محتوى مترجم
المصدر
Syndicate Theology
التاريخ
2016/06/23
الكاتب
سارة فارس

يأتي الكتاب الجديد لجوزيف مسعد «الإسلام في الليبرالية» كمداخلة مرحَّب بها وآنية على واحد من أكثر الأسئلة إلحاحًا في زمننا: لماذا يحتل الإسلام مثل هذا الموقع المركزي المؤذي داخل الأيديولوجيا والسياسة الغربية؟، يجيب مَسعد على هذا السؤال بأطروحة بسيطة: «الإسلام» بحد ذاته لا وجود له. إنَّ ما صار يُدعى الإسلام [في الغرب]، على أنه افتراضًا كيان ثقافي متجانس، كان قد اختُلِق في الواقع من قِبل الليبرالية الغربية على أنه آخرها الرمزي. أو في صيغة أخرى، فإنَّ الإسلام هو الأنا البديلة «للهوية» والنظام الليبرالي الأورو-أمريكي، حيث يصور على أنه يختلف اختلافًا جوهريًا عن الأخير بغية تحويله تحديدًا إلى موقع رمزي يمكن لليبرالية الغربية أن تُسقِط إخفاقاتها ومخاوفها عليه.

تضحي هذه الأطروحة مقنعة وواضحة على نحو بارز في الفصل الثاني والأطول في الكتاب، الذي يحمل عنوان «النساء في/و ‘الإسلام’: المهمَّة/الإرسالية الإنقاذية للنسوية الليبرالية الغربية». في هذا الفصل الذي يشكِّل وحده ثلث الكتاب، يستكشف مَسعد كيف أن الليبرالية الغربية عمومًا والنسوية الليبرالية الغربية خصوصًا قد صورتا الجنسوية (Sexism) والعنف ضد المرأة بنجاح على أنهما تقريبًا قائمان حصريا داخل مجال الإسلام بوصفه آخرًا. يقدِّم مَسعد هذا الخط الرئيس من الحجة من خلال أسلوب ملحوظ من التحليل التزامني (Conjunctural analysis). بناءً عليه، أروم، في هذه المراجعة، التركيز على هذا الفصل، مسلطةً الضوء على ما أراه أكثر حججه بصيرةً ولكن أيضًا مع تقديم نقد لتلك النماذج التي أعتقد أن مَسعد كان بإمكانه فيها أن يطوِّر أطروحاته المهمَّة على نحو أكبر.

بادئ ذي بدء، يسأل مَسعد كيف ولماذا صار الإسلام على نحو متزايد مرتبطًا بالعلاقات الجندرية غير المتكافئة والممارسات العنيفة ضد النساء – التعويذة التي صارت منتشرة بشكل خاص عقب 11/9 وبداية «الحرب على الإرهاب». بدلًا من تقديم حجة سهلة وبالتالي تبسيطية، فإنه يقترح أن يتم تحليل هذه الظاهرة كنتيجة لتقاطع تاريخي وسياسي واقتصادي واجتماعي، حيث التلاعب السيمانطيقي المتناغم جدًا والانتصارات والمناورات الإمبريالية (انتصار الليبرالية الغربية على «الاشتراكية القائمة بالفعل») إضافة إلى عمليات احتواء للمخاوف النسوية الليبرالية قد دُمِجت جميعها (عن قصد أو عن غير قصد) من أجل إنتاج صورة قوية مفادها: أن الإسلام كيان غير ديمقراطي وأن المسلمين ضحاياه ويتوجَّب إنقاذهم. وكما هو الحال في بقيَّة الكتاب، في فصل «النساء في/و الإسلام» يأخذنا مَسعد عبر جينيالوجية مفصَّلة أعاد بناءها تُظهر كيف أن الأفكار القديمة والقوالب المتأصلة بشدَّة عن حيوات النساء المسلمات قد أعيدت تعبئتها في مجالات سياسية جديدة. وكما ينبّهنا عن حق، إنَّ الفكرة الغربية التي تُفيد أن النساء المسلمات هُنَّ إماءٌ في عالم من الأسياد (المسلمين) الذكور ليست في الواقع فكرة جديدة. منذ «الرسائل الفارسية» لمونتسكيو، مرورًا بـ «دفاعٌ عن حقوق المرأة» لماري ولستونكرافت، وصولًا إلى «هل التعددية الثقافية سيئة للنساء؟» لسوزان مولر أوكين، اتَّسمت مواجهة الإنتلجنسيا الأوروبية والأمريكية الليبرالية (والنسوية) مع الإسلام والشرق بتعليقات باترة عن المكانة الدونية للنساء. يؤكِّد مَسعد أن الخطاب حول مصاعب وانعدام حقوق النساء المسلمات وغير البيض/غير الغربيات في كل من بريطانيا والولايات المتحدة كان نابعًا مباشرةً من التشابكات بين الحركة النسائية البيضاء والحركة التبشيرية المسيحية. وكما يقترح مَسعد (116-117): «إنَّ مكانة المرأة الشرقية أضحت المرجع الذي تقيس النساء البيض، بالتضاد معه، مكانتهن المتقدِّمة في المجتمع المسيحي، وإضافة لذلك، ترسِّخن من خلاله الفهم القائم بالفعل بشأن الأسس التحررية للمجتمع المسيحي الغربي كنقيض للأسس القمعية للمجتمعات الشرقية».

