لاقى مسلسل بالطو المنتج والمعروض على منصة «ووتش ات» WatchIt رواجًا كبيرًا بين أوساط متابعي الأعمال الجديدة من المشتركين في منصات عرض الوسائط المختلفة من مراحل عمرية متفاوتة لكن الأكثرية من صغار السن والشباب قبل سن الأربعين، المسلسل مبني على رواية «بالطو وفانلة وتاب» للكاتب والطبيب أحمد عاطف الذي كتب السيناريو الخاص بالاقتباس التلفزيوني كذلك، ومن إخراج عمر المهندس الذي يتولى عمله الخاص الأول بعد سنوات عمل كمساعد للمخرج شريف عرفة، عادة ما تلاقي الأعمال المصنفة كوميدية رواجًا بين المشاهدين المصريين، مسلسل «اللعبة» مثلًا من بطولة هشام ماجد وشيكو يدخل موسمه الرابع وينتظره محبوه بنفس الحماس، كذلك مسلسل الكبير أوي الذي يقوم ببطولته أحمد مكي يستعد لتقديم نسخته السابعة بعد عدة أيام في رمضان دون أن يفقد شغف متابعيه من سنوات.

الرابط بين تلك الأعمال الناجحة هو كون واجهتها نجوم كوميديين راسخين ذوي كاريزما و«بيرسونا» كوميدية ناجحة من سنوات، يصعب التفريق بين النجم وشخصيته فهم يلعبون نسخًا من أنفسهم بشكل أو بآخر، كوميديا معتمدة على خلق شخصيات مميزة تخلق الضحك من متناقضات بيئات معينة في مقابل ردود أفعال تلك الشخصيات الراسخة، المفاجئ في نجاح بالطو هو عدم رسوخ أي عنصر داخله بشكل مسبق، والانفصال الكامل بين فكرة الممثل الكوميدي كبيرسونا والعمل الكوميدي نفسه، يقدم «بالطو» كوميديا نابعة من الرحلة التي يجتازها البطل ومدى مطابقة تلك الرحلة لمواقف شخصية محددة جدًا من حياة قطاع كبير من أجيال معينة في مصر، لا يستخدم العمل أي أسماء كوميدية كبيرة بل يتخذ من عصام عمر الوافد الجديد بطلًا له وهو الذي شارك في عدة أعمال من قبل لم تتسم بالكوميديا بشكل خاص منها منورة بأهلها ليسري نصرالله، فكيف بنى صناع «بالطو» عالمهم دون اللجوء لكوميديا الشخصية؟

رحلة البطل

يبني أحمد عاطف وعمر المهندس عالم «بالطو» من خلال سردية مألوفة وهي السمكة خارج المياه، أي ينتقل فرد ما من بيئته وعالمه لبيئة جديدة كليًا، لا يعرف كيفية التعامل معها أو التحدث لغتها، يخلق ذلك مفارقات كوميدية مألوفة للغاية من تناقضات اللغة نفسها بين الريف والمدينة حتى الوصول إلى صيغة من النقد الاجتماعي المبطن لوضع المنظومة الصحية في مصر، عاطف (عصام عمر) شاب متخرج حديثًا من كلية الطب يضغطه أبوه لأن يكون طبيبًا منذ كان طفلًا، وحين تحين اللحظة يعرف تمامًا أنه غير مستعد لحجم المسئولية لكنه يواجه تعقيدات بيروقراطية وأقدارًا غير متوقعة، تنقله من حياته كفرد من طبقة متوسطة عليا في مصر الجديدة القاهرة إلى سمكة خارج المياه في قرية مختلقة تدعى «طرشوخ الليف» على أطراف محافظة كفر الشيخ.

