في فيلمه الجديد «آخر أيام المدينة» تتجلي علاقة خاصة بين مخرج الفيلم «تامر السعيد» ومدينته. وهي تشبه إلى حد كبير قول الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» في ديوانه «سأم باريس»: «أحبك أيتها العاصمة سيئة السمعة». في هذا البيت الشعري، يقصد بودلير بالعاصمة باريس عاصمة فرنسا، بينما يقصد تامر السعيد بالمدينة – في عنوان فيلمه – القاهرة عاصمة مصر.

كلاهما – المخرج والشاعر – يحب مدينته ويتعلق بها، على الرغم من أن كلا منهما قد تحدث عن مدينته بقسوة، كاشفًا ما انتابها من تدهور من كل النواحي؛ الاجتماعية والبيئية والسياسية، والتي تنبئ عن وفاة وشيكة. وبرغم هذه القسوة في التناول فإن كلاهما يحب مدينته، حيث أفرد بودلير عشرات القصائد لحبيبته باريس، بينما أفرد السعيد حوالي خمس سنوات من عمره لعمل فيلم عن حبيبته القاهرة الجميلة. فرغم كل البثور التي تلطخ وجه القاهرة إلا أن جمالها ما زال هناك تحت هذا الركام من المساحيق التي تفشل في تجميلها فتحولها إلى وجه قبيح يطارد أبناءها.

وربما تكون هذه الأسباب وعلى رأسها هتاف «يسقط حكم العسكر» الذي نسمعه على شريط صوت الفيلم، والتدهور السياسي الذي يرصده الفيلم والذي ينخر كالسوس في العاصمة التي تمثل البلاد عامة، هي الأسباب الحقيقية وراء تراجع منظمي مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن عرض فيلم «آخر أيام المدينة» ضمن فعاليات المسابقة الدولية، خاصة أن زعم منظمي المهرجان أن الفيلم لم يلتزم بلوائح المهرجان هي دعوى غير صحيحة بالمرة. وكأن تراجع المهرجان عن عرض الفيلم في فعالياته هو آخر حلقة من سلسلة لفظ هذه المدينة (القاهرة) لبطل الفيلم. والمفارقة أيضا تكمن في أن هذا الفيلم المتميز الذي يعتبر من أفضل الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية بعام 2016 والذي يتحدث عن القاهرة ويتغزل فيها حتى ولو عبر تبيان عيوبها، لن يُعرض في المهرجان السينمائي الدولي الذي يحمل اسم هذه المدينة (القاهرة).

والفيلم من بطولة الممثل المصري العالمي «خالد عبد الله» ومجموعة من الممثلين المخضرمين كحنان يوسف، وممثلين غير محترفين كمريم صالح وليلى سامي وعلي صبحي. وشارك المخرج في التأليف «رشا سلطي» وقد أشرف على الديكور مهندس الديكور الكبير «صلاح مرعي» والذي يعتبر هذا الفيلم آخر أفلامه، بينما صمم المناظر ياسر عبد الفتاح.


عن عهر مدينة تدعى القاهرة

فيلم تامر السعيد ينتمي أيضا إلى هذه الرومانسية التي كان بودلير ينتمي إليها حيث الحنين إلى الماضي، أي إلى ماضي هذه المدينة من ناحية العمارة الفرنسية والبلجيكية التي تميز منطقة وسط البلد التي تدور فيها أحداث الفيلم، وماضي أبطال الفيلم الذين يحكون عن ماضيهم وطفولتهم (أبلة فضيلة) وعن أهلهم (الأخت أو الأب) الذين فقدوهم، وعن أرواحهم التي تغيرت بسبب صيرورة الحياة التي تأكل الأخضر واليابس فلا تبقي شيئا على حاله، فتجعل أرواحهم تتسرب رويدا رويدا من أجسادهم بينما أعينهم الزائغة والتي لا تثبت أبدًا على شيء تعكس حالة التيه التي تأسرهم فلا يستطيعون الهرب منها، بينما ما يشدهم إلى خارج هذا التيه/المدينة هو خيط رفيع لا يكاد يُرى، تمامًا كأسطورة «مينوتور» الإغريقية حيث الطريقة الوحيدة لخروج البطل الإغريقي ثيسيوس من المتاهة هي خيط رفيع واهٍ.

إلا أن بطل الفيلم «خالد السعيد» – بالتأكيد اختيار الاسم ليس محض مصادفة حيث يستدعي اسم ضحية تعتبر ضمن أهم الأسباب التي فجرت ثورة 25 يناير – لا يستطيع أيضًا أن يهرب من متاهة النوستالجيا حيث تقول له إحدى الشخصيات: «أنت مصمم تعيش في اللي فات وتعيط عليه». فالماضي هو العصر الذهبي لهذه المدينة الذي يجب أن نبكي على ضياعه، خاصة أن هذه المدينة القاسية قد تغيرت لتعطي ظهرها لأبطال الفيلم جميعهم بعدما طالتها الحداثة التي اشتكى منها أيضا بودلير في «سأم باريس»، وهو ما يؤكده قول إحدى الشخصيات لبطل فيلم «آخر أيام المدينة»: «عِنادك في حب القاهرة قاسٍ، زي ما تكون غدرت بيك أو خانتك». نعم، هي الحبيبة التي غدرت ببطل الفيلم وخانته لتتحول إلى غانية تفتح رجليها لكل من هب ودب أو بالأحرى لكن الفاسدين الذين يسيطرون عليها ويستغلونها ويجعلونها ملكًا لهم وحكرًا عليهم.


