كانت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر تردد عبارتها الشهيرة «ما من بديل – There Is No Alternative» عند كل جدل يثار حول سياساتها النيوليبرالية، حتى أن نورمان جون-ستيفاس، وهو أحد نواب المحافظين من الجناح المعارض لسياسات تاتشر، وهو الجناح الذي أطلقت عليه تاتشر وأستاذها فون هايك: «الجناح الرخو – Wets»، دعاها TINA.

لم توضع عبارة تاتشر محل اختبار، فعلى الرغم من أن سياساتها لم تحقق النجاح الذي نُسب إليها، خاصة بالنظر إلى الصعود الدراماتيكي في نسبة الفقر خلال سنوات حكمها من 13.4% إلى 22.2%، إلا أنها تحوّلت بمرور الوقت إلى نموذج يهيمن داخل إنجلترا، ليس على حزبها المحافظ، وإنما على حزب العمال، خاصة في صيغته «البليرية»، التي هيمنت عليه منذ مطلع التسعينات. في الواقع، لقد تحوّلت سياساتها إلى نموذج يهيمن على العالم بأسره لا إنجلترا فحسب.

بحلول الأزمة المالية العالمية عام 2008، كان من المفترض أن يوضع البديل المنتظَر للنيوليبرالية على الطاولة. لكن ما حدث هو أن أحدًا لم يكن لديه هذا البديل، أو أن أحدًا لم يمتلك الجرأة أو الإمكانية لطرح هذا البديل.يقول المفكر اليساري الإنجليزي طارق علي: «لا أود أن أقول ذلك، لكنّ حقيقة أننا لم نوفّر، وأحدًا لا من يسار الوسط ولا من غيره، تمكن من أن يوفّر بديلًا في صدمة وول ستريت في 2008، تبيّن بالفعل أن هنالك شيئا من الصدق في عبارتها أنه ما من بديل».

مفاعيل 2008 تأخّرت لكنها لم تغب، وكان أهمها في إنجلترا هو انتخاب جيريمي كوربن في 12 سبتمبر/أيلول 2015 قائدًا لحزب العمال.


نمط جديد قديم

هكذا افتتح ماركس وأنجلز البيان الشيوعي 1848. هي مبالغة أن نصف كوربن اليوم بأنه «شبح يخيم على إنجلترا»، غير أن ردود الأفعال على انتخاب كوربن كانت توحي بذلك. فلم يكد يمضي على انتخاب كوربن لقيادة العمال سوى أسبوع واحد، حتى نقلت السانداي تايمز تهديد جنرال بالجيش البريطاني بأن كوربن سيواجَه حال وصوله إلى السلطة بتمرد داخل الجيش. «سنستخدم كافة الوسائل الممكنة، اللطيف منها والكريه». هكذا قال الجنرال عن استعداد الجيش لمواجهة كوربن. حتى مظهره الشخصي، كان موضوعًا للنقد.

لم تكن الانتقادات تأتي من خارج الحزب فحسب، فـ «النموذج» كان قد هيمن على حزبه نفسه. حتى الجارديان، لسان اليسار المفترَض،وجّهت سهامها إلى كوربن، دعك من سائر وسائل الإعلام. بينما تأسّف نائبان عُماليّان عن إعطائهم الفرصة لكوربن ليكون قائدًا للحزب عبر تسميتهم له مرشحًا؛ كان ذلك منهما رغبة فحسب في توسيع النقاشات، بحسب ما أكّدا، ولم يتوقعا أن يصير قائدًا للحزب بالفعل. حتى مع نجاح العمال في الحصول على منصب عمدة لندن لصالح مرشحهم صادق خان، حرص صادق ومؤسسة الحزب على تأكيد أن الإنجاز يعود لأسلوبهم المعتدل خلافًا لما يقترحه كوربن. الفزع من كوربن بلغ ذروته قبيل الانتخابات العامة، بما أخرج مجلة «السياسة الخارجية» الأمريكية عن رصانتها المعتادة، لتصف التصويت لكوربن بأنه ليس حماقة فحسب، بل خطر، وتلوّح بكونه إرهابيًا!

كان الفزع يعود مباشرة إلى مَن هو كوربن. فعلى مدى سنوات، كان قد ترسّخ أن الساسة هم طلّاب نابهون وواعدون، يتم التقاطهم من قبل الحزب وترقيتهم ضمن مؤسسته ليصيروا نوابا ثم وزراء. بهكذا منهج أرادت جماعة بلير في حزب العمال التخلص من الجناح اليساري في الحزب كما يحكي الكاتب الإنجليزي أليكس نانز. ما أنتجه هذا الأسلوب هو مجموعة من الساسة البيروقراطيين، أشبه بالموظفين. المشكلة كانت أن كوربن لا ينتمي إلى هؤلاء. فكوربن لم يتخرج في الجامعة التي اصطدم فيها بأساتذته جرّاء موقفه المؤيد للاتحادات العمالية، وغادرها ليكون ناشطًا في تلك الاتحادات. أعاد كوربن نمط ساسة الأيديولوجيا الذي نسيته أوروبا منذ حربها الثانية، فانزعج ساسة البيروقراطية من مظهر الأيديولوجي الذي لا يناسب أناقة النخبة؛ وهو انزعاج استمر من 1984، إلى 2015.