معظم من شاهد العمل من الأطباء المصريين تعرف على الفور على تلك التجربة وبدأ تداول الحكايات على مواقع التواصل الاجتماعي عن تجارب مشابهة، لكن بجانب واقعية التجارب ونقلها بخفة فإن الطريقة التي اتبعها السيناريو في بناء حكايته هي واحدة من أقدم وأشهر الطرق، تقليدية للغاية لكنها تفي بالغرض تمامًا، وتصنع حكاية جيدة بالمفهوم البدائي للحكاية المتماسكة، وهي صناعة بطل أسطوري، هذه المرة من أكثر الشخصيات عادية.

حلل جوزيف كامبل في كتابه البطل بألف وجه ما يصنع البطل الأسطوري من خلال قالب شهير يفصل رحلة البطل التي تتكون من عدة مراحل يجب أن يتخطاها البطل لكي يصبح بطلًا لأسطورته، طبقت طريقة كامبل في عديد من الأعمال الأدبية والسينمائية واستقى منه محاضرو وكتاب مؤلفات كتابة السيناريو، فهي وصفة بسيطة لصناعة قصة جيدة، يبدأ فيها البطل من اللاشيء ويواجه العقبات حتى ينفذ قدره، عند مشاهدة «بالطو» يمكن بسهولة تطبيق كل خطوة من رحلة البطل على العمل، حتى وإن لم يصبح البطل أسطورة في النهاية بل تعلم فقط كيف يصبح جزءًا من عالمه الجديد، يبدأ العمل رحلة عاطف بأول خطوات رحلة البطل وهو النداء للمغامرة في صورة تحديد تكليف الطبيب الجديد في قرية نائية بعيدًا عن أرضه، ثم ينتقل إلى رفض النداء في صورة غضب شديد واستنكار، يستبدل العمل الدوافع الخارقة للطبيعة التي تلقي بالبطل في العالم الجديد بتفاصيل حياتية ومحلية بسيطة مثل وعد بنقل التكليف من سنتين إلى ستة أشهر إذا لم يتعد ستة جزاءات طيلة مدة تكليفه فيقبل بالمغامرة.

بعد انتقال عاطف من المدينة إلى الريف الذي يمثل العالم الجديد يتخطى العتبة الأولى التي عادة ما تكون في صورة وحش، الذي يمكن تمثيله بسهولة في تخطي أول مهمة طبية، بقبول مهمة صعبة مثل توليد امرأة في حالة حرجة ودون خبرة مسبقة، بعد ذلك تأتي مرحلة بطن الحوت وهو اختبار شديد يساعد على فصل البطل عن عالمه القديم وجعله جزءًا من عالمه الجديد يحدث ذلك عن طريق خلق صراع بين العلم والخرافة وتقديم شرير إلى العمل في صورة الشيخ مرزوق (محمود البزاوي) الذي يواجهه عاطف على الرغم من قلة حيلته وعدم اهتمامه بحياته الجديدة، ينتقل المسلسل من مرحلة إلى أخرى بتقليدية والتزام شديدين لكن بكفاءة، كل خطوة تسلم الخطوة التي تليها حتى تصل القصة إلى مرحلة مقابلة الإلهة التي عادة ما تمثل في الأعمال الدرامية مقابلة عنصر أنثوي يمكن الوقوع في حبه ويشجع ذلك الحب على مواجهة الصعاب وتخطي العقبات التي تجعل العيش في العالم الجديد مستحيلًا، يتعرف عاطف بالدكتورة هاجر (مريم الجندي) الذي يعجب بها وتراه هي شابًا أخرق (عيل) كما يناديه معظم من يقابله في الوحدة الصحية في الريف، نظرتها الدونية له تجعله يرتفع فوق نفسه ويصبح أكثر مما يتصور عن ذاته، حتى يصبح فعلًا جزءًا من عالم تلك القرية الريفية المهملة والفوضوية، ويصبح بشكل ما بطلها، يفعل ما عليه فعله ويستجيب للنداءات.

