لم تقف استخدامات الملابس في المجتمع المصري على مدار التاريخ الإسلامي عند حد ستر الجسد، إذ عكست جوانب كثيرة من العلاقات السياسية والاقتصادية والدينية السائدة بين الأفراد، ونُظر لها كمعيار للتمييز بين طبقة وأخرى، بل ولتحديد مسار الأحداث السياسية في كثير من الفترات.

ميراث فاخر

يذكر الدكتور محمد أحمد إبراهيم في كتابه «تطور الملابس في المجتمع المصري من الفتح الإسلامي حتى نهاية العصر الفاطمي»، أن الملابس ارتبطت بالمستوى المادي لبعض الطبقات، إذ أصبحت تشكل لديهم عنصراً من عناصر الثروة، بخاصة طبقة الحكام والوزراء ونساء القصر، وكانت من الأشياء التي حرصت هذه الطبقات على أن تورثها لأبنائها وأحفادها، بل كانت في بعض الأحيان من الثروات التي يتم مصادرتها من قبل الحكام والخلفاء، بخاصة حين تحدث جفوة بينهم وبين الوزراء أو أصحاب المناصب الكبرى، فقد أمر أحمد بن طولون ببيع ملابس ناظر قصره «ابن الفضل» بعد عزله، وبلغ ثمنها 20 ألف دينار.

كما استخدمت الملابس في بعض الأحيان عوضاً عن الأموال في سداد بعض الديون، أو كأجرة لتأدية بعض الخدمات، ففي كتابه «اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا» يذكر تقي الدين المقريزي «كان الغاسل أو الغاسلة تأخذ ملابس المتوفين رجالًا ونساء وما تحتهم من الفرش». ويوضح هذا النص تحول الملابس إلى بديل مادي للنقود، بخاصة إذا كانت عالية القيمة وجيدة النسيج أو مُطعمة ببعض الجواهر.

وكان الخليفة الفاطمي المستنصر بالله أول من استخدم الملابس والمنسوجات للخروج من الأزمة المالية التي تعرضت لها مصر أثناء الشدة العظمى (457- 464هـ)، إذ لجأ إلى بيع أنفس ما لديه من المنسوجات والملابس للإعانة على قيام أمر دولته ودفع رواتب الجند، وكان جملة ما باعه من المنسوجات والملابس والتحف النادرة يخص الأميرة رشيدة ابنة المعز لدين الله بعد أن ورث المستنصر جزءاً منه وضمه إلى خزائنه، روى «إبراهيم».

تخفٍ وتشهير وعقوبة

امتدت استخدامات الملابس لتشمل التخفي والتشهير والعقوبة. يذكر أحمد بن يوسف الكاتب والملق بـ«ابن الداية» في كتابه «المكافأة وحُسن العقبى»، أن عمر بن العاص عند تغلبه على مصر كان يتنكر ويخرج وحده، متشبهاً برجل من العوام، ليرى نية القبط تجاه المسلمين. وذكر أيضاً أن رجلاً كُني بـ«خطير المنزلة» هرب من الخليفة العباسي المتوكل على الله لميله إلى الخليفة المنتصر بالله، وتبرأ من حاشيته ولبس جبة صوف، فانتهى به المسير إلى مصر.

كذلك استخدم الحسن بن الصباح رئيس طائفة الإسماعيلية بالعراق بعض ملابس التجار للتخفي عند مقابلة الخليفة المستنصر بالله، حين أمره بإقامة الدعوة له بخراسان وبلاد العجم، بحسب ما ذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ». وكان اللثام من أكثر أجزاء الملابس التي استخدمت في التنكر أو التستر من الخصوم.

وبحسب «إبراهيم»، استخدمت الملابس أيضاً كوسيلة من وسائل التشهير بالأسرى والخارجين على الدولة، وكانت أغطية الرأس كالطرطور والقلانس والبرانس أكثر أجزاء الملابس استخداماً في التشهير، ما يؤكد أهمية أغطية الرأس ومكانتها وما تمثله من دلالة اجتماعية. ففي عام 292هـ أسقط العباسيون الدولة الطولونية وأمر الوالي العباسي محمد بن سليمان الكاتب، أن يُحمل الأسرى المصريون من الذين أسرهم القائد العسكري دميانة أثناء قدومه من دمياط على الجمال، فحُملوا عليها وعليهم القلانس الطوال وشهّرهم وطيف بهم في عسكره من أوله إلى آخره.

