من بين التركة السينمائية الكبيرة التي تركها لنا المخرج الكبير «محمد خان»، يمكننا وصف فيلم «خرج ولم يعد» بأنه الأكثر إثارة للمحبة، هذا فيلم يبدو بلا شخصيات شريرة على الإطلاق، فيلمه الوحيد في الريف بعيدًا عن المدينة، ريف يبدو قريبًا جدًا من الجنة على مستوى الصورة، وعلى مستوى سرد الحكاية أيضًا، حكاية تغرينا بتفسيرها على أكثر من وجه، كما تجدد فينا رغبة قديمة بالهروب/العودة للجنة.

في التقرير التالي نحلل معكم أسباب الحب الجماهيري الكبير الذي يحظى به فيلم «خرج ولم يعد».


الكوميديا: خليط المواقف، الكلمات، والصور

هذا هو فيلم الكوميديا الأوضح لمحمد خان، ولهذا نرى فيه كل ما في جعبته من مهارات خلق الكوميديا، والتي تعتمد دائمًا على خلق حالة من المفارقة خارج السياق. يجمع خان في سبيل خلق هذه المفارقات بين سياق يسمح بخلقها، وجمل حوارية ذكية كتبها السيناريست الموهوب «عاصم توفيق»، وكادرات غير متوقعة.

في أحد المشاهد في بداية الفيلم، يزور «الحاج عوضين/توفيق الدقن» منزل «عطية/يحيى الفخراني» المتهالك، هذا هو الظهور الأول للدقن، ضربات سريعة وعنيفة ومتتالية على الباب المتهالك، يصحو عطية مفزوعًا، من الذي يدق بابه بهذا الشكل في صباح الجمعة؟ يفتح الباب ليصنع الدقن ظهوره الأول، ولا يلبث أن يرحب به عطية ويدعوه لشرب الشاي حتى تنتقل نظرات الدقن وينتقل معها الكادر بشكل غير متوقع لصورة صغيرة معلقة على الحائط. يظهر كادر قريب وثابت لصورة تحمل وجه الكائن الفضائي الشهير E.T من فيلم سبيلبيرج الشهير، تنتقل الكاميرا بين وجه الدقن بعيونه المنتفخه والذي تبدو عليه أمارات الفزع، وبين وجه E.T الذي يشبه الدقن للغاية، مفارقة عبقرية تنتهي بخروج سريع للدقن، الذي يبدو ككائن فضائي حل ضيفًا على كوكب القاهرة.

تستمر أحداث الحكاية ليذهب عطية قبيل نهاية الفيلم بدقائق إلى بيت الحاج عوضين في قرية العزيزية، تنهال ضربات سريعة ومتتالية على الباب، يخرج الحاج عوضين مفزوعا ليفتح الباب، ليخبره عطية الذي أصبح منتميا في النهاية لنفس كوكب العزيزية، أن هذا ما هو إلا تكرار لما فعله به في البداية، يخبره عطية أيضًا أنه يريد أن يعطل عملية بيع الأرض الذي كان يريدها بشدة في بداية الحكاية، ينتهي المشهد بضحكات متبادلة بين عطية، وعوضين، الذي يمثل هذا المشهد ظهوره الأخير.


فن الاختيار: الشخص المناسب في الدور المناسب

قد يكون للحظ دور، ولكن الفضل الأول يرجع بالتأكيد للعين الخبيرة الخاصة بمحمد خان. يبدو الفريق التمثيلي في هذا الفيلم وكأنه خلق خصيصًا لأداء هذه الأدوار.

يقدم يحيى الفخراني دور عطية في بطولته الأولى مع خان. شاب يعمل كموظف ويحلم بأن يحقق حلم أبيه في الترقي ليصبح مديرًا عامًا، يحيى حياة بلا معنى في انتظار حلم لا يخصه. يبدو فقدان طعم ولون ورائحة الحياة طبيعيًا جدًا في هذه الأجواء، تنبع الكوميديا في كل لقطة يظهر فيها الفخراني من كم تصديقنا لكونه حقيقيًا ولا يدعي، تخبره خطيبته الذي تشاركه الانتظار منذ سبع سنوات ألا داعي لخروجهم معًا لتناول الغداء، لأن والدتها قد طبخت ملوخية خضراء بالأرانب، وحينما يصلان للمنزل نفاجأ بسائل أصفر على طاولة الطعام، نعلم جميعًا أنه عدس ولكن عطية يسألها في جدية شديدة «هو الملوخية دي لونها أصفر ليه!».

ليلى علوي هنا مبهرة وعظيمة في دور «خيرية» أو «خوخة»، هذه فلاحة حقيقية تقود الجرار الزراعي، وتركب البغال، وتحمي الجحش، وتزغط البط، وتمارس كافة طقوس الطبخ والاعتناء بالماشية، هذا أداء يتخطى مرحلة التقمص ليصل للتجسيد المكتمل، بحيث تظهر في شكل غير مألوف حينما ترتدي فستانًا وتضع بعض مساحيق التجميل في أحد المشاهد، وكأننا لا نصدق أن خيرية يمكنها أداء دور ليلى علوي.

