عام 1812 أضرمت القوات البريطانية النار في مبنى الكابيتول، ومنذ ذلك التاريخ لم يتعرض مبنى الكونجرس الأمريكي لأي اعتداء عنيف أو حتى اقترب منه مسلحون أجانب، فضلًا أن يكونوا أمريكيين، إلا – طبعًا – في أفلام هوليود. لكن أتى عام 2021 ليحمل في أيامه الأولى حدثًا فارقًا في التاريخ الأمريكي، إذ شجَّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أنصاره على الزحف نحو الكابيتول بهدف تعطيل قبول الكونجرس لتصويت الهيئة الانتخابية.

اخترقوا صفوف الضباط المسئولين عن تأمين المبنى دون أي مقاومة من القوات، حاملين أعلام الكونفدرالية التي تمثل الجنوب الانفصالي، دخلوا غرف المجلس غرفةً تلو الأخرى، حتى وصلوا في النهاية إلى غرفة رئيس مجلس النواب، نانسي بيلوسي. لم يجد المقتحمون مقاومةً من أي جهة، حتى قوات الحرس الوطني لم تصل إلى المبنى، وذكر أكثر من مصدر أن ترامب قاوم أي قرار يقضي بإرسال تلك القوات.

الشرطة قالت إنها لم تشتبك لأن عدد المقتحمين، أو المتظاهرين كما تصفهم الصحف الأمريكية، فاق عدد القوات النظامية، وانتشرت مقاطع الفيديو للعديد من الضباط يقفون بلا حراك أمام عمليات الاقتحام. أما العدد القليل من الضباط الذين حاولوا ردع المقتحمين فلم يستخدموا أيًّا من التكنيكات الشديدة أو العدوانية التي استخدمتها الشرطة الأمريكية طوال عام كامل ضد المتظاهرين السود في الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد، إلا أن ذلك لم يمنع وقوع ضحايا كوفاة سيدة يُقال إنها ماتت بسبب إطلاق أحد الضباط النيران عليها.

حتى بعد سقوط ضحايا ما زالت الصحف الأمريكية تعتبر عملية الاقتحام فشلًا ذريعًا لمبنى يضم وحده 2000 شرطي، وفي مدينة ترتفع فيها درجة الاستنفار الأمني بطبيعة الحال. بل على العكس لم ترتدِ الشرطة ملابس مكافحة الشغب، بل ارتدوا زيَّهم الاعتيادي، ما يوحي أنهم لم يكن في نيتهم التصدي للاقتحام بأي صورة.

القانون يُجرِّم إزالة حشائش الكابيتول

المقتحمون يمكن أن يواجهوا تهمًا عدة مثل التخريب المتعمد والفتنة، ويمكن للدولة أن توجه التهمة للأفراد حتى لو ابتعدوا عن مكان الحادث، ويمكن أن تصل عقوبتهم إلى السجن 20 عامًا إذا وُجهت إليهم تهم محاولة عرقلة الحكومة أو محاولة قلب نظام الحكم.

كما أصدر ترامب قرارًا تنفيذيًّا خلال احتجاجات حياة السود مهمة/ بلاك لايف ماترز قال فيه إنه يمكن مقاضاة أي شخص يضر بالممتلكات الفيدرالية لمدة قد تصل إلى 10 سنوات، ويمكن سجن أي شخص لمدة 5 سنوات إذا وُجهت له تهمة إعاقة ضباط إنفاذ القانون عن تأدية أعمالهم. كل تلك التهم رغم أن ترامب صاغها لمواجهة مظاهرات السود، فإنه يمكن استعارتها وتوجيهها لأنصاره الذين اقتحموا الكابيتول.

أضف إلى ذلك أن أراضي مبنى الكابيتول الأمريكي لها قانونها الخاص الذي يحكم الأنشطة غير القانونية، مما يجعل من غير القانوني لأي شخص أن يخطو أو يتسلق أو يزيل بأي شكل من الأشكال أي تمثال أو مقعد أو جدار أو نافورة أو أي قطعة معمارية أخرى، أو أي شجرة، أو شجيرة، أو نبتة، أو عشب في أراضي الكابيتول.