وعلى نحو مثير للاهتمام، يُطلعنا مَسعد في هذا السياق على حقيقة أقل انتشارًا تُفيد أنَّ الأنا البديلة السابقة للغرب في غضون الحرب الباردة (أي؛ الاتحاد السوفييتي) قد أيَّدت فكرة احتلال النساء المسلمات و«الشرقيات» لمكانة أقل في تراتبية الأنظمة الجندرية. في خطبة تعود للعام 1924، تنبَّأ تروتسكي أنه سيكون على نساء الشرق لعب دور أكبر مقارنة بالوضع في أوروبا لأنهنَّ كنَّ «بما لا يقارن أشدّ تقيدًا وسحقًا وإرباكًا، نتيجة التحيزات الشوفينية، من الرجل الشرقي» (اقتبس في مَسعد، 120). وقد بدأت المديرية السوفييتية للعمل بين النساء (جينوتديل) في حملات تحرير للنساء المسلمات في وسط آسيا، بينما رحَّب المؤتمر الدولي للنساء الشيوعيات في 1921 بنساء وسط آسيا اللواتي خلعن الحجاب كدليل على تحسُّن وعيهن.

وكما يلاحظ مَسعد، «إنَّ الفهم الاشتراكي السوفييتي لمسألة المرأة، خلافًا لموقفه من أشكال أخرى من العدالة، بدا أنه يلتقي مع النسوية الليبرالية عندما يتعلق الأمر بالنساء المسلمات» (120). وبالتالي، كانت مسألة المرأة الشرقية دائمًا، كما يُجادل، مثالًا مشروعًا للمسألتين الشرقية والغربية الأكثر عمومية.

وقد حظي هذا المثال، بحسب مَسعد، ببروز خاص منذ أواخر الثمانينيات وتأسيس النظام العالمي الجديد النيوليبرالي. تُفيد أطروحة مَسعد المهمة والمركزية أنَّ انتصار الغرب والرأسمالية النيوليبرالية على الاشتراكية السوفييتية أنتج سلسلة من العواقب المتشابكة: من ناحية، أن حقوق الإنسان كحقوق غير اقتصادية وإنما حقوق فردية بحتة استُخدمت بشكل متزايد من قِبل اللاعبين الغربيين (بما في ذلك المنظمات غير الحكومية) لفرض أجندتهم وقيمهم في جنوب الكرة الأرضية. وكما أوضح مَسعد، «ما يحظى به خطاب (والحملات المنظَّمة لـ) حقوق الإنسان هو علاقة عرضية بالرأسمالية العالمية النيوليبرالية: يقوم بطرح بعض النقد في أحيان نادرة؛ ويحاول القيام بعملية تطعيم ضد التجاوزات الأسوأ للنيوليبرالية؛ ويزعم في بعض الأحيان أنه يقدم شيئًا تقريبًا من قبيل الجمهور المعارض، لكنه لمَّا يزل يعمل بإصرار خارج المجال الاقتصادي، وهو أهم مسارح الممارسات النيوليبرالية».

