ضجة كبيرة هزَّت مصر وانعكست خارجها، حتى طغت لأيام على أخبار منافسات بطولة الأمم الإفريقية لكرة القدم، وحتى أخبار صفقة القرن، ومؤتمر البحرين. بدأت الضجة بإعصار على مواقع التواصل المصرية والعربية؛ لأن لاعب المنتخب المصري – عمرو وردة – بدلًا من التركيز في اللعب، وتحقيق البطولة، ينشغل ليلًا بمطاردة بعض نجمات إنستجرام، ومنهن عارضة مقيمة في دبي.

وصلت العاصفة لذروتها عندما نشرت فتاة مكسيكية تسريبات من «شات» بينها وبين عمرو وردة، ينُم عن هوسٍ جنسي واضح لدى اللاعب، ومحاولاتٍ مستميتة لإغوائها. وكانت ذروة الذروة هي مقطع فاضح أرسله وردة إلى تلك الفتاة، يظهره وهو يمارس العادة السرية – السرية ؟! – لينتشر هذا المقطع كالنار في هشيم السوشيال ميديا، فيتخذ الاتحاد المصري لكرة القدم قرارًا بطرد اللاعب من معسكر المنتخب المصري. والصادم أن تلك ليست المرة الأولى التي يُعاقَب من أجلِها اللاعب بسبب ممارساتٍ من هذا النوع، فقد سبق أن طُرِدَ من معسكر منتخب الشباب عام 2013م، كما ألغيتْ إعارته لأحد أندية البرتغال عام 2017م لاتهامه بالتحرش بزوجات بعض زملائه في الفريق.

لم تقف أزمة عمرو وردة عند هذا الحد، فقد أثار تضامن بعض زملائه معه، ومنهم النجم العالمي محمد صلاح، ومحاولة التماس الأعذار له، ثم موافقة الاتحاد المصري على قبول اعتذاره وإعادته للمعسكر بعد أقل من 24 ساعة، أثارَ كل هذا امتعاضَ الكثيرين، الذين اعتبروا مثل هذا السلوك تبريرًا فجًّا للتحرش الجنسي، وترسيخًا لانحراف اللاعب السلوكي – له وقائع سلبية سابقة في معسكر منتخب الشباب وفي رحلة احترافه باليونان ثم بالبرتغال – طالما يمر دون ثمنٍ كبيرٍ، مما حدا بالبعض لوسم المنتخب المصري بمنتخب المتحرشين، ليتصدر هذا الهاشتاج موقع التواصل الاجتماعي تويتر لعدة ساعات.

لا يعنينا هنا الخوض في الجوانب الاجتماعية والسياسية والإعلامية لقضية عمرو وردة، إنما سنسأل الطب النفسي عن رأيه في مثل تلك الواقعة، وهل من تفسير طبي لقيام بعض الشخصيات العامة ببعض تلك الممارسات الشائنة والغريبة، والمخاطرة في سبيل ذلك بحياته العملية، ورصيد السمعة الثمين الذي يُبنى بسنواتٍ من الجهد والعرق، وهل يقدم الطب النفسي لها تشخيصًا محدَّدًا، وبالتالي علاجًا محددًا، أم أن الأمر لا يعدو كونَه انحرافًا إراديًّا لا يستوجب سوى العقوبة؟


انحراف سلوكي أم مرض نفسي أم كلاهما؟

يعتقد الكثيرون خطأً أن البشر صِنفان لا ثالث لهما. الصنف الأول هو أناس أسوياء نفسيًّا أو عقلاء، يتحملون كامل المسئولية عن أخطائهم وسلوكياتهم، والصنف الثاني هو المرضى النفسيون، الذين ليس عليهم حرج في أكثر ما يفعلونه، لأن المرض قد أذهل عقولهم ونفوسهم عن المسئولية والإرادة الكاملة. ما يجب أن يعرفه هؤلاء، أن النفس الإنسانية أعقد كثيرًا، وأكثر تشعبًا من مثل تلك القولبة الثنائية السطحية.

في الواقع، فإن الغالبية العظمى من المصابين ببعض الأمراض أو الاضطرابات النفسية، لا يفقدون قدرتَهم على التمييز، وبالتالي تحملهم المسئولية عن تصرفاتهم، برغم العبء الذي يمثله المرض النفسي عليهم في هذا السياق، والذي بالتأكيد لا يجعلهم على درجة سواء مع نظرائهم المعافين. إذًا فأكثرهم في منزلة بين المنزلتين في قضية المسئولية والجناية، وتختلف الدرجة من اضطرابٍ نفسي لآخر، ولكل حالة شدتها وخصوصياتها.

