في روايته «دون كيخوتي»، صاغ الروائي الإسباني الشهير «ميخائيل دي سرفانتس» شخصية تُجسِّد أعلى مراحِل سذاجة النفس البشرية. حين قدَّم للعالم «دون كيخوتي»؛ الرجُل الخمسيني المولع بقراءة قصص الفروسية والشهامة القديمة.

أمضى الهزيل «دون كيخوتي» حياته يتجوَّل باحثًا عن وحوش يصارعها، مستعينًا بجواد عليل وسلاح متهالك، طمعًا في أن يُصبح أحد هؤلاء الفرسان الذين قضى أيامًا في قراءة قصص فروسيتهم.

للأسف، خلط «كيخوتي» الخيال بالواقع، وانتهى به المطاف محاربًا طواحين الهواء، فلم يقضِ ما تبقى من حياته شخصًا عاديًا، ولم يصبح فارسًا شهمًا، بل بائسًا محمومًا يُنظر له بعين الشفقة.

لماذا نحنُ هنا؟

قبل وقت طويل، أدركت أندية كرة القدم حول العالم أهمية الإعلام كوقود يدفع صناعة كرة القدم. وعليه، قررت بعض الأندية اقتحام حجرات معيشة المُشجعين، عبر ما عُرف لاحقًا بقنوات الأندية التلفزيونية.

كان نادي «ميدلزبره الإنجليزي» أول نادٍ يتفرّع للتلفاز، حينما أطلق قناته «Boro TV» عام 1997 بالتعاون مع إحدى الشركات المحلية. اقتصر عمل القناة وقتئذ على إذاعة مباريات مسجلة مع شعار الفريق أعلى الشاشة، قبل أن تنجح في الحصول على حقوق بث مباريات الدوري الإنجليزي- بعد يومين من موعدها- بحلول عام 2001.

مع توالي السنوات، التحقت الأندية الكُبرى بالركب، وأطلقت أندية مثل: مانشستر يونايتد، تشيلسي، ليفربول وأرسنال وغيرها من الأندية البريطانية والأوروبية قنواتها الخاصة.

في الواقع، بدت فكرة القناة الرسمية للنادي مثالية؛ لأنها تقوم بالأساس على توفير محتوىً يجعل المُشجِّع أقرب لأجواء النادي، عبر بث مباريات الفريق الرديف، فريق الشباب، إعادة إحياء ذكريات المباريات الكلاسيكية للنادي، إضافة لمقابلات حصرية مع اللاعبين النجوم.

لكن الحقيقة أن إنشاء مثل تلك القنوات لم يكُن مدفوعًا برغبة في إرضاء المُشجِّع وتعريفه بتاريخ ناديه. وربما من هنا يبدأ كل شيء.

الأهلي تاريخ، مبادئ، وتطوير. تاريخ مشرف ويشرفنا جميعا وفخر لكل أهلاوي أن يفتخر بتاريخ ناديه، ونحافظ على تاريخنا ومستقبلنا.
محمود الخطيب، رئيس النادي الأهلي.

عصفوران وحجر

طبقًا لـ«جاييم جرايل»، أحد مسؤولي التسويق ومدير العلامة التجارية لنادي برشلونة الإسباني، امتلاك أندية كرة القدم لأذرع إعلامية رسمية تبُث مقاطع وبرامج حصرية على مدار الساعة لا يُعد ميزة في حد ذاته.

الأهم وفقًا لرأيه هو تطوير المحتوى وتسويقه بالشكل الأمثل من أجل استغلال الفُرص المادية التي تنشأ عقب تنامي القاعدة الجماهيرية للنادي؛ لأن الهدف الأساسي -حسب رأيه- هو بيع المزيد من المنتجات أو تأمين صفقات رعاية جديدة للنادي.

ولأن التشجيع يثير في المشجع غريزة القَبَلية بداهة، بدا منطقيًا أن يزحف الآلاف لمتابعة القنوات الخاصة للأندية التي يؤازرون، حتى وإن كانت لا تُقدم محتوىً متنوعًا كغيرها من القنوات الخاصة التي توصف بالـ«محايدة».

سياسة القناة ستكون الدفاع عن النادي وعدم الاعتداء على الآخرين. نسعى دائمًا وأبدًا لمصلحة النادي فقط بعيدًا عن الصراع مع الآخرين.
مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك.

في مقاله: «نادي كرة القدم يخبرك فقط بما يريدك أن تعرف»، وصَف «سيب ستافورد-بلور»، محرر مجلة «فور فور تو» العالمية، قنوات الأندية الرسمية بأنّها بمثابة الجنّة لمشجعيها، الذين لا يريدون أن يستمعوا لآراءٍ تتعارض مع وجهة نظرهم حول الكيان المتمثِّل في النادي.