وكان «أبو ركوة» أحد الخارجين في العصر الفاطمي في عام 397هـ، وأمر الخليفة الحاكم بأمر الله بأن يطاف بهذا الرجل على جمل، وأن يُغطى رأسه بطرطور ضخم صُنع من الخرق المصبوغة، وخلفه قرد يصفعه، حتى وصل إلى الموضع الذي قُتل فيه.

كذلك استخدم البرنس ضمن ملابس التشهير، بخاصة مع القرامطة. ويذكر المقريزي «طيف بأسارى من القرامطة على الإبل بالبرانس وعدتهم ألف وثلاثمائة، مقدمهم مفلح المنجمي (أحد قواد القرامطة) ببرنس كبير على جمل بثوب مُشهر مكتوب على ظهره اسمه وما عمل، وخلفه جماعة من وجوه القرامطة».

وكانت مهمة التشهير بالخصوم أو الخارجين في العصر الفاطمي تُوكل إلى شخص عُرف بالـ«إبزاري»، وكانت أجرته على ذلك العمل مائة دينار وعشر قطع قماش تُصرف له من الديوان.

واستخدمت بعض الملابس في تنفيذ بعض العقوبات أو تأديب العصاة والمذنبين. يروي المقريزي، أنه في عام 398هـ أمر الخليفة الحاكم بأمر الله قائد قواده السابق حسين بن جوهر والقاضي عبدالعزيز بن النعمان بأن يلزما داريهما، ومُنعا وسائر أولادهما من ركوب الدواب، فلبسوا الصوف ومُنع الناس من الدخول إليهما، وجلسوا على الحُصر.

وكان تمزيق الثياب أحياناً يعد جزءاً من العقوبة لجأ إليه البعض، فالخليفة المستنصر بالله في زمن الشدة العظمى، أمر بتمزيق ثياب بعض التجار من محترفي تخزين الغلال وتعذيبهم ليكونوا عبرة يتم الاتعاظ بها، ذكر «إبراهيم».

والغريب، أن البعض أضفى على ملابس الخلفاء ورجال الدين قدسية وبركة، فكان بعض الوزراء يوصون بتكفينهم في ملابس الخلفاء المستعملة حتى ينالوا بركة الأئمة الخلفاء، كما ذكر المقريزي.

كما يذكر ابن الحاج العبدري في كتابه «المدخل» اعتقادات طبقة العامة تجاه رجال الدين والصالحين «وراحوا يحتمون بهم وبمخلفاتهم وقبابهم وأدواتهم الشخصية». وسار بعض أهل الذمة على نهج المسلمين، ففي كتابه «تاريخ الكنائس» يذكر أبو صالح الأرمني «وفي بعض الموالد تؤخذ أكفان القديسين للتبرك بها ثم تعاد على التوابيت مرة أخرى».

العمامة وتصنيف عناصر المجتمع

لعبت الملابس دوراً في التصنيف الديني والطبقي لعناصر المجتمع، وكانت أغطية الرأس أكثر أجزاء الملابس التي استخدمت في هذا السياق، بحسب ما أشار الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين»، حيث ذكر «كان للخلفاء عمة، وللفقهاء عمة، وللبقالين عمة، وللصوص عمة، وللأبناء عمة، وللنصارى عمة». ويوضح هذا النص ما كانت تمثله العمامة من أهمية ومكانة بين طبقات المجتمع لكونها تحفظ أهم جزء في الجسم وهو الرأس، كما أنها أول ما يظهر من الإنسان.

وكان للعمامة دور كبير في تحديد مكانة وأهمية الفرد داخل المجتمع. يشرح «إبراهيم»، أنه كلما كبر حجم العمامة دل ذلك على ارتفاع مكانة صاحبها وأهميته، لذلك تعددت أشكالها وألوانها وأحجامها لارتباطها بعديد من الطبقات، بل أصبح يُطلق على أحد عناصر المجتمع طبقة «المُعممين»، لما كانت العمائم تشكل عنصراً مهماً من عناصر هيئتهم، وكان أغلبهم من رجال الدين والعلماء والقضاة والكتاب والأدباء.

وبلغ من أهمية العمائم وما كانت تعكسه من دلالات اجتماعية أن أصبح للشخص الواحد أكثر من عمامة، كي تتلاءم كل منها مع المناسبات والأوقات المختلفة التي كان عليه أن يرتديها فيها، وترتب على ذلك زيادة إنفاق الشخص على العمائم مقارنة ببقية الملابس الأخرى.

كذلك أصبح لارتداء العمائم تقاليد وسلوكيات مرعية بين طبقات المجتمع، فكان يُنظر للرجل الذي يعرّي رأسه أو تُنزع عمامته بأنه ساقط المروءة وتاركًا للآداب، كما كان لا يجوز لبس العمائم أثناء الدخول على الخلفاء للتعزية إظهاراً للحزن.

