توقفنا في المقال السابق عند قفزة هيزنبرج اللاحتمية Indeterminism حيث يحد مبدأ عدم اليقين من قدرتنا على تحقيق معرفة كاملة بالكون،لم يكن عدم اليقين هو فقط أساس اللاحتمية، لقد أضافت موجات بورن الاحتمالية زخمًا أساسيًا لتلك الرحلة.


مبدأ بورن Born Rule

ماكس بورن

اعتبر ماكس بورن سنة 1927 أن موجات المادة Matter Waves التي استحدثها ديبروجلي واصفًا الإلكترون، هي ببساطة موجات احتمالية probability Wave، تعبر عن احتمال ضرب الإلكترون لهذا المكان أو ذاك على الشاشة الخلفية في التجربة، وتوصل إلى أن تربيع سعة الدالة الموجية يمكن أن يعطينا نتيجة أكثر وضوحًا لكنها أقل يقينًا عن احتمالات تواجد الإلكترون في مكان ما. لذلك، يقدم مبدأ بورن نقطة الوصل بين الصياغة الرياضية للميكانيك الكمومي في صورة دالة موجية تعبر عن حالة النظام الفيزيائي والنتائج التجريبية الدقيقة، تلك التي تسببت في حصوله على نوبل 1954.

تعبر احتمالات بورن عن حالة من اللايقين، كل ما نستطيع تحصيله عن واقع الذرة هو حفنة أخرى من البيانات الإحصائية عن كثافة وشكل السحابة الإلكترونية. من خلال تفسير كوبنهاجن تبدو احتمالات بورن كنتيجة لاستخدامنا للغة كلاسيكية في محاولة فهم عالم الكم، تضعنا الموجات الاحتمالية أمام معضلة متكررة، هي نفسها معضلة الصناديق المغلقة، هل هي كيانات موضوعية Objective بالفعل تتواجد كجزء من تركيب الطبيعة، أم أنها تعبر عن مشكلة ذاتية subjective ذات علاقة بجهلنا وعدم قدرتنا على تحقيق معرفة كاملة بالعالم؟


مبدأ التتام Complementarity

http://gty.im/78963719

حسنًا، نحن هنا أمام طريقتين لفهم العالم الكمومي، كل منهما تقدم نتائج صحيحة. تعامل هايزنبرج مع الإلكترونات كجسيمات حينما تحدث عن مسارات، بينما تعامل شرودنجر مع الإلكترون كموجة. انقسمت الفيزياء الكوانتية بين توجهيّ شرودنجر وهيزنبرج وبدأ كل منهما في اتباع منهج له خصائص منفصلة، لكن شرودنجر بعد ذلك أثبت أن كلا النظامين صحيح رياضيًا واستخدمت معادلاته بشكل أكبر في مراجع الفيزياء. أثار ذلك الجدل عند بور تساؤلًا عن العالم الكمومي. هل -ربما- كلتا الطريقتين، بالتعبير الرائج، وجهين لنفس العملة؟ هنا ولدت إحدى أشهر الأفكار العلمية والفلسفية في العصر الحديث، مبدأ التتام.

أليس ذلك غريبًا؟! نحن نستكشف الخصائص الموجية لجسيم ما، الفوتون مثلًا، حينما نُدخله في تجربة الشق المزدوج، ثم نستكشف خصائصه الجسيمية حينما نضرب به لوحًا معدنيًا. هنا يقول تفسير كوبنهاجن أن الدالة الموجية تعبر فعلًا عن ازدواجية الموجة والجسيم كجزء أساسي وضروري من التفسير، لكن من المستحيل على أية لغة أو أدوات كلاسيكية أن تتعامل مع النظام كموجة وجسيم معًا، التجربة يمكنها فقط أن ترصد الأثر الموجي أو الجسيمي، يتعامل بور مع هذا التناقض كمكون أساسي وميتافيزيقي للطبيعة الكمومية وليس فقط مشكلة أدوات قياس.

لقد تعلم نيلز بور الدرس جيدًا من مبدأ عدم اليقين، نحن نستطيع بدقة أن نقيس زخم الإلكترون على حساب الموضع، وفي تجربة أخرى يمكن قياس الموضع بغض النظر عن زخمه، لدينا هنا نطاقان مختلفان من الموضوعات، كل منهما يرسم صورة جيدة متسقه مع ذاتها، لكن لا يمكن إدراجهما تحت نطاق آخر أكبر يتسق مع ذاته. لذلك فتلك القياسات التي نحصل عليها، بينما تبدو متناقضة للوهلة الأولى، لكنها لا تعبر عن أي اختلاف أو تقلب في خصائص موضوع دراستنا نفسه، بل هي فقط مجموعة صور لنفس الشيء، لنفس الإلكترون. ليس هناك تناقض بين الطرق المختلفة لرؤية العالم الكمومي، لكن هناك تكامل. قد تبدو فكرة المتتامة للوهلة الأولى بديهية بشكل ما، كأن تستخدم عدسة محدبة لحرق طرف ورقة كتاب بضوء الشمس نهارًا ثم تستخدم منشورًا ثلاثيًا لتحليل طيف نفس الضوء اليومي العادي لسبعة ألوان، هي كذلك بالفعل، لكنها بغرابة أن تتكلم مع شخص ما في التليفون ثم تقابله وجهًا لوجه فتجد أنه فيل، لازلنا لا نستطيع إدراك معنى أن تكون إلكترونًا!