ومن ناحية أخرى، يقترح مَسعد على ما يبدو أن الإسلام قد حل محل الاتحاد السوفييتي كعدو عالمي كما حلت الصرخة ضد اضطهاد النساء محل الصرخة القديمة ضد الافتقار إلى الحرية في الاتحاد السوفييتي. ومن أجل أن يقوم بمفصلة تلك النقاط، يعيد مَسعد بحذر بناء جينيالوجية إدخال حقوق النساء ضد العنف كحقوق إنسانية من خلال معاينة الموقع الذي تحتله المسألة في بعض الفعاليات الرئيسة الممولة من قِبل الأمم المتحدة: المؤتمرات العالمية للنساء التي انعقدت بين عامي 1975 و1995، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي أقرتها الجمعية العامة للأم المتحدة في عام 1979، وتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول التنمية البشرية العربية لعام 2006. في مطلع التسعينيات، يؤكِّد مَسعد، صارت مسألة العنف ضد النساء، كانتهاك لحقوق الإنسان، أولوية عليا بالنسبة إلى الأمم المتحدة. وقد تم التعاطي مع العنف الجندري (Gendered violence) في واقع الحال باعتباره لغة أنثوية عالمية ينبغي أن تسمح للنساء من قوميات وثقافات وطبقات مختلفة بالعمل على أجندة مشتركة. ومع ذلك، فكما حدد مَسعد بشكل واضح، صار جليًا منذ البداية كيف أن العنف الجندري قد تم التعاطي معه كـ «مشكلة ثقافية» في جنوب الكرة الأرضية وكمشكلة «فردية» في شمالها، وأيضًا كيف أن الصراع بين الثقافة وحقوق الإنسان يبرز فقط في الحالة الأولى، لكن ليس في الحالة الأخيرة. ومثلما يجادل، «تظل المقاربة العامة للدولة في ذلك الحين، كما هو الحال الآن، هي التوفيق ما بين الحقوق و’الثقافة’، وتغييب حقيقة أن الصراع أساسًا كان بين ‘ثقافة’ أوروأمريكية جديدة والثقافة الأوروبية [القائمة] وأنه ينبغي على الدولة أن تهب الحقوق على المستوى المحلي وأن تطالب الأمم المتحدة بأن تقوم بفرض هذه ‘الثقافة’ الأمريكية المخترعة حديثًا على المستوى الدولي» (128).

بُعَيْد 11/9 وقيام الولايات المتحدة باللجوء إلى حقوق النساء بوصفها حقوقًا إنسانية لتبرير قصفها لأفغانستان، صارت أداتية (instrumentalisation) مسألة العدالة الجندرية في الحملات المعادية للإسلام واضحة إلى حد محرج، ولكن رغم ذلك لم تقل خطورتها. ففي واقع الحال، وبينما أكد ذلك صحة حجج النسويات المناهضات للعنصرية والعديد من اليساريين والنشطاء المعاديين للحرب وقناعاتهم بشأن نفاق الليبراليين الغربيين، فإن اللجوء إلى حقوق النساء لتبرير الحروب الإمبريالية كان ينظر إليه من قِبل سكان الدول الغربية بشكل عام على أنه نوع من المساعي الشرعية (على الأقل انطلاقًا من استطلاعات رأي أجريت في بلدان الاتحاد الأوروبي حيث تم الربط لدى المسح بين الإسلام واضطهاد المرأة). وقد نددت العديد من النسويات بمثل هذه الأداتية وانتقدن بقسوة المهنة «التبشيرية» للنسويات الليبراليات الغربيات في موقفهن من المرأة المسلمة بوصف ذلك من بقايا النسوية الإمبريالية خلال عهد الاستعمار. ومع ذلك، يرى مَسعد أن بعض النسويات (اللواتي يضع من بينهن ليلى أبو لغد) قد حاولن برغم ذلك تقديم أخطاء النسويات الليبراليات الغربيات كما لو أنها تعكس نوايا حسنة، وباعتبارها مدفوعة أساسًا من هدف خيِّر هو تقديم المساعدة للنساء المسلمات اللواتي يعانين الاضطهاد. وهنا، تكمن القوة الإقناعية لحجة مَسعد المضادة. فبعد أن يقوم بتوبيخ محاولات تقديم النزعات التبشيرية النسوية الليبرالية الغربية على أنها «مخاوف حسنة النية»، يسأل مسعد: لماذا نعتبر النسويات الليبراليات الغربيات اللواتي يردن إنقاذ المرأة المسلمة بأنهن «حسنات النية»، بينما لا نسأل لماذا لا تحاول النساء المسلمات إنقاذ النساء الغربيات من الأنظمة الأبوية الخاصَّة بهن؟، هل لأن النساء المسلمات لسن قادرات على التضامن؟، أو، خلافًا لذلك، يكمن هذا التباين في علاقات القوة غير المتكافئة، والأيديولوجيا الأبوية/الإمبريالية التي تنتج المقاربات التبشيرية، عن قصد أو عن غير قصد، فإن «موضوع ‘المخاوف حسنة النية’ والمناشدة من أجل اليقظة ضد الثقافوية تستحيل إلى شيء أقل من مجرد خطأ في التسمية في أفضل الأحوال ونفاق ليبرالي إمبريالي في أسوأ الأحوال» (176).

