على مشارف القرية ترتفع تلك التلة الصغيرة وتبرز بين البنايات الريفية المتاخمة، يجاورها منزل قديم مهجور عفى عليه الزمن، يقول الكثير من مسني القرية إنه كان لرجل صالح سكن القرية منذ عقود اسمه «الشيخ حمادة».

تكثر الأقاويل حول تلك التلة والتي تُعرَف بين أهل القرية بـ «كومة الشيخ»، يعتقد البعض أن الشيخ الصالح قد دُفن فيها، وأن جسده الطاهر هم بأن يرتفع للسماء بعد موته كما ارتفع المسيح، إلا أن الأرض نازعت السماء فيه ولم ترد أن تلفظه قبل اليوم الموعود، فأحاطت به طبقاتها من كل جانب حتى انحبس جسده في تلك الكومة. ومنذ ذلك وهؤلاء الناس يذهبون دائمًا عند التلة ويدفنون نذورهم ويتمنون أمانيهم عند تلك البقعة المباركة.

البعض الآخر يظن أن الشيخ الصالح قد دفن كل ماله وثروته، وهي أنهار من الذهب والفضة، أسفل التلة، وأنه كلما ازداد صلاح أهل القرية، كلما خرج لهم من فيض الشيخ الخير والبركات، فيذهبون خلسة مساءً يُنقِّبون عنها، وكلما وجدوا قطع ذهب أو فضة من نذور الفريق السابق، فرحوا بها وظنوها بوادر كنوز الشيخ، وأنه في انتظارهم المزيد والمزيد.

فريق آخر فسَّرها بأنها تلة مقدسة بناها الشيخ وأبناؤه وجيل القرية الأول، لتمنع تحتها بركانًا عظيمًا كاد ينفجر، فيهلك الحرث والنسل، وأن ذلك البركان لن ينفجر ما دامت التلة قائمة، وأنه عندما يكثر الفجور وتشيع المعاصي بين أهل القرية، سينسى أهل القرية تلك القصة، وستنهار التلة تدريجيًّا حتى ينفجر البركان فيهلك الجميع. ويذهب أصحاب هذا الاعتقاد بطقوس مُرتبة لتزويد التلة وتعليتها وسد الثغرات التي أحدثها الفريق الثاني والتأكد من تمام قوام التلة.

الفرق الثلاث اتفقت على صلاح الشيخ وعلى منفعته لهم، إلا أنهم اختلفوا في كيفية منفعته، سواء كانت بإحلال البركة للمكان وتحقيق الأماني بالنذور، أو بجلب المنفعة إليهم بشكل مباشر من خلال الذهب والفضة، أو بمنع الشر والسوء عن المكان.

لم يكن الشيخ حمادة ليعلم أن كلمته التي قالها منذ قرون لخادمه «ازقلها تحت الحصيرة»، ستُشكِّل هذه الأيديولوجيات والاعتقادات والطوائف في القرية اليوم.

لقد كان معذورًا، فلكثرة زوَّاره ومريديه ومستفتيه وتلاميذه وسائليه من جوده على مدى اليوم من أهل القرية، ما كانت ليترك الوقت الكافي لخادمه بأن يُنظِّف الفناء الذي يستقبل فيه ضيوفه، والذي سرعان ما يعود كما كان لكثرة النعال الداخلة والخارجة فيه، فكان يشير عليه الشيخ بأن يزيح التراب والرمال المجمعة أسفل الحصيرة في منتصف الفناء، ليبدو المظهر لائقًا على أن يأتي يوم ما ويزيل كل ذلك إلى خارج الفناء ويُنظِّفه جيدًا.

رحل الشيخ ورحل خادمه وقلَّ زوار المكان، ولم يأتِ ذلك اليوم، وجاء الأبناء وعقدوا النية على تنظيفها لكن بعد أخذ العزاء، ثم تم التأجيل لبعد الانتهاء من تقسيم الميراث ومعرفة لمن سيكون الفناء ثم ثم ثم …

بقي الحال على ما هو عليه. أي خادم يأتي يستسهل ويزيح تراب الفناء تحت الحصيرة، وتكوَّنت الكومة من تحت الحصيرة شيئًا فشيئًا، ورحل الأبناء وذبلت الحصيرة وبقيت الكومة. وجاء الأحفاد على نفس المنوال، وتفرَّقت الأجيال التالية ونسيت الأمر، وظهرت الكومة، وبقيت الأساطير والاعتقادات التي تأصَّلت حولها.

تلك الكومة قد تم التأصيل والشرعنة لها، ولم يعد وجودها مشكلة من الأساس، وإنما مُقدَّس يجلب الخير والنفع، ويمنع السوء والبلاء، ويحل البركة على المكان، أهل القرية الآن لا يستوعبون أنهم في مشكلة، لن يفكروا حتى بجلب «هرقل» ليزيل الكومة ويُنظِّف المكان كما كاد يفعل مع حظائر «أوجياس»، وربما لو أتاهم لذلك الأمر، لاتهموه بالهرطقة والزندقة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.