الجزء الأول

أريد أن يعلم الأمريكيون والعالم بأسره أن قوات التحالف ستبذل كل جهد ممكن لتجنب تعرض المدنيين للأذى. فحملة على أرض دولة بحجم كاليفورنيا قد تكون أطول وأصعب مما يتوقع البعض، ومساعدة العراقيين على إقامة دولة موحدة مستقرة وحرة سيتطلب التزامًا متواصلًا منا.
جورج بوش في التاسع عشر من مارس/آذار 2003

كان هذا إعلانًا من الإدارة الأمريكية ببدء الحرب الدولية على العراق تحت مسمى «التحرير» بعد انتهاء مهلة الـ48 ساعة التي حددت لصدام حسين وولديه لمغادرة العراق. وبعد ساعات من هذا الإعلان بدأت عمليات القصف – منطلقة من القواعد العسكرية الأمريكية في قطر والخليج بصفة عامة – من قوات التحالف الدولي على رأسها القوات البريطانية والأمريكية، مستهدفًا المباني العامة (وزارة الإعلام) والمنشآت السكنية في وسط العاصمة بغداد وعلى أطرافها وبقية المدن العراقية الكبرى. وظل القصف متواصلًا طيلة فجر الخميس 20 مارس/ آذار مخلّفًا وراءه المئات من القتلى والجرحى من المدنيين الذين تم انتشالهم من تحت الأنقاض فيما تلا من الأيام، دون أن يكون صدام في أحد هذه المواقع المحتملة كما زعمت الإدارة الأمريكية. وفي صباح ذات اليوم بدأت القوات البريطانية بالتقدم من خلال الحدود الجنوبية بين العراق والكويت وبقوة 100,00 جندي؛ للسيطرة على حقول البترول الأهم في جنوب العراق في الفاو وأم قصر والرميلة، وكأن الشر الذي يهدد الكون يختبئ في تلك الحقول، حتى تمت السيطرة تمامًا على البصرة في 4 إبريل/نيسان 2003.

وبالتوازي مع تحركات القوات البريطانية، بدأت القوات الأمريكية في التحرك على الأرض بقوة تجاوز تعدادها 400,000 جندي من خلال الحدود مع الكويت باتجاه السماوة والناصرية حتى تصل للعاصمة بغداد، وفي نفس اليوم كان دونالد رامسفيلد يصف تلك العملية في مؤتمر صحفي عقد في البنتاجون بأنها ليست «عملًا أحادي الجانب كما يشار إليه في أجهزة الاعلام، وأن التحالف الحالي الذي تم تشكيله أوسع من ذلك الذي تم تشكيله أثناء حرب الخليج عام 1991»، وبإستراتيجية الحرب الخاطفة تلك التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية و«حلفاؤها» المتعددون تمت السيطرة على بغداد وإعلان انتهاء «عملية تحرير العراق» والبدء في تنفيذ دور الشركات في رسم سياسة إعادة الإعمار. لم تكن الإدارة الأمريكية وحلفاؤها يحسبون لردة الفعل العراقية أي حساب، حتى جاء يوم الإثنين 28 إبريل/نيسان 2003.