أخيرًا، يرى مَسعد أن دراسة الجندر والإسلام من قِبل المحللين الغربيين ستكون بالضرورة معطوبة من البداية بفعل ثلاثة مطبَّات رئيسة: «الثقافوية (culturalism)» و«التقارنية (comparatism)» و«الدمجية (assimilationism)».

إنَّ الثقافوية هي المقاربة العامَّة التي تحكم الدراسات والتحليلات بشأن العلاقات الجندرية غير المتكافئة بين السكان المسلمين، حيث تعزى عدم المساواة هذه إلى ميزات كراهية النساء المتأصلة في «ثقافة» المسلمين (حيث يبدو أن الثقافة والدين يتطابقان، على الأقل عندما يتعلق الأمر بمناقشة الإسلام).

أمَّا التقارنية فهي ما يدعوه مَسعد بـ «الترحل الجغرافوي للقيم الغربية… عملية يتم فيها طرح الغرب، أو نسخة خيالية منه، كمرجعية المقارنة، وتتم دراسة بقية العالم لتحديد الكيفية التي يتقاطع بها مع هذا الغرب أو يحيد عنه» (207).

وأخيرًا، الدمجية، وهي العملية التي من خلالها يتم حث الثقافات الإسلامية (أو الثقافات غير الغربية بشكل عام من حيث أنها تعتبر متباينة عن الثقافة الغربية) على تقويض نفسها واستيعاب القيم الغربية. وتفترض الدمجية مسبقًا كلًا من الثقافوية والتقارنية بقدر ما تصبح الدمجية وحدها مجرد اقتراح قابل للتطبيق من اللحظة التي ينتقد فيها المحللون الغربيون الثقافة الإسلامية باعتبارها أقل شأنًا على نحو مقارن وغير ذات جدارة.

إذن، كيف يمكننا الانخراط في تحليل الجندر والإسلام دون الوقوع في هذه الفخاخ؟، بالنسبة إلى مَسعد، ليس ثمة حيلة لدراسة النوع الاجتماعي أو «الجندر» في العالم الإسلامي. إذا استحضر المحللون العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والعوامل الجغرافية والتاريخية، والثقافة باعتبارها كيانًا حيويًا يُنتج وينتج من قبل الفاعلين والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية، فإنهم، سواء أكانوا آسيويين أو أفريقيين أو أوروبيين أو أمريكيين، سيكونون قادرين على البدء في فهم وتحليل الظواهر الاجتماعية القائمة على أسس وأساليب يحددها السياق المحلي ذاته، بدلًا عن نسخها مسبقًا من أجندات البحوث المستلهِمة السياسات الإمبريالية؛ ألا وهي التنموية و المنهجيات الاستشراقية للثقافوية والتقارنية والدمجية. (211-212).