حينما نسأل إن كان ما بداخل الذرة جسيمًا أو موجة فنحن نحاول تصوير ما بداخل الذرة بلغتنا بينما لا يبدو ذلك صحيحًا، يضرب فاينمن لنا مثالًا عن زائر مريخي لا يعرف ما تعنيه ظاهرة الـ «نوم»، يأتي للأرض ويجد أن البشر يتخذون وضعًا غريبًا في نهاية اليوم، فيحاول توصيف ذلك «الفعل» بلغته. نحن هذا المريخي حينما ندخل للذرة، فما يحدث هناك في العمق هو شيء يختلف تمامًا عن خبرتنا في العالم الكبروي Macro، لا هو جسيم ولا هو موجة ولا كلاهما معا بالشكل الذي نتصوره، هو شيء مختلف لا يمكن لنا إلا معرفة بعض خصائصه الموجية من خلال استخدامنا لأجهزة تقيس الخصائص الموجية، وبعض خصائصه الجسيمية من خلال استخدامنا لأجهزة تقيس خصائص الجسيمات، ثم الحصول على رؤى متممة لبعضها عما يحدث بالداخل. هنا نفهم ما قصده بور من التتام أو التكامل.

كان بور فيلسوفًا في تفسيراته، سوف نلاحظ ذلك دائمًا، ربما كان ذلك هو السبب أن الكثير من الفيزيائيين تجنبوا الحديث عن بور كمركز لتفسير كوبنهاجن. تتم الإشارة بشكل دائم لديراك وباولي وهايزنبرج وفون نيومان كممثلين عن الشكل الفيزيائي. يقول انريكو فيرمي أن رؤية بور كانت: «فلسفية كثيرًا too philosophical». في الحقيقة كان بور غير مفهوم كفيلسوف في الكم، في البداية تحدثنا عن أبستمولوجية تفسير كوبنهاجن، ثم قبل قليل تحدثنا عن بور كبراجماتي يطلب منك أن تحسب وتخرس وتهتم للنتائج Shut up and calculate، والآن يقترب من كانط. رغم أن الفيزياء الحديثة تتنصل بشكل أو بآخر من قبليات فيلسوف المثالية المتعالية الشهير، إلا أن بور لم يكن ذاتيًا ولا وضعيًا بشكل واضح كما ادعى البعض، بل ربما كان كانطيًا –أو بمعنى قريب «نيوكانطي»- حينما قرر قراءة العالم الكمومي بمتتامته.

مجددًا، يكرر بور أن لغة الفيزياء الكلاسيكية لا غنى عنها في تفسير الواقع، ويضيف هيزنبرج أن كل ما نحتاجه هو أن نحدد تلك اللغة بعلاقات عدم اليقين. بور إذًا لم ينفصل كليًا عن الميكانيك الكلاسيكي، بل على العكس تمامًا، ابتكر واحدًا من أشهر المبادئ في الميكانيك الكمومي لربطه بالفيزياء الكلاسيكية، مبدأ التناظر.


مبدأ التناظر Correspondence Principle

لو حاولنا تطبيق نموذج بطليموس لقراءة سماء الليل على الموعد الذي سوف يظهر فيه كوكب الزهرة في سماء الليل بعد عشرة أشهر، هل سنحصل على نتائج دقيقة؟

إلى حد ما، لو كنّا فقط نرغب في الحصول على نتائج للعين المجردة، أما لو استخدمنا تلسكوبًا ضخمًا لمحاولة تحديد دقيقة فسوف تظهر مشكلات نموذج بطليموس، يمكن حل تلك المشكلات حينما نستخدم نموذج كيبلر مثلًا، ويمكن حلّها بشكل أكثر دقة حينما نستخدم نموذج نيوتن، لكن بالنسبة لي كراصد من سطوح بيتهم، سوف أقوم بالتعامل مع النماذج الثلاثة على أن جميعها دقيقة، لأنها تعطيني نفس الإجابات عن سؤالي الشخصي: أين في السماء يمكن أن أرى الزُهرة في ديسمبر القادم؟