وهناك حقيقة أخرى لا بد من التأكيد عليها، نحن هنا لا نشخص حالة فلان أو علان، فليس الكاتب طبيبًا نفسيًّا مختصًّا، عُرِض عليه المريض، وتناقش معه لساعات، ووصل عبرها إلى التشخيص الدقيق، إنما هدفنا في المساحة الحالية أن نستغل الضجة التي أثارتها الواقعة الأخيرة، في زيادة الوعي بالطب النفسي، والاضطرابات النفسية التي تمس حياة الملايين في الصميم، وقد يكون الكثيرون منا أو من أحبابنا، يعانون من درجةٍ أو أخرى منها.


السلوك الجنسي القهري

من أشهر الاضطرابات المتعلقة بما نحن بصدده، اضطراب السلوك الجنسي القهري، والذي يعرف أيضًا باضطراب فرط الهوس الجنسي. عام 2018، اعتبرته منظمة الصحة العالمية مرضًا نفسيًّا قائمًا بذاته، وليس مجرد عرضٍ لغيره من الأمراض النفسية.

أهم أعراض هذا الاضطراب هو عجز المصاب عن كبح جماح هوسِه بكل ما يتعلق بالجنس، وما يصحب هذا من تكرار القيام بممارسات جنسية مفرطة، وغريبة، بشكلٍ يؤثر على سلامته النفسية، وحياته الأسرية، والاجتماعية، والعملية.

يصبح الجنس تفكيرًا وممارساتٍ هو الشغل الشاغل للمصاب بهذا الاضطراب، وهو المحور الرئيس ليومه، على حساب كل الأنشطة الأخرى، سواء الواجبة أو الترفيهية. يتزامن هذا مع فشلٍ متكرر لمحاولاتٍ عديدة من المريض للسيطرة على هذا الهوس الجنسي، مما يسبب ضغطًا نفسيًّا وعصبيًّا كبيرًا على المريض، وعلى محيطه الأسري والاجتماعي. وليكتمل التشخيص، لا بد أن تستمر الأعراض لستة أشهرٍ فأكثر.

ويجب هنا التفرقة بين الحالة المذكورة وبين مجرد الشعور الشديد بالضغط النفسي، الذي يعاني منه بعض المتدينين، نتيجة تأنيب الضمير بعد ارتكاب ما يرونَه ذنبًا متعلقًا بالجنس.

وما زالت بعض جوانب هذا الاضطراب تحظى بقدرٍ كبيرٍ من الجدل بين خبراء الطب النفسي، حول مدى مسئولية الشخص عن أفعاله، وهل السبب الكامن وراء تلك الأعراض هو جموح خاص في الرغبة الجنسية، أم هو ضعف عام في قوة إرادة الشخص على الهيمنة على نفسه وتصرفاته. كذلك يثور خلافٌ كبير حول نسبة المصابين بهذا الاضطراب بمختلف درجاته، والتي تصل في تقدير البعض إلى حوالي 30% من مجمل البالغين، وهو ما يُتَرجم – إن سلَّمنا به – إلى عشرات الملايين من البشر!

كذلك يصنف البعض هذا الاضطراب تحت مجموعة اضطرابات السيطرة على الرغبة الملحة impulse control disorders، والتي يصنَّف تحتها أيضًا إدمان القمار، وإدمان تعاطي المواد المخدرة … إلخ.

الأعراض التفصيلية لاضطراب الهوس الجنسي القهري

لا يوجد قالب ثابت للأعراض، فتعقيدات النفس البشرية، وتنويعات المرض شديدة التباين، لكن الخطوط العريضة تتمثل في حدوث معظم الآتي:

  • الشعور بضغطٍ شديد للقيام بأفعال جنسية مختلفة (مشاهدة أفلامٍ جنسية – ممارسة العادة السرية – القيام بعلاقاتٍ جنسية متعددة بشكلٍ متزامن – الخيانة الزوجية …) أيًّا كان الزمان أو المكان، ومدى مناسبتهما لذلك، والشعور ببهجة مؤقتة فور القيام بذلك، لا تلبث أن يعقبها شعور جارف بتأنيب الضمير.
  • هيمنة الخيالات والأفكار الجنسية على العقل بشكل يؤثر سلبًا على القدرات الذهنية، واستثمارِها في الأنشطة الأكثر أهمية.
  • الرغبة الدائمة في الفرار من ضغوط الحياة (مصاعب العمل – الامتحانات – مشاكل أسرية …) إلى رحاب المشاهدات والممارسات الجنسية، لتخفيف التوتر.
  • الفشل الدائم في منع النفس من القيام بتلك الممارسات، رغم المخاطر الكثيرة التي قد تسببها، كالمساءلة القانونية عن بعضها، أو مشاكل أسرية واجتماعية جوهرية، أو الرفتْ من العمل … إلخ.
  • العجز عن إقامة حياة أسرية وجنسية مستقرة.