إجمالًا، يظهر مَسعد بصورة مقنعة لُب الموضوع الليبرالي داخل قشرة الحب الزائف للنساء الذي يحكم نقاشات النوع الاجتماعي (الجندر) والإسلام في الأوساط الغربية في القرن التاسع عشر وفي أواخر القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر. بمعنى أن زعم المحللين الغربيين بأنهم حملة القيم الكونية، من قبيل المساواة الجندرية، ومقارباتهم الفردانية/ الثقافوية لدراسة أوضاع المرأة في ظل الإسلام، هي في الأساس أطروحات ليبرالية، ولكن على الرغم من ذلك قُدمت بنجاح على أنها وجهات نظر محايدة سياسيًا. والأهم من ذلك، كما ذُكر أعلاه، أن مَسعد يتعاطى مع إدماج حقوق المرأة في أجندة حقوق الإنسان في سياق الحرب على الإرهاب كعرض من أعراض العلاقة بين خطاب حقوق الإنسان بشكل عام والنيوليبرالية، حيث ينتقد الأول الأخيرة لآثارها السلبية على حياة الناس، بينما يخفق في الاشتباك معها على الأرضية الاقتصادية، التي هي «أهم مسارح الممارسات النيوليبرالية» (133).

على الرغم من الإشارة إلى التناقض بطرق واضحة، فإنه ربما كان يجب هنا على تحليل مَسعد أن يتعمَّق. بعبارة أخرى، كان من المهم للغاية أن يشرح بإسهاب على وجه التحديد طبيعة عرَض الافتقار إلى الاشتباك الاقتصادي مع النيوليبرالية لدى منظمات حقوق الإنسان. وبشكل أكثر تحديدًا، كان من المهم معالجة الأسئلة الصعبة التالية: هل تتصدى الأطراف المعنية بحقوق الإنسان مؤسسيًا للعنف ضد المرأة في ظل الإسلام باعتباره مشكلة “ثقافية”، بينما تفشل في الوقت نفسه في معالجة أشكال العنف التي تواجه نفس هذه المرأة والتي تنجم عن الفقر والحروب لدوافع اقتصادية؛ لأن هذه الأطراف تتأبط غير مدركة شكلًا من أشكال النسوية الاستشراقية؟، أو هي بدلًا من ذلك تتجنب المجال الاقتصادي لأن حقوق الإنسان في حد ذاتها تتعلق فقط بمجالات “أعلى” سياسيًا وثقافيًا؟. هل المجال الاقتصادي بالتالي قد ’استبعد‘ من أجندة حقوق الإنسان على وجه التحديد لأنه يشكل أساس المجالات “العليا” كالسياسة والثقافة، كما وصفها ماركس؟. بعبارة أخرى، هل خطاب حقوق الإنسان، وبالتالي الخطاب عن حقوق المرأة في الشرق وفي ظل الإسلام، يمثِّل نداءً من أجل المساواة السياسية التي لا تؤدي إلا إلى تحويل الانتباه عن عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية؟. لقد خاض مَسعد في هذه الأسئلة، ولكنه لم يجب عليها بشكل وافٍ. وقد خضت أنا في كتاباتي في هذه القضايا، وحاججت أن الكثير من أداتية مواضيع المساواة الجندرية لدى النيوليبراليين والأحزاب اليمينية القومية في أوروبا في حملات معادية للإسلام/ومناهضة للهجرة -أو ما أسميه “القومية النسوية” (femonationalism) – ينبغي أن ينظر إليها من خلال العدسات الاقتصادية والسياسية. واقترحت أن واحدًا من الأسباب التي نتيجته تُقدم هذه القوى غير التحررية نفسها لإنقاذ النساء المهاجرات غير الغربيات والمسلمات في سياقات مثل أوروبا الغربية مرتبط بالدور الرئيس الذي تلعبه هذه النساء في قطاع إعادة إنتاج المجتمع (التنظيف والتدبير المنزلي ورعاية الأطفال والمسنين). وبالمثل، تحاول هيستر آيزنشتاين في كتابها الرائدإغراء النسوية (Feminism Seduced) فك طلاسم استغلال المواضيع النسوية من قِبل النيوليبراليين والمحافظين في حروبهم وحملاتهم الصليبوية ضد المسلمين والمهاجرين وفق مصالحهم الرأسمالية: «تُستخدم الإيديولوجيا الجندرية المستوحاة نسويًا لفرض فكرة التفوق الثقافي الغربي، وبالتالي تسهيل تغلغل الشركات متعددة الجنسيات في المناطق ما قبل الصناعية في العالم». وهكذا، تعي آيزنشتاين أن نشر النسوية المهيمنة [أي المتحالفة مع الليبرالية والمنبثقة عنها] – بمعنى أيديولوجيا فردانية/ ليبرالية – هو بمثابة «مذيب للثقافات التقليدية». وهكذا، يلوح النيوليبراليون بالأفكار النسوية في جنوب الكرة الأرضية من أجل زعزعة استقرار الأنظمة الجندرية السابقة، خالقين ذوات فردانية ترنو إلى الملكية، وهو ما يسهل تغلغل أنماط الإنتاج والاستهلاك الرأسمالية ومأسساتها.