كوميديا المتناقضات

تلك المقاربة الكلاسيكية لسيناريو العمل جعلته ناجحًا دراميًا وكوميديًا، فهو يسير بدقة بحسب مخططات قصصية بالغة القدم ويستخدم الانتقال بين العوالم لخلق كوميديا محلية للغاية على الرغم من عمومية قصته، ما يجعل الكتابة غير المتعلقة بالشخصية مضحكة هو خصوصيتها الشديدة، بإدراج تفاصيل مثل سوء التفاهم بين الريفيين والمدينيين في المصطلحات اللغوية والعادات القروية أو في خصوصية عناصر يمكن للجميع في مصر بأكملها فهمها مثل الأهمية القصوى لختم النسر، تستخدم عناصر بسيطة مثل تلك لخلق صراعات كبرى منها ما يجعل الدراما على المحك ومنها ما يستدعي الضحك، كما أن العمل يكمل سيره على خطى قواعد القصص الكلاسيكية فلا يترك عنصر يذكره دون أن يستخدمه ولا خط دراميًا دون أن يكمله.

يعمل المسلسل بخفة تجعل نقده الاجتماعي تلقائيًا حتى مع مباشرته، لكنه ينحو نحو تلقينية أكثر وضوحًا مع تقدم حلقاته تظهر في التمثيل التجسيدي للعلم في صورة الطبيب والجهل في صورة الشيخ، تتصاعد الدراما حتى تصبح صراعًا بين تلك العناصر، لكن يعود العمل سالمًا لخفته حينما يعلق الانتصار بينهما، فهو يسير في خط رفيع بين الهزل والجدية، يثقله أحيانًا إدراج مشاهد أثقل مما تحتمل خفة العمل لكي ينقل بطله من حالة السلب إلى الإيجاب لكنه سرعان ما يتعافى من ثقله ويقلب جديته رأسًا على عقب في شكل كوميديا بصرية متمثلة في انتقالات مونتاجية سريعة لا تركن إلى الواقعية المفرطة بل تباغتها بمزحة من داخل النسيج المكاني.

يوظف العمل شخصياته وممثليه كلهم باعتبارهم أنماطًا، فهناك الطبيب الجشع الاستحقاقي الذي يمثله محمود حافظ في دور دكتور سمير أو مديرة فريق التمريض الصارمة ميس كوثر (عارفة عبد الرسول) أو مسئول الحسابات المرتشي (رضا إدريس) أو حتى عاطف نفسه الشاب الجديد الذي لا يفقه شيئًا، ما يمنع انزلاق الأنماط إلى الابتذال هو كونها مستمدة من تجارب معاشة يمكن أن يقابلها أي فرد من البيئة نفسها في حياته العملية وليست مستمدة من أنماط أخرى شوهدت في التلفزيون كما أن النكات المتوقعة النابعة منهم تنتمي للشخصيات نفسها وليست للممثلين أو شخصياتهم المعروفة مسبقًا، تصبح عملية المشاهدة مفاجئة في كل حلقة نظرًا لعاديتها الشديدة، ليس لأننا رأيناها من قبل في أعمال أخرى لكن لأننا رأيناها في الحياة، تلك الألفة والتوقع تجعل العمل ملائم لتصنيفه بمسلسل راحة Comfort Show، لأنه حتى مع تعقد الأشياء فإن هناك اطمئنانًا أنها سوف تكون على ما يرام.

رحلة نضوج

يصور «بالطو» رحلة نضوج من الصبا للتعرف على الذات في إطار يسهل التوحد معه نظرًا لأن صانعي العمل هم من الجيل الذي يعيش القصة نفسها بحداثة لم تجعلها ذكريات في عقولهم بعد، كما يقدم أداءات تمثيلية بسيطة ومعقدة تكتشف ممثلين في بداياتهم مثل عصام عمر أو تعيد تعريف ممثلين متمرسين مثل عارفة عبد الرسول ومحمد محمود، ويكشف بشكل واضح كيف يتسبب خلق مساحة بسيطة للتنفس في واقع درامي خانق في صنع أعمال غير موجهة أو متجاهلة للواقع المعاش وكيف يتوق متابعو الدراما المحلية إلى تلك المساحة من النقد المجتمعي حتى لو في أكثر صوره هزلًا وخفة.