وكلمة السر في الحكم على شدة الاضطرابات والأمراض النفسية جميعًا هي مدى الضرر الذي تسببُه لفعالية المرء في حياته، على مختلف الأصعدة، وكذلك لرضائِهِ عن نفسه وإنجازه، وبالطبع مدى حضور بصيرة المريض حول حالته المرضية (هل هو مقتنع أنه مريض ولا بد أن يطلب العلاج، أم تطور الأمر إلى أنه لم يعد يشعر بكونه مريضًا من الأساس؟).

ولا بد من التوضيح أن زيادة الرغبة والممارسات الجنسية ليست في ذاتها اضطرابًا، طالما كانت إضافة لحياة الإنسان، وليست عبئًا عليها.

متى يجب اللجوء إلى العلاج النفسي؟

قد يمرُّ إنسانٌ طبيعي بحالةٍ شبيهة، لكن لفترة قصيرة، وبأعراضٍ أقل شدة، وفي محيطٍ أسريٍّ / اجتماعي قادر على الاحتواء، وبالتالي يمكن له أن يتعافى ذاتيًّا. لكن في حالة بروز الأعراض بشدة، وتأثيرها سلبًا على فعالية المريض في كل أو معظم جوانب حياته، حينها لا بد من اللجوء فورًا للطبيب النفسي، قبل أن تتطور الحالة أكثر، وتفتح الأبواب أمام أمراضٍ نفسيةٍ أشد وبيلًا كالاكتئاب واضطراب القلق، أو السقوط في فخ إدمان المهدئات والمواد المخدرة.

اقرأ أيضًا: كيف تتعامل مع صديق يبدو عليه أعراض الاكتئاب.

لا يوجد حتى الآن علاجٌ تفصيلي محدد، كتعاطي الدواء الفلاني أو العلاني (ما لم يكن هناك إصابة مصاحبة بمرض نفسي آخر إنما الأساس هو العلاج النفس – سلوكي، والمعرفي. أول الطريق بالطبع هو الاعتراف بوجود المشكلة، واللجوء إلى مختص بالعلاج النفسي psychotherapy، والتواصل معه بشكل وافٍ وصريح، بحيث يتم التعرف على نقاط الضعف في الشخصية وفي التفكير، وفي الحياة اليومية، والتي تنفذ عبرها المشكلة، وكذلك التدرب معه على كيفية التنفيس الفعَّال عن الضغوط النفسية والحياتية، بشكل أقل ضررًا، وأكثر فائدة، وأيضًا التدرب على كيفية إقامة علاقات صحية ومثمرة، ومستدامة.


إدمان مشاهدة الجنس

مشاهدة الأفلام الجنسية، حاسوب، مشاهدة، رجل
مشاهدة الأفلام الجنسية، حاسوب، مشاهدة، رجل

يلحق بعض الخبراء هذا العرض باضطراب الهوس الجنسي القهري، والبعض يعتبره أمرًا منفصلًا، ويمكن بدون مبالغة أن نصفه بأنه من الظواهر الأوسع انتشارًا في العالم. تقدر الإحصائيات أن 90% من الأمريكيين صغار السن، يشاهدون المقاطع الإباحية بقدر من الانتظام على ذلك. عام 2016م، قدَّر موقع “بورن هب” ، وهو واحد من أوسع المواقع الجنسية انتشارًا في العالم، أن 64 مليون إنسان يوميًّا، زاروا مقاطعه الإباحية، أكثر من ربعهم من النساء.

ودائمًا ما يرتبط هذا الإدمان، بالعديد من المشاكل الأسرية، خاصة عندما يكتشف أحد الزوجين قيام الآخر – غالبًا ما يكون الرجل – بمشاهدة تلك المقاطع، وشعورٍ لصيقٍ بالخجل، وجلد الذات، يرجع لخلفياتٍ دينية وثقافية واجتماعية. وما يزال هناك العديد من مساحات الجدل بين المختصين في القدر الذي يُعتَبر مرضيًّا من هذه الممارسة، وكيفية التعامل معه، بل إن البعض منهم ذهب إلى أن الأفضل التصالح مع تلك الظاهرة، وعلى الزوجين أن يتفاهما بينهما في القدر المناسب لهما نفسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا، والذي يمكن التصالح مع وجوده.