ويمكن ملاحقة المقتحمين قضائيًّا بأدلة دامغة مثل بصمات الأصابع ووجود لقطات مباشرة يمكن دمجها مع تقنية التعرف على الوجه لتحديد المشتبه بهم، لكن رغم ذلك لم تحدث اعتقالات جماعية حتى الآن. ويجب الأخذ في الاعتبار أنه يمكن لترامب أن يصدر عفوًا رئاسيًّا شاملًا عنهم جميعًا.

نهاية ترامب والجمهوريين

اللافت أن المئات التي اخترقت المبني لم تكن سوى قلة قليلة بجانب العديد من المؤيدين لهذا الاقتحام، والذين ظهروا على مواقع التواصل الاجتماعي يدعمون رفاقهم داخل المبنى، كما باركهم كبيرهم الذي دعاهم إلى الاقتحام، ترامب. لكن على الجانب الآخر ظهر نائب الرئيس، مايك بنس، في مقطع مصوَّر يقول لأنصار رئيسه ترامب إنهم لم يفوزوا، ويوبِّخهم فيه على فعلتهم، ويعلن أن جو بايدن هو الرئيس الشرعي للولايات المتحدة، ثم يختتم خطابه بدعوة المقتحمين للعودة إلى العمل.

مستشارَ الأمن القومي الأمريكي مات بوتينغز، ونائبة المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ماثيوز قدَّما استقالتهما، كما أفادت تقارير متواترة أن مستشار ترامب لشئون الأمن القومي يفكر هو الآخر في الاستقالة اعتراضًا على تشجعيه على اقتحام الكابيتول.

ترامب لم يستجب لدعوة بايدن ولا لدعوة بعض الجمهوريين الذين طالبوه بالظهور عبر التلفزيون الوطني لتهدئة الأوضاع، ما يضعه في مخاطر أكبر لاحتمالية إقالته من منصبه دون انتظار موعد تسليم السلطة الرسمي. كما نادت بذلك النائبة إلهان عمر قائلةً إنها ستطالب بعزل ترامب لأنه لا يمكن لهم السماح لترامب بالبقاء في منصبه بعد الذي حدث، وأضافت أن الأمر يتعلق بقيم الجمهورية وبالوفاء باليمين التي أقسمها النواب.

لم يبدُ أن الشرطة تحاول اعتقال المشاغبين المتورطين في اقتحام الكونجرس، بل سمحت لهم بالمغادرة دون الوقوف في طريقهم، وظهر واحد منهم يمد يده لامرأة يساعدها على تسلق سلم الكابيتول.
صحيفة واشنطن بوست

وقال أكثر من سيناتور أمريكي إنه يجب أن تكون جميع الخيارات متاحة في التعامل مع ترامب، وفي ذلك إقالته من منصبه، لكن لا يبدو هذا الاختيار قائمًا خاصةً أنه نجا من قضايا كثيرة طوال فترة حكمه، والأيام الباقية على تسليمه السلطة صارت معدودة. وطالب العديدون بتفعيل المادة الخامسة والعشرين من الدستور الأمريكي التي تقضي بعدم صلاحية ترامب لمنصبه، لكن حتى لو لم يحدث أي تحرك ضد ترامب لإقالته فإن 2021 تحمل في جعبتها نهاية ترامب وحزبه.

فقد شهدت جورجيا فوزًا نادرًا لجون أوسوف، ليكون أوسوف مع رافائيل وارنوك، أول عضو ديمقراطي في مجلس الشيوخ من جورجيا منذ 16 عامًا، ما يعني أن الديمقراطيين سيحكمون سيطرتهم على شقي الكونجرس، ما يعني أن التعيينات التي سيقوم بها بايدن سوف تمر بسلام وتصبح نافذة.

الجمهوريون فتوات الحارة الأمريكية

هذا الضعف في رد الفعل عن المعتاد من الشرطة الأمريكية ليس خللًا لحظيًّا ولا ضعفًا متعمدًا، لكنَّه ضعف جاء نتيجة سنوات من التعاطي الأمريكي مع الحوادث بصرامة أمام انتهاكات اليسار لكن بمرونة وصبر مع انتهاكات اليمين. ربما يعود الأمر إلى لحظة نشأة الولايات المتحدة وتبلور نظامها السياسي، إذ كان الحزب الجمهوري هو المسيطر لعقود أطول على الحكم من الحزب الديمقراطي.