فريد شوقي هو كمال بيه عزيز ولا أحد غيره. الأب الروحي، العالم بلذائذ الحياة ومتعها. إله قديم من «آلهة الأوليمب» يبدو غير مكترث إلا بالمتعة، عاش كثيرًا ورأى أكثر، ولكنه غير مهتم سوى بسعادته. يبدو الأمر مستغربًا حينما نعرف أن فريد شوقي قد رفض هذا الدور في البداية – كما رفضه آخرون كعادل أدهم – لعدم اقتناعه بأن يقوم يحيى الفخراني ببطولة فيلم يشارك فيه، ولكنه وافق في النهاية بعد استجداء المنتج له. يحكي المخرج محمد خان هذا بنفسه في إحدى المقابلات التليفزيونية، كما يؤكد أن «الملك» – كما كان يناديه الجميع – لم يشاهد الفيلم إلا متأخرًا حينما تم عرضه في السينما، وبعد أن حصد بعض الجوائز وأبرزها جائزة «التانيت الفضي» في مهرجان قرطاج الدولي، وحينما أخبره بعض أصدقائه أنه قام فيه بدور «فريد».


أن تحب فتأكل: لذة من لذائذ الحياة

تتجلى هنا سمتان مميزتان لعالم محمد خان السينمائي: الرومانسية وحب الطعام، ويتشارك في إظهارهما تكنيك واحد، «اللقطة القريبة Close Up».

يقدم خان في هذا الفيلم تدوينة شخصية بصرية لشغفه بالطعام. تظهر الشخصيات وهي منهمكة في تحضير الطعام أو تناوله في معظم مشاهد الفيلم، بدءًا من مشاهد حلب الجاموس بيد ليلى علوي، مرورًا لمشاهد قلي البيض أو خفقه بواسطة عايدة عبد العزيز، ووصولًا للقطات قريبة متعددة لالتهام البط والدجاج على طاولة كمال بيه عزيز.

اقرأ أيضا: تقنية الـ«Close Up» في السينما: ويسألونك عن الروح

ولا يبدو الشغف بالطعام حكرًا على الريف هنا، فيظهر الطعام أيضًا، ولكنه بشكل أقل نضرة ودسم في المدينة، بدءًا من سندويتش الفول الذي يلازم الموظف الكبير سنا في المصلحة التي يعمل بها عطية، وصولًا لطاولة العدس التي يجتمع عليها عطية وخطيبته وأسرتها. يتجسد هذا الشغف في جملة حوارية تبدو كوصية روحية خالدة تأتي على لسان كمال بيه حينما يقول: «الأكل ده نعمة من نعم ربنا، لذة من لذائذ الحياة الكبرى، مش مهم تاكل غالي ولا رخيص، المهم إنك تتمتع بالأكل».


الجنة: حلم الهروب/ العودة

للمرة الأولى والأخيرة يغادر خان المدينة إلى الريف، وهو في خروجه هذا يبني كل حكايته على التضاد الواضح بين كابوسية المدينة وملائكية الريف. منذ المشهد الأول الذي نصاحب فيه بطله وسط شوارع المدينة ببيوتها المتهالكة وحواريها التي تملأها القمامة، وحتى المشهد الأخير الذي يقرر فيه أن يبقى في الريف، تمتد يده جنبًا إلى جنب مع يد خيرية، ويتسع الكادر ليزداد إخضرارًا، وتنساب موسيقى كمال بكير الهادئة والمبهجة، شعورًا بالراحة والطمأنينة في إيجاد المهرب. أتذكر هنا دون سبب واضح مشهد النهاية في فيلم Seven للمخرج الأمريكي «ديفيد فينشر» حينما يتسع الكادر ليزداد زرقة على شاطئ المحيط الذي يوفر المهرب والطمأنينة أيضًا لأبطال الفيلم.

وبمد خط تفسير «خرج ولم يعد» قليلاً، لما قد يكون ساكنًا في لا وعي صناعه، أو ما وصل إلينا دون أن يقصدوه، نجد أن غالبيتنا يحب هذا الفيلم لأنه يغري خيالاتهم بحلم قديم في العودة للجنة التي طرد منها أبونا آدم.

يستخدم خان وبشكل مباشر لفظ الجنة في أكثر من مرة في وصف إحدى الجنائن داخل أرض العزيزية، يظهر كمال بيه في صورة تبدو قريبة من الرؤى الإغريقية عن آلهة الأوليمب، يخبر عطية بأنه لا حاجة له به سوى أنه يريد أن يجد روحًا خلقت على نفس صورته، يبادلها الحديث، يغريه بالبقاء في الجنة بصنوف وفيرة ومتنوعة من الطعام والشراب، بالإضافة لفتاة جميلة تحبه وتهبه نفسها، ولكنه يريده في النهاية أن يبدو وكأنه مخير، وحينما يختار البقاء يسأله إذا كان هذا قراره دون ضغوط أو إغراءات من أحد، فيجيب عطية أن هذا هو القرار الأول في حياته الذي يختاره بكامل إرادته.

يبدو الفيلم إذن، وإذا ما دققنا النظر في تفاصيله، وكأنه يذكرنا بأننا جميعًا نتوق لأن نجد مهربنا في جنة شبيهة، حيث يدير شئوننا رجل في دهاء وذكاء وخفة ظل توفيق الدقن، ويتولى توجيهنا وإرشادنا الروحي ملك محب للحياة وخبير بمتعها كالملك فريد شوقي، وتحبنا ودون شروط فتاة جميلة وذكية، حنونة وطباخة ماهرة، بالإضافة لكونها ليلى علوي.

لهذا كله تمر السنون ويظل «خرج ولم يعد» حلمًا جميلًا نحبه، ونحب أن نؤمن بإمكانية حدوثه.