في عالمنا الماكروسكوبي، حيث السيارات والطائرات الضخمة، يمكن كذلك أن نستخدم الميكانيك الكمومي في حساباتنا، لأن الأجسام الكبيرة لها رقم كمومي كبير Quantum Number، حيث تقترب نتائج معادلات كل من النسقين بشكل شديد. يمكن للميكانيك الكمومي، في الحالات التي لها مدارات واسعة أو كتل عالية أو طاقات عالية، أن يعطي نتائج تتفق مع الميكانيكا أو الإلكتروديناميكا الكلاسيكية. كلما أصبح النظام أكبر بات على كل من الكلاسيكي والكمومي إعطاء نفس النتيجة. يمكن هنا القول أن الميكانيك الكلاسيكي هو حالة خاصة/محددة من الميكانيك الكمومي، لكن بور يوضح أن هذا لا يعني أن نستخرج الميكانيك الكلاسيكي من الكمومي، وأن تناظر الكلاسيكي والكمومي يختلف عن تناظر النسبية مع الميكانيك النيوتني، لعدة أسباب من ضمنها الطبيعة الإحصائية للنتائج الكمومية ودور الملاحظ في العملية.

يقف مبدأ التناظر على قاعدة عامة مفادها أن كل نظرية أو وصف للطبيعة تحتضن نوعًا من التعميم لما قبلها بحيث تصبح ما قبلها حالة خاصة بالنسبة لها، بتلك البساطة ربط بور تاريخ تطور النظريات العلمية، بذلك يواجه مبدأ التناظر تحديًا قاسيًا لفلسفات توماس كون وباول فييرابند القائلة باستحالة مقارنة النظريات العلمية. بور يتفلسف كثيرًا بالفعل، لكنه –لا شك– فيلسوف رائع.


خلاصة مختصرَة

بكل بساطة، يضرب تفسير كوبنهاجن مدعومًا بنتائج تجريبية هي الأدق في تاريخ العلم ما يمكن أن نسميه «كتاب الفيزياء الكلاسيكية المقدس». أصبحنا نفتقد للمعرفة اليقينية أثناء تحديدنا لأبسط الموضوعات الكلاسيكية كالموضع والزخم. بتنا نفتقد لفهم الفروق الواضحة بين الموجة والجسيم ونستخدم متتامة بور لتحقيق بعض المعرفة عن خصائص الإلكترون ثم نضع نتائج إحصائية حسب مبدأ بورن. تتحدد مفاهيم قوية وثابته كـ «الموضوعية Objectivity» و «المحليةLocality» و «الاستمرارية Continuity» و «الحتمية السببية Causal determinism» بعلاقات عدم اليقين والطبيعة الاحتمالية للميكانيك الكمومي. يتدخل الملاحظ كجزء من عملية الرصد بشكل أو بآخر وينهار الوضع الكمومي لحالة محددة مما يمنعنا من فهم جوهره. يبدو ذلك محبطًا، كل ما بنيناه ينهار أمام أعيننا بينما نتفرج، لكن ما يحدث هنا يذكرنا بسؤال هام وأخير: ما هو العلم؟

إذا كان العلم هو محاولة جاهدة من المجتمع البشري لفهم طبيعة وجود هذا العالم المجهول ووجودنا من خلاله فنحن إذن في لحظات ينتصر فيها العلم في مواجهة اعتناقنا لبعض الأفكار لمجرد أنها جميلة أو أنها «ما تعودنا عليه»، إذا كنا نود فعلًا استكمال رحلتنا للفهم فيجب أن نتحمل بعض الضربات لما نعتقد أنه حتمي أو ضروري بينما هو ليس كذلك، إذا كنا نريد فهم الطبيعة فيجب أن نحترم رغبتها في التعبير عن نفسها كما ترغب لا كما نرغب، حينما تظهر التناقضات فذلك يعني أننا على الطريق الصحيح، يقول فاينمن:

ينشأ التناقض من التعارض بين الواقع وبين تصورك عما يجب أن يكونه ذلك الواقع

مراجع للاستزادة في تفسير كوبنهاجن:

ماكس بورن

1. المبادئ الفيزيائية لنظرية الكم – فيرنر هيزنبرج

2. النظرية الذرية و وصف الطبيعة – نيلز بور

3. الفيزياء و الفلسفة – فيرنر هيزنبرج

4. فلسفة الكوانتم – رولان أميس

5. Time, Quantum and Information- Castell، Lutz، Ischebeck، Otfried

6. Mind، Matter، and Quantum mechanics H. P. Stapp

7. Conceptual Basis of Quantum Mechanics – jean-Marcus Shwindt

8. موسوعة ستانفورد الفلسفية : Copenhagen Interpretation of Quantum Mechanics

9. قصة الكم المثيرة – بانيش هوفمان

10. الإحتمالات المثيرة للنظرية الكمية – ليونايد بونوماريف

11. Niels Bohr and Complementarity – arkady plotnitsky