إنَّ العدسة السياسية والاقتصادية بالتالي، كما أعتقد، أمر بالغ الأهمية لتوضيح الأسباب التي تجعل الرأسمالية النيوليبرالية، باعتبارها مشروعًا اقتصاديًا وسياسيًا مهيمنًا، تستغل حقوق المرأة في الحملات المعادية للإسلام. وخلافًا لعدد من الأعمال التي ركزت على هذه القضايا من وجهات نظر سياسوية في الغالب، فإنَّ كتاب مَسعد لديه الميزة المهمة بلفت النظر إلى المجال الاقتصادي باعتباره الحلقة المفقودة في سلسلة الأحداث التي تفسر «التعاطف الغادر» المفاجئ، إذا استعرنا كلمات ليلى أحمد، الذي أظهره الغربيون تجاه النساء المسلمات بعد ١١ أيلول/سبتمبر. وكما يقر مَسعد عن حق، فإنَّ غياب الاعتبارات الاقتصادية عن خطابات حقوق الإنسان هو شاهدٌ على نحو رمزي على الدور الحاسم الذي يلعبه الاقتصاد في هذه السرديات الإنقاذية النيوإمبريالية.


رد على سارة فارس

كتبه: جوزيف مَسعد

٢٣ أيار/مايو ٢٠١٦

ليس بإمكاني إلا أن أتفق مع القراءة الذكية لكتابي التي قامت بها سارة فارس وفهمها للعلاقة العَّامة ما بين النيوليبرالية وحرفة حقوق الإنسان في مسألة «المرأة في الإسلام»، وغياب تحليل الاقتصاد السياسي عند حرفيي حقوق الإنسان في نشاطهم وتحليلهم. إننا بالطبع متفقون على اعتبار غياب الاقتصادي في هذه السجالات والتحليلات مسألة مركزية. لقد أوضحتُ في كتابي هذا، (كما أوضحته أيضًا في كتابي السابق اشتهاء العرب في سياق السجالات الفكرية العربية ما بعد عام ١٩٦٧)، أنه يمكننا أن نحدد اللحظة التاريخية لاختفاء استخدام تحليل الاقتصاد السياسي بشكل جدي فيما يتعلق بالجدل حول «النساء في الإسلام»، وما يترتب على هذا الغياب من الإعلاء من شأن فكرة المحددات الثقافية، على أنها لحظة نهاية حقبة الحرب الباردة. فبمجرد أن تمَّ التخلُّص من الاتحاد السوفييتي، أصبح المجال العام العالمي مسيطرًا عليه من قِبل الأفكار الغرب- أوروبية والأمريكية لحقوق الإنسان وغيرها من منظمات «التنمية» غير الحكومية، بالإضافة إلى توسع نطاق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ليشتمل على كل من أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي المفككة (ناهيك عن مرحلة ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومرحلة ما بعد أوسلو في الأراضي الفلسطينية التي لم تزل محتلة). فإنَّ اللغة الليبرالية الحقوقية تحقق في تلك اللحظة ضربًا من الهيمنة العالمية تنحسر في حينها أسئلة الاقتصاد السياسي، أو تختفي تقريبًا، عند تأطير مشكلة “النساء في الإسلام”.

