معتمد على العالم المادي الذي يعيش فيه. وعليه فإن نظرية المادية التاريخية هي المبدأ الشكلي للفن السينمائي الروسي[10].


السينما والحركة السياسية

رجال يعملون بجهد بائس، غرفة الآلات في السفينة، أيدٍ مشغولة، عجلات تدور، وجوه شوهها الإرهاق، ضغط المانومتر يصل لأقصى حد، صدر يغطيه العرق، غلاية متوهجة، عجلة بذراع، آلة، آلة، إنسان، إنسان، آلة، إنسان[9].

عند تناول السينما على مستوى الحركة السياسية فإن من بين أبرز الأمثلة لذلك نموذج روسيا السوفيتية والتي حققت إنجازات هامة في استخدام وتوظيف الفيلم للتعبير عن أيديولوجيتها وأجادت استخدامه كأداة دعائية لها. ويرجع ذلك لأوجه التشابه بين الدولة الشيوعية الثورية، والفيلم كشكل من أشكال التعبير الممكن توظيفه في طابعه الثوري أيضًا، فكلاهما ظاهرة ثورية تسير في مسالك جديدة دون ماضٍ تاريخي أو تقاليد للحركة أو افتراضات مسلم بها مسبقًا، وبلا طابع روتيني محدود ثقافيًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا أو من أي نوعٍ كان[11].

يُعزا ذلك إلى السمات المميزة للفيلم كونه نوعًا مرنًا من أشكال الفن قابل للتطويع لخدمة أغراض وأهداف ذات مضامين متسعة، وهو كذلك وسيلة شعبية للاتصال غير معقدة وتلقى استجابة مباشرة من الجماهير العريضة، وهو بذلك يعد أداة مثلى للدعاية أدرك «لينين» قيمتها بالاستفادة من جاذبيتها وشعبيتها العريضة، ومثال ذلك ما تم ذكره في فيلم «المدمرة بوتمكين» أعلاه[12].

وعليه نجد دورًا مركبًا للسينما على مستوى الفكر كأحد منتجات الفن الذي يمكن التنظير من أن يجد مضامين ومفاهيم وترميزات وأدوات تنظير جديدة، ورؤية أكثر عمقًا وقدرة على الاستبصار من أدواته التقليدية، ويُعزا ذلك للدور الذي يلعبه الخيال كملكة فكرية قادرة على تخليق قضايا جديدة، وزوايا أكثر جدية وأدوات أقدر على التطويع لضوغ المعاني ونسج الأفكار، وكذلك الدور الذي تلعبه السينما على مستوى الحركة نظرًا لقاعدتها الجماهيرية الواسعة التي تستهدفها، وكذلك لقدرتها على إيصال المعنى والفكرة والغاية بسلاسة وانسياب، وبصورة بصرية قد تكون للكثيرين أكثر حفزًا واستثارة للفعل والحركة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» لـ«أرنولد هاوزر» 2015، ترجمة: «فؤاد زكريا». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. ج 2. ص 524-528. وكتاب «السينما والحداثة» لـ«جون أور» 2015، ترجمة: «محسن ويفي». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. ص 5-7.
  2. كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» لـ«أرنولد هاوزر» 2015، ترجمة: «فؤاد زكريا». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 524-528.
  3. كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» لـ«أرنولد هاوزر» 2015، ترجمة: «فؤاد زكريا». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 529-530.
  4. كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» لـ«أرنولد هاوزر» 2015، ترجمة: «فؤاد زكريا». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 534-538.
  5. 535 كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» لـ«أرنولد هاوزر» 2015، ترجمة: «فؤاد زكريا». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ص
  6. 536-535 كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» لـ«أرنولد هاوزر» 2015، ترجمة: «فؤاد زكريا». القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ص
  7. نفس المرجع السابق
  8. المرجع السابق ص 538-539
  9. المرجع السابق ص 539
  10. المرجع السابق ص 540
  11. المرجع السابق ص 539-540
  12. المرجع السابق ص 541-543