ويذكر عبدالمنعم عبدالحميد سلطان في كتابه «الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي»، أن الفقهاء ورجال الدين في الدولة الفاطمية ارتدوا ملابس تميزهم عن غيرهم من فئات المجتمع، وأهم قطعة كانت «العمامة»، إذ كان الاحتفاظ بها على الرأس مظهراً اجتماعياً يضفي على لابسها الاحترام والتقدير، وكان حجم العمامة غالباً ما يعبر عن مكانة لابسها بين أرباب العمائم في الدولة، لذلك كان الشيوخ ورجال الدين غالباً ما يبالغون في لبس عمائم ضخمة ذات ذؤابة مُرخاة في آخرها.

وكانت عمامة القاضي ذات حجم كبير تكريماً له عن سائر أرباب العمائم في الدولة، وعُد التصريح بلبس عمامة على غرار عمامة القاضي تشريفاً كبيراً للشخص المسموح له بذلك، فقد روى المقريزي في أحداث سنة 415هـ / 1024م، أنه عند تعيين والي الشرطة بمصر كانت من بين خلعه «عمامة قاضي مُذهبة».

أما ملابس العامة، فقد كان التجار، بخاصة أصحاب الحوانيت منهم، يرتدون ملابس لا تختلف كثيراً عما يرتديه الفقهاء ورجال الدين، فكانت ملابسهم تتكون من ثياب واسعة، وعمائم مدورة.

ويذكر «سلطان»، أن أرباب الحرف والصناعات كانوا يرتدون غطاء الرأس الذي يُعرف بـ«القلنسوة»، التي كانت تُلبس على الرأس مثل العمامة، وكانت تأخذ شكل الكرة، وتصنع من الحرير والكتان، وأحيانا يرتدون العمائم المجدولة وكانوا يسترون أجسامهم بالسراويل والقمصان التي تتميز بسعة أكمامهما.

وكان بعض أرباب الحرف يرتدون ثياباً تتفق وطبيعة عملهم، فكان العجّان يرتدي ثوباً من دون أكمام يسمى «ملعبة» ليمنع نزول العرق من إبطيه إلى العجين، ويربط على جبينه عصابة لنفس الغرض.

وكانت سراويل السقائين تتميز بلونها الأزرق وضيقها وقصرها لتكون «ضابطة لعوراتهم»، وتناسب عملهم الذي يحتم عليهم الخوض في المياه لملء قِربهم، كما كان الرجال الذين يعملون في حرفة البناء يرتدون أيضاً السراويل الضيقة لستر عوراتهم أثناء صعودهم وهبوطهم.

كذلك شاع اللون الأحمر في ملابس البغايا ومحترفي الدعارة، لما ارتبط به من الفسق والمجون. وفي كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» يذكر المقريزي «كان يجلس في سوق الشماعين بغايا يقال لهن زعيرات الشماعين، لهن سيما يعرفن بها وزي يتميزن به وهو لبس الملاءات الطرح، وفي أرجلهن سراويل من أديم (جلد) أحمر، وكن يحترفن الدعارة ويقفن مع الرجال».

ملابس الأمراء المغضوب عليهم

يذكر الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور في كتابه «المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك»، أن ملابس الرجال في العصر المملوكي تباينت واختلفت حسب مكانة الشخص ومركزه الاجتماعي، حتى أصبح من السهل على أي زائر يمر بالقاهرة أن يحكم على كل شخص يراه، ويحدد في سهولة طبقته الاجتماعية وحرفته أو عمله، وديانته إن كان مسلماً أو ذمياً.

وبحسب «عاشور»، حافظ المماليك على لباس الرأس الذي اتخذوه من أيام بني أيوب، وهو كلوتات صُفر (جمع كلوتة وهي طاقية صغيرة من الصوف والقطن) وكلبندات (لباس رقبة يُربط تحت الذقن لحفظ الكلوتة التي فوق الشعر من الحركة) بغير عمائم أو شاشات (قماش رقيق يلف حول العمامة)، في حين يرسلون شعورهم مضفورة خلفهم في أكياس حريرية ملونة حُمر وصُفر.

وكان الأمير لا يلبس الشاش والكلوتة وغيرها من ملابس التشريفة إلا وهو في إمرته متمتعاً برضاء السلطان، فإذا أصبح بطّالاً وزال عنه إقطاعه، أو صار مغضوباً عليه من السلطان، فإنه في هذه الحالة لا يتشح بالحرير بل يشد وسطه ويتوشح بتصفية ويتعمم بتخفيفة وكلها من ملابس الأمراء المغضوب عليهم.