أشباح وأشباه مدن

يحكي الفيلم عن المخرج «خالد» الذي يعيش في مدينة القاهرة، وبالتحديد في منطقة «وسط البلد»، والذي يحاول صنع فيلمٍ ولكنه يفشل في إنهائه ككل شيء حوله، فهو لا يستطيع إيجاد شقة مناسبة بنفس المنطقة خاصة أنه مضطر لترك الشقة التي يسكن بها، ولا يستطيع أن يتخلص من حبه القديم الذي يطارده، حيث يرى حبيبته بين الحين والآخر بالصدفة أو بافتعال الحجج، بل أن المخرج يؤكد على حالة (عدم الإنجاز) هذه حينما يقطع أغلب المشاهد قبل أوانها وكأنها هي الأخرى لا تنتهي نهاية معتادة/طبيعية، بل يتم قطفها قبل نضوجها، وفوق ذلك يجعل بطله لا يستطيع إكمال حديثه بشكل عام حيث يفشل في إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن نفسه، وهو بذلك يخفق في التعبير عن نفسه ومشاعره وعمله وسكنه وصداقته … إلخ.

وبذلك يتحول البطل إلى شبح في هذه المدينة التي تنتشر فيها الأشباح أكثر من الآدميين، حيث يشاهد ما يحدث حوله ويحاول أن يسجله عبر كاميراته بدون أن يتدخل، أي بدون أن يكون فاعلًا في هذا المجتمع الذي يعيش فيه، وهو ما أظهره مخرج الفيلم – بحرفية وشاعرية وحركة كاميرا قلقة كقلق وتردد البطل نفسه والمدينة والمجتمع الذي يغلي وكأنه فوق فوهة بركان – في موقفين؛ حينما كان يضرب أحد الرجال امرأة، وحينما كانت الشرطة تضرب وتعتقل أحد الشباب أثناء إحدى المظاهرات، وكلاهما رمز للأبوية التي تسيطر وتقمع المجتمع بداية من النظام السياسي وحتى المنزل مرورا بالشارع والعمل … إلخ.

ولكن هذا لا يمنع البطل من أن يحلم بمستقبل أفضل لمدينته ولنفسه. وعلى الرغم من أن أحلامه الشخصية جد بسيطة إلا أن هذه المدينة لا تلبي أحلامه أو حتى تبشر بتلبيتها كرغبته في أن يسكن في شقة في وسط البلد «أوضة وصالة بس أعيش فيهم» على حد قوله. ورغبته في أن يكون حرا في الحب أو مثلما تقول له حبيبته «نفسي ابوسك في الشارع» إلا أنها تستطرد فتقول وكأنها ترد على استنكار خفي ولكنه زاعق «احنا مبنعملش حاجة غير أننا بنستخبي». وجملتها تلك تعبر تمام التعبير عن كل شخصيات الفيلم الذين لا يفعلون شيئا سوى الاختباء ودفن رؤوسهم في الرمال هربا من الواقع الأليم حتى تحولوا إلى أشباح في مدينة تلفظ أنفاسها الأخيرة لتتحول إلى مقبرة.

يعتبر الفيلم هو تغريدة القاهرة الأخيرة قبل رحيلها، ويعتبر أيضا قصيدة في عشق مدينة يحبها مخرج وبطل الفيلم بحلوها ومرها، بجمالها وقبحها، بالأمل الذي يشرق فلا يستغرق أكثر من دقائق، ومصيرها المجهول الذي يحيط بها من كل جانب منتظرا الفتك بها تماما كأخواتها من بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء وبنغازي.. والقائمة تطول. هذه المدينة التي تفتك بأبنائها وببطل الفيلم فتجعله مثلما يقول أحد شخوص الفيلم الذي يشير إلى عدم قدرته على إنهاء فيلمه «أنت بتلف في دواير».

ربما دار مخرج الفيلم «تامر السعيد» في دوائر لفترة طويلة ولكنه أخيرا أستطاع أن ينهي فيلمه بعد ثورة اندلعت بعد شهور من أحداث الفيلم لتعطي لهذه المدينة نوع من الصحوة أو ما يشبه التنفس الصناعي الذي بث فيها الروح من جديد إلا أن هذه الصحوة لم تستمر طويلا ليعود حال القاهرة على ما هو عليه من موات. فهل تكون الأيام القادمة هي «آخر أيام المدينة» أم ستبعث هذه القاهرة من جديد كطائر العنقاء لتقهر من يعبثون بها ولترتدي ثوبا جديدا يليق بجوهرة الشرق؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.