المقاومة (ضد) إعادة الإعمار

في الثامن من إبريل/ نيسان 2003، وقبل سقوط بغداد بشكل كامل في أيدي القوات الأمريكية وحلفائها، صرح كل من توني بلير وجورج بوش في مؤتمر صحفي في بلفاست: «مستقبل العراق اليوم قد صار في متناول أيدي العراقيين، فبعد سنوات من الديكتاتورية، سيتحرر العراق قريبًا، وللمرة الأولى منذ عقود سيختار العراقيون بدون خوف ممثليهم في الحكومة». تصريح قد جلب المشاكل أكثر بالنسبة للإدارة الأمريكية وحلفائها في الحرب، ذلك بتأكيدهم على هدفهم «المتلفز» من هذه الحرب وهو إرساء قواعد الديمقراطية بنموذجها الأمريكي المعاصر في الشرق الأوسط واجتثاث «أسلحة الدمار الشامل» من العراق. واليوم، وبعد ثلاثة عشر عامًا مضت على بداية الاحتلال، لم يعد يخفى على أحد ما ساقته الإمبريالية الجديدة من حجج واهية يومًا بعد يوم عبر كافة الأبواق الإعلامية المختلفة من «Fox News» أو غيرها من الصحف ووكالات الأنباء العالمية التابعة لسياستها، تبريرًا لهذه العمليات العسكرية، بل وغض الطرف عن الأهداف السياسية والإستراتيجية -على الأقل- من إعادة هيكلة التواجد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج البترودولارية، وترسيخ مبدأ الهيمنة الأمريكية في قرنها الـ 21، ودعم الموقف السياسي والعسكري للكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، وتقويته على المستوى المادي من ناحية المعونات العسكرية والاقتصادية، وعلى المستوى الدبلوماسي أيضًا.

وصلت محاولة الاحتلال فرض تعتيم إعلامي على ما يجري ميدانيًا في العراق، إلى الهجوم بالجنود والدبابات على فندق فلسطين مقر إقامة الصحفيين والمراسلين.

في السادس عشر من إبريل/نيسان 2003، وبعد السيطرة التامة على العاصمة العراقية، وصل قائد القوات العراقية تومي فرانكس إلى العاصمة العراقية، وسرعان ما تم تجهيز قصر أبو غريب في شمال بغداد، والذي كان في السابق أحد مقرات الإقامة الخاصة بصدام، ليكون مقرًا لهذا «القائد». وعلى الرغم من إعلان إدارة بوش وغيرها لأكثر من مرة بأن الحرب قد انتهت فى العراق، إلا أن التواجد الأمريكي في العراق قد بدا أن أمدها سيطول إلى وقت غير معلوم. فمنظومة الإمبريالية الجديدة (الطبقة الحاكمة العالمية) التي أنفقت 700 مليار دولار سنويًا كنفقات عسكرية في الأعوام الثلاثة الأولى من ولاية جورج بوش لن تذهب بعتادها البشري هذا كله من أجل القبض على صدام وحسب، أو لحضور حفلة غنائية لفرقة «Guns ‘N’ Roses» في ساحة الفردوس!، فسياسات إعادة الإعمار في العراق لن تتم دون استخدام أسلوب «الصدمة والترويع» تجاه ملايين العراقيين لإرغامهم على قبول الأمر الواقع وتطويع إرادتهم وجعلها في متناول الشركات الكبرى التي تنوى الاستثمار في «مستقبل العراق». ووصل الأمر إلى محاولة فرض تعتيم إعلامي على ما يجري ميدانيًا في العراق، وما يدل على ذلك هو هجوم الدبابات والجنود على فندق فلسطين والذي كان مقرًا لإقامة الصحفيين والمراسلين من كافة أنحاء العالم؛ ما أدى إلى قتل الصحفيين تاراس براتسيوك وخوسيه كوكو في 7 إبريل/نيسان 2003.