تسأل فارس: «هل المجال الاقتصادي بالتالي قد ’استبعد‘ من أجندة حقوق الإنسان على وجه التحديد لأنه يشكل أساس المجالات “العليا” كالسياسة والثقافة، كما وصفها ماركس؟. بعبارة أخرى، هل خطاب حقوق الإنسان، وبالتالي الخطاب عن حقوق المرأة في الشرق وفي ظل الإسلام، يمثِّل نداءً من أجل المساواة السياسية التي لا تؤدي إلا إلى تحويل الانتباه عن عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية؟»، جوابي هو بالتأكيد نعم على السؤالين. في حين أن الاستشراق هو الأبستيمولوجيا والأنطولوجيا المنظِمة للعمل في مجال حقوق الإنسان على مستوى تصوير وتمثيل النساء المسلمات، فإنَّ الأهداف الإستراتيجية الشاملة للعمل في هذا المجال يتم تحديدها من قِبل رأس المال الإمبريالي (في صيغته النيوليبرالية) الذي لا يمول ويضع أجندة المنظمات غير الحكومية فحسب، ولكنه يصمم ويدعم أيضًا إنتاج الثقافة والسياسة الإمبريالية على أنها “ثقافة حقوق الإنسان”، متخذة شكلًا اعتذاريًا عن أو شكل محاسبة متخيَلة على أسوأ تجاوزات رأس المال الإمبريالي. فليس من قبيل الصدف أن يكون ما يتم اعتباره “حقوق الإنسان” هو الأجندة الليبرالية للحكومات الأوروبية الغربية والولايات المتحدة، وهو ما يتم تبنيه من قِبل منظمات، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، تم إنشاؤها أصلاً كأدوات حربة في المعارك الأيديولوجية لحقبة الحرب الباردة. وقد رفضت هذه الأجندة الحقوقية إعطاء أية شرعية لما اعتبره السوفييت «حقوقًا إنسانية»، ليس فقط من قِبل حرفيي حقوق الإنسان الغربيين، ولكن حتى من قِبل العديد من نقادهم الأكاديميين، لكن الليبراليين، في الجامعات الغربية. بالطبع، ظلت «الحقوق الاقتصادية والاجتماعية» على أجندة الأكاديميين والناشطين المقاومين الذين لم تكن أصواتهم، على أي حال، مؤثرة في دوائر صنع القرار السياسي.

من أجل إجراء تحليل اقتصادي سياسي لفهم مسألة عدم مساواة النوع الاجتماعي (الجندري) في أدبيات حقوق الإنسان، ثمَّة حاجة لأنواع مختلفة من المعرفة التي – تتضمن ولكن لا تقتصر على السياسة والاقتصاد النيوليبراليين – كتلك التي تتجلى في دراسات سارة فارس. تكشف مثل هذه المقاربات عن البنى التي تحافظ على رفض نشطاء حقوق الإنسان قبول وفهم نقاد الجيل الثاني لحرفة حقوق الإنسان لما يسمى بـ «الحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، إلا كشكل من الحقوق مستقل ومفصول ولا يمكن طيه في منظومة حقوق «الإنسان» كما تعرِّفها الليبرالية. أضف إلى ذلك رفضهم النظر إلى مساواة النوع الاجتماعي (الجندري) كحق اقتصادي واجتماعي وإصرارهم على قصرها على التعريف الليبرالي الأكثر كلاسيكية لدى الجيل الأول من الناشطين في مجال حقوق الإنسان؛ أي التعريف المدني والسياسي لحقوق «الإنسان»، مع ما يترتب عليه من الولاء الأنطولوجي لفكرة الفرد بوصفه الحامل الوحيد الممكن لحقوق (الإنسان).