سخرية المصريين من ملابس القضاة

أما ملابس المُعممين وأرباب الوظائف الدينية من القضاة والعلماء، فاختلفت باختلاف مراتبهم، فالقضاة والعلماء كانوا يلبسون العمائم الكبيرة، ومنهم من يحمل طرف عمامته على هيئة ذؤابة طويلة يرسلها بين كتفيه، وقد لاحظ ابن بطوطة على بعض قضاة مصر في القرن الثامن أنهم بالغوا في تكبير عمائهم، مما جعلهم مثار سخرية العامة، فصنعوا تمثيلية في خيال الظل أطلقوا عليها اسم «بابة القاضي»، ومثلوا فيها القاضي بعمامته الكبيرة وأكمامه وثيابه الطويلة.

ويذكر «عاشور»، أن قاضي القضاة امتاز بلبس طرحة تستر عمامته وتتسدل على ظهره بين الكتفين مع ميل إلى الكتف اليسرى، وأما الخطيب فامتاز بلبس رداء أسود وطرحة سوداء رمزاً للشعار العباسي.

أما الأشراف، وهم سلالة علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء، فرسم لهم السلطان شعبان سنة 773هـ أن يجعلوا في عمامتهم علامة خضراء بارزة للعامة والخاصة، تعظيماً لقدرهم وحتى يمتازوا عن غيرهم.

تصنيف ديني

إذا كانت بعض أجزاء الملابس استخدمت كوسيلة للتصنيف الطبقي لعناصر المجتمع، فقد استخدمت أيضاً كوسيلة للتمييز الديني. وبحسب «عاشور»، فُرض على أهل الذمة من النصارى واليهود في فترات متقطعة من عصر سلاطين المماليك قيود شديدة في الملبس، التزموها ولم يتخطوها، منها حظر ارتداء الجبب بالأكمام الواسعة، كهيئة قضاة الإسلام.

كذلك اشترط في ثيابهم أن تكون قصيرة وغير طويلة، وفُرض عليهم تصغير العمائم بحيث لا يزيد طولها على عشرة أو سبعة أذرع، مع تلوينها باللون الأزرق للنصارى والأصفر لليهود، كما طُلب من النصارى أن يشدوا أوسطهم بـ«الزنانير»، وهي نوع من الأحزمة لا يلبسه إلا المسيحيون.

ولكن يبدو أن معظم هذه القيود والالتزامات لم تكن ملحوظة بدرجة واضحة، بدليل ما ذكره رحالة مغربيون زاروا مصر في عهد المماليك من أن الفارق الوحيد بين المسلمين وأهل الذمة في الهيئة والملبس هو لون العمامة فقط، بحسب «عاشور».

وتذكر الدكتورة محاسن محمد الوقاد في كتابها «اليهود في مصر المملوكية في ضوء وثائق الجنيزة 648- 923هـ/ 1250- 1517م»، أن قيوداً شديدة فُرضت على اليهود في فترات متقطعة من عصر سلاطين المماليك، تمثلت في إلزامهم بـ«الغيار»، وهو الملبس المغاير لما يرتديه المسلمون لتمييزهم، فقد تعين على اليهود أن يرتدوا الملابس الصفراء وتُحدد باللون الأحمر لطائفة السامرة، وأُلزمت المرأة اليهودية بأن ترتدي أزراراً من الكتان، وهي عبارة عن ملاءة كبيرة تلتف بها المرأة، وأن تكون فردتا الخف الذي تلبسه في قدميها من لونين مختلفين.

غير أن هذه القيود لم تُفرض على اليهود إلا في أوقات الأزمات فقط، فلا يوجد في المصادر المعاصرة ما يثبت أن اليهود أُلزموا في الأوقات العادية بها، بل على العكس هناك ما يشير إلى تمتع نساء اليهود بارتداء أفخر الأزياء والملابس دون تفرقة بينهم وبين المسلمات، ذكرت «الوقاد».

أما ملابس الرجال فتمثلت في القفطان الذي كان يرتديه عدد كبير من اليهود، وهو عبارة عن عباءة واسعة طويلة تغطي الجسم كله من الرقبة حتى كعب القدم، وكانوا يستخدمون في ربطه الزنار.

وكانت ملابس الرجال في عصر المماليك تتباين وتختلف حسب مكانة الشخص ومركزه الاجتماعي، فكان البعض يرتدي «الشراريب» وهي عبارة عن قميص من الحرير كان يلبسه اليهود المتدينون تحت ملابسهم.