لكن يبدو أن نظرة مديري ومهندسي هذه الحرب قد خابت بشكل كبير، ولم تنجح تدابيرهم المختلفة في جذب الشعب العراقي إلى مشروعهم، بل أتت بنتائج عكسية لم تكن تتصورها الإدارة الأمريكية، بل ولم تتوقع حتى كيفيتها ومداها وسرعة انتشارها المهولة، وأن تأتي من شعب قد دمر بلده في ثلاثة عشر عامًا من الحصار إلى الغزو. قبل يوم 28 إبريل/نيسان 2003، احتلت القوات الأمريكية مدرسة القائد في شارع حي النزال بمدينة الفلوجة لتكون مقرًا للإقامة والإدارة بالمدينة، وتوقفت العملية التعليمية تمامًا بالمدينة بجميع مراحلها، فبدلًا من أن تبدأ سياسة إعادة الإعمار بالحفاظ على العملية التعليمية بدأت بالعكس، وهو هدمها بالكامل. وفي يوم 28 إبريل/نيسان تظاهرت مجموعة صغيرة من مواطني الفلوجة أمام مقر المدرسة مطالبين بإخلاء المدرسة ووقف التلصص على النساء العراقيات من النوافذ وبخروج القوات الأمريكية من المدينة. تم إطلاق النار على ذلك الحشد الصغير الأعزل؛ ما أدى إلى مقتل 15 من مواطني المدينة وجرح العشرات منهم، وعلق أحد مواطني المدينة على هذا الأمر بقوله: «ها هي الحرية التي أتى الأمريكان من أجلها، يقتلون الأطفال والشباب العزل، لقد تبدل الاستبداد بالاحتلال». وفي اليوم التالي قتل خمسة أشخاص آخرين برصاص بنادق الحرية.

في 5 مايو/أيار قد تم منح عقد إعادة إعمار ميناء أم قصر لشركة «ستيفدورينج للخدمات فى سياتل» بتكلفة تقارب 3 مليار دولار، في نفس الوقت الذي وصلت فيه أعداد القتلى لـ 3000 قتيل.

اشتعلت الانتفاضة في الفلوحة بشكل قوي وبدأت تتوافد المظاهرات بأعداد ضخمة في الفلوجة وتم رفع السلاح في مواجهة الاحتلال، وانتقلت حمى الانتفاضة إلى بعقوبة والرمادي والموصل وسامراء وسائر المدن العراقية؛ مما أجبر القوات الأمريكية على الانسحاب من المدينة في نهاية شهر مايو/أيار، واستمر بعدها مواطنو الفلوجة في تنظيم صفوفهم وإدارة أمور المدينة بأنفسهم من كافة النواحي. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي الخامس من مايو/أيار قد تم منح عقد إعادة إعمار ميناء أم قصر لشركة «ستيفدورينج للخدمات في سياتل» بتكلفة تقارب 3 مليار دولار، في نفس الوقت الذي وصلت فيه أعداد القتلى- منذ إعلان الإدارة الأمريكية انتهاء العمليات العسكرية- لـ 3000 قتيل بمعدل 70 قتيلًا يوميًا، ووصل استخدام القنابل العنقودية ذات التأثير الزمني الطويل والمتسببة في حدوث تشوهات جسدية لـ 10782 قنبلة عنقودية من قبل القوات الأمريكية و2170 قنبلة من جانب القوات البريطانية، في سعيهم الحثيث للقضاء على أسلحة الدمار الشامل باستخدام الأسلحة المحظورة والكيميائية الحديثة.

ما ضيق الخناق أكثر على إدارة بوش، هو قرار بول بيريمر بحل الجيش العراقي وتسريح أكثر من 400 ألف من عناصره في مايو/أيار 2003؛ مما جعل تربة المقاومة تكون خصبة إلى حد كبير. فعدد مثل هذا قد صار قيد البطالة والنقم على الاحتلال، فما كان منهم إلا الانضمام لصفوف ميلشيات المقاومة العراقية التي بدأت تتكون وتنتشر، وعلى رأسها «جيش المهدي» التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر. لم يكن بريمير يدرك أنه يشعل فتيل المقاومة العراقية ضد المشروع الأمريكي في العراق، فكل ما كان يدركه هو كيفية استفادة الشركات متعددة الجنسيات من مختبر السوق الحرة هذا؛ أي العراق. فتعيين دان أستونز، المدير التنفيذي السابق لشركة «كارجيل»، مديرًا لشئون الزراعة في العراق، أو حتى ما قاله نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز أمام الكونجرس في إبريل بأن «الاحتياطات النفطية العراقية ستوفر مبلغ 100 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات»، تعد أدلة دامغة على الكيفية التي ستتم بها إدارة هذا «المختبر». ووسط تدمير شبكات الصرف الصحي في جميع أنحاء العراق تقريبًا نتيجة للعمليات العسكرية وندرة المياه وشبه انعدام الطاقة الكهربائية وانتشار الكوليرا بين الأطفال، تم تشكيل مجلس الحكم «الكرتوني» في يوليو/تموز 2003 مكونًا من شخصيات سياسية لا توجد لها قاعدة شعبية في العراق؛ ليكون أداة في يد «المندوب السامي» الأمريكي، لا ينفذ سوى قراراته وإملاءاته.