قناة النادي هي المساحة الآمنة التي يتوق إليها المُشجع. هناك يبدو كُل شيء على ما يُرام، لا يوجد لاعب يتذمر، ولا آخر معروض للبيع. هناك كل الأحلام ممكنة.
سيب ستافورد- بلور، محرر مجلة فور فور تو العالمية.

لذا، ربما تدور سياسة عمل قناة أي نادٍ حول فكرة واحدة؛ وهي تجميع أكبر عدد ممكِن من المشجعين حول الروايات التي تخرج على لسان النادي. بغض النظر عن صحة أو خطأ هذه الروايات. بينما لم يكن المحتوى سوى شبكة لصيد المشجع المنتمي لفريقه، الراغب في التعرُّف على هوية ناديه وتاريخه عن قُرب.

على الطريقة المصرية

يملك ناديا الأهلي والزمالك المصريان قناتين من أصل 4 قنوات خاصة بالأندية الإفريقية، تعمل بنفس النهج السالف ذكره، الذي يبدو مُملًا في بعض الأحيان، يحتاج لإضافة بعض البهارات المصرية الخاصة.

تحتوي قوائم البرامج المُذاعة على قناتي الأهلي والزمالك على عروضٍ مخصصة للدفاع عن النادي، وإثبات مثاليته، وأحيانًا التطاول على المنافسين بصيغة مباشرة أو غير مباشرة.

حتى نتسّم بالموضوعية، لا تخلو قنوات الأندية الأوروبية من حوادث مشابهة، تبدو سيئة في العموم. فمثلًا؛ انتقد «روي كين» مشجعي مانشستر يونايتد في مقابلة مع قناة النادي الرسمية وزعم أنّهم لا يفقهون شيئًا عن كرة القدم، بعد إحدى مباريات الفريق في دوري أبطال أوروبا عام 2000.

في حادثة أخرى يعود تاريخها لعام 2011، نشب خلاف على الهواء مباشرة بقناة تشيلسي الرسمية بين المضيف «جيجي سالمون» و«مارتن صامويل» صحفي «ديلي ميل»، عندما رفض الأخير بشدة ذكر مصادره لقصة تزعم أن بعض لاعبي البلوز أرادوا عودة جوزيه مورينيو كمدرب للفريق مرة أخرى.

بالعودة للبهارات المصرية مجددًا، ربما تكمُن الأزمة في تبنّي القنوات الرسمية للناديين المصريين الأكبر لفكرة الدفاع عن حقوق النادي بأي طريقة كانت، على الرغم من أن الرواية الرسمية الصادرة عن كلا الناديين تؤكد رغبتهما في نشر الروح الرياضية.

لا ينبغي للمنبر الرسمي للنادي أن يتطرّق لمثل هذه المهاترات من الأساس. وقبل أن تسيء الفهم، لا يعني ذلك ألا يدافع كُل مسؤول عن ناديه، بالعكس تمامًا. لكن فقط ربما يجب على المسؤول البحث عن الأبواق المناسبة لتمرير مثل تلك الخطابات بعيدًا عن قناة النادي.

في أبريل/ نيسان 2021، أزاح «فلورنتينو بيريز»، رئيس نادي «ريال مدريد» عن مشروع «السوبرليج». وقتئذ، كان النادي الإسباني بجانب عدد من الأندية الأوروبية محل هجوم وانتقاد جماهيري وإعلامي.

وبما أنّ «بيريز» كان من المتوقّع أن يكون الرئيس الأول للمشروع، كان لزامًا عليه أن يخرُج مدافعًا عن مصلحة ناديه، المتمثلة -حسب رأيه- في إقامة هذا المشروع.

لم يظهر رئيس ريال مدريد على قناة ناديه الرسمية للدفاع عن موقفه وموقف ناديه، بل اختار أن يبحث عن من يساعده على القيام بالعمل السيئ -بالتعبير الإنجليزي- حينئذٍ، وقع اختياره على البرنامج الإسباني المثير للجدل «تشيرينجيتو»، حيث استضافه «جوسيب بيدرول» متيحًا له الفرصة كاملة لتمرير رسائله حول مشروع «السوبر ليج» من دون أي قيود.

نهايةً، رُبما أذنب المشجِّع -المصري في حالتنا- فقط حين قرر طوعًا أن يهرَب إلى مساحة قناة ناديه الآمنة، بكل ما تبثه من روايات حقيقية أو زائفة، ليتحوَّل من ساعٍ لمتابعة الرياضة، إلى بائس تمامًا كـ«دون كيخوتي»، يتجوَّل بين الطرقات مرددًا عبارات رنّانة مثل: المبادئ، الكرامة والاضطهاد، متناسيًا أنّه مُجرَّد متلقٍ لعرضٍ غرضه الأساسي تسليته لا أكثر ولا أقل.