https://www.youtube.com/watch?v=bvcGA8QK-FI

كان انتخاب كوربن لذلك مفاجأة تسببت فيها قواعد الحزب التي تضاعفت بعد تغيير قواعد الالتحاق بالحزب في 2014؛ وهو تغيير انقسم الحزب بعده بين حزب برلماني قوامه هو النوّاب الذي يميلون إلى الوسط، وحزب جماهيري زاد فيه عدد الأعضاء ذوي الميول اليسارية، كما زادت قوة الاتحادات العمالية. ما فعله كوربن في الحقيقة، هو أنه أعاد اليسار إلى قلب المعركة. والأهم، أنه أعاده بلا رطوش. فمنذ الستينات، ابتعد اليسار الجديد عن إيمان اليسار الكلاسيكي بأولوية صراع الطبقات ودور العمال (Coker, 2002)، ولم يعد لدى نشطائه كذلك الالتزام نفسه بالعمل السياسي والعضوية الحزبية (Breines, 1989). يأتي كوربن اليوم ليضع اليسار كمشروع للسلطة، ولمقاومة سياسات التقشف على الأقل، إن لم يكن إحلال سياسة اقتصادية جديدة برمتها.

في سبيل ذلك، يستعيد كوربن في نشاطه أدوات التنظيم والحشد التي لم يعد يعبأ بها الساسة البيروقراطيون عادة. فخلال حملته الانتخابية،تمكن كوربن من حشد الجماهير في مؤتمراته الانتخابية، بما أزعج المحافظين الذين يعلمون أنهم لا يمكن أن يحشدوا على غرارها. كما أن كوربن لم يتراجع عن مواقفه الراديكالية السابقة، كنشاطه في الإضرابات العمالية وضد التسلح النووي وضد الحرب، ودعمه للجيش الجمهوري الأيرلندي، وهجومه على إسرائيل، بل استغل داعموه هجوم الإعلام عليه بخصوص تلك المواقف، لتحويلها إلى مواقف بطولية لصالحه. هذا إلى جانب دعم نجوم شباب كدانيال رادكليف، ودعم من الموسيقى الشبابية (حققت أغنية Liar Liar الموجّهة ضد رئيسة الوزراء تيريزا ماي المركز الرابع في أكثر الأغاني انتشارا في إنجلترا).

اقرأ أيضًا:الانتخابات البريطانية: هل تنقذ موسيقى الغرايم جيرمي كوربن؟


انتخابات 2017

شبح يخيّم على أوروبا

كان أول التحديات التي واجهها كوربن هو استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت – Brexit). كان الاستفتاء مغامرة غير مسئولة وعد بها رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون استجابةً لضغوط المناوئين للاتحاد الأوروبي ولضمان عدم خسارة أصواتهم في الانتخابات العامة 2015. كان البريكسيت في يونيو/حزيران 2016، فرصة استغلها الجناح البرلماني في حزب العمال للإطاحة بكوربن، فلم تكد تمضي 3 أيام على الاستفتاء حتى بدأت الاستقالات من حكومة الظل، وبعد أيام صوّت 172 نائبًا لحجب الثقة عن كوربن. رفض كوربن الاستجابة للانقلاب غير الديمقراطي وسط دعم وتضامن من قادة الاتحادات العمالية، لكن انتخابات جديدة على قيادة الحزب كان لا بد منها بعد هجوم ضارٍ على كوربن من قبل نخب الحزب، ومحاولة لإقصائه عن الترشح لإعادة الانتخاب. لكن قواعد الحزب، والمنضمين حديثًا، مرة أخرى أعادوا كوربن إلى موقعه بنسبة 61.8% في أيلول/سبتمبر 2016 (مقابل 59% في انتخابات الحزب 2015). كانت هزيمة قوية لساسة البيروقراطية، لكنهم لم يكونوا ليستسلموا …

كان لقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي أثر مباشر شديد الوطأة على الظروف المعيشية للمواطن البريطاني، فقد تراجع الاسترليني وزادت نسبة التضخم بعد الاستفتاء، كلاهما بشكل دراماتيكي. أعادت تلك الأوضاع لعبة اليمين واليسار، فالمحافظون يميلون إلى انتهاج سياسة تقشفية بخفض الإنفاق الحكومي، بينما يميل العمال بقيادة كوربن إلى مزيد من تدخل الدولة لتحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطنين.

معدل