كانت العراق بالنسبة للإمبريالية الجديدة غنيمة لا يجب تفويتها ولا ضياع أرباحها، فكانت جميع المخصصات المالية الخاصة بسياسة إعادة الإعمار والموزعة على عدة صناديق، والتي تم إبرام العقود الخاصة بها مع الشركات متعددة الجنسيات قبل وأثناء وبعد الاحتلال، على هيئة قروض يتم سدادها بفوائدها من قبل الشعب العراقي المثقل بفوضى الاحتلال والحرب. ففي السابع من سبتمبر/أيلول أعلن جورج بوش سعيه الحصول 20 مليار دولار كدفعة جديدة من مخصصات إعادة الإعمار، فضلًا عن لائحة المشاريع التي قدمها بريمير في ذات الشهر لإدارة بوش وبالشراكة مع البنك الدولي للتنمية وإعادة الإعمار، الذي أعلن عن احتياج العراق لأكثر من 50 مليار دولار كدفعات لتطبيق برنامج إعادة الهيكلة والإعمار.

في 28 أغسطس/آب تم عقد صفقة بين بلاكووتر وبول بريمير لتشكيل فرقة حماية خاصة به بقيمة 26,7 مليون دولار.

لم يكن بريمير ليكتفي بتأمينه من قبل القوات الأمريكية فقط، خاصة ومع ازدياد حدة تصريحاته تجاه العراقيين المناهضين للاحتلال وإعادة الإعمار ونعته لميلشيات المقاومة بالعناصر الإرهابية الأجنبية، فلول نظام صدام البعثي، فكان من المهم له أن يشكل فرقة حماية خاصة به من مقاولي الدفاع المرتزقة، والذين قد منحهم حصانة قانونية من المسألة أمام القضاء العراقي في حالة ارتكابهم لجرائم قتل بحق المدنيين. وكغيرها من شركات إعادة الأعمار، كانت الشركات العسكرية الخاصة وعلى رأسها بلاكووتر Blackwater U.S.A من أكبر المستفيدين من مختبر السوق الحر في العراق. في 28 أغسطس/آب تم عقد صفقة بين بلاكووتر وبول بريمير لتشكيل فرقة حماية خاصة به بقيمة 26,7 مليون دولار.

فمن الموصل شمالًا إلى البصرة جنوبًا، كانت تنتشر الكمائن المختلفة والطرق الملغومة. أول هذه التهديدات الحقيقية كانت في محاولة اغتيال نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز في الهجوم الذي تم في 26 أكتوبر/تشرين الأول في المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، والتهديد الآخر كان في محاولة اغتيال بول بريمير نفسه في ليلة السادس من ديسمبر/كانون الأول 2003. ففي طريق عودته إلى المنطقة الخضراء من مطار بغداد بعد رحيل دونالد رامسفلد، وبينما هو جالس في سيارته S.U.V يفكر في تحضير نفسه للمشاركة في مؤتمر دافوس للحديث عن «إنجازات» سياسة إعادة الإعمار، انهال رصاص كلاشينكوف مقاتلي المقاومة من كل اتجاه على موكبه المكون من فرقة بلاكووتر الخاصة به، بعد كمين قد تم التخطيط له مسبقًا لاغتياله. وبعد أسبوع واحد من محاولة الاغتيال تلك، تم القبض على صدام حسين في مخبئه قرب مسقط رأسه في تكريت بعد سبعة أشهر من بدء «عملية تحرير العراق».