والأمريكيون ينظرون له باعتباره الحزب الحاكم للأبد، وإن تخلل ذلك فترات بسيطة يقتنص فيها الديمقراطيون الحكم، حتى في تلك الفترات تكون النظرة الأمريكية للحزب الجمهوري باعتباره الحزب الأساسي للبلاد، حزب السكان الأصليين، البيض البروتستانت، الحزب الداعم للفردانية الأمريكية، وللهيمنة الأمريكية على العالم عسكريًّا. حزب الأمريكيين الحقيقيين الذين استولوا على الأرض من الهنود الحمر وطردوهم.

ولا يمكن للمؤسسات الأمريكية أن تتعامل بعنف مع الحزب الجمهوري لأن الجمهوريين هم أصحاب المال وجهابذة القانون، ومعظم الذين يشغلون مناصب سياسية وأمنية هم في داخلهم يميلون إلى خطابات القوة والنظام الإجباري. كما أن الجمهوريين يهاجمون ولا يدافعون، متطرفون حين يتحدثون وحين يتعرضون للهجوم، ولا يبالون بالعواقب الأخلاقية لأفعالهم أو سلوكياتهم السياسية، لذا فترامب ورفاقه الذين اخترقوا الكابيتول لا يبالون بالحديث عن صورة الولايات المتحدة التي اهتزت أمام العالم، ولا عن نظرة باقي الأمريكيين لهم.

فبراير/شباط عام 2020 أصدر كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، بيانًا للكونجرس يؤكد فيه أن الأمريكيين المتطرفين العنيفين ذوي الدوافع العنصرية والعرقية أصبحوا المصدر الرئيسي للتهديدات الإرهابية المحلية وجرائم القتل.

ترامب استغل ما هو موجود

ما حدث في الأيام الأخيرة يمكن عده صورةً موسعةً لما حدث سابقًا في أبريل/نيسان 2020 حين  فرضت حاكمة ولاية ميتشجن حظرًا للتجول وأمرت مواطنيها بالبقاء في منازلهم ضمن سلسلة من الإجراءات الاحترازية لمكافحة جائحة كورونا. لكن في تلك الآونة لم يكن ترامب مقتنعًا بأن الوباء أمر جدي ويستدعي كل تلك الإجراءات، فطالب أنصاره بتحرير ميتشجن على حد تعبيره من حاكمة الولاية الديمقراطية. استجاب له أنصاره بالخروج محملين بالبنادق الآلية واقتحموا مبنى الكونجرس في لانسينج، عاصمة الولاية، كأن الأمر كان تدريبًا مصغرًا على ما حدث في الأيام الماضية.

لذا فاقتحام الكونجرس كان تتويجًا ظاهرًا لحقبة ترامب التي تميزت بخروجها عن كل منطق ممكن، ما يجعل البحث عن أسباب الاقتحام ودوافعه أمرًا غير جدوى كبيرة، لكن الأهم هو السؤال حول قدرة الولايات المتحدة على التعافي من الترامبيَّة بعد رحيل ترامب جسديًّا، فهل تستطيع الولايات المتحدة رتق الخرق الذي أحدثه ترامب في النسيج المجتمعي.

لأن الحقيقة الواضحة أن ترامب لم يُدخل العنصرية المجتمع الأمريكي، ولم يزرع شعور تفوق الإنسان الأبيض داخل المواطن الأمريكي، لكنَّها كانت خصالًا موجودة بالفعل في المجتمع الأمريكي، لكن ترامب استطاع العزف على وترها بقسوة وحرفيَّة جعلته يستغل تلك الخصال للوصول إلى البيت الأبيض، والآن يلعب بها كورقة أخيرة للبقاء في منصبه، ومهما تكن نتائج اللعبة، أتنتهي لصالح ترامب أم يحرق ترامب بها نفسه للأبد، فعلى المجتمع الأمريكي أن يراجع صورته الذهنية عن نفسه كمجتمع مثالي مختلف عن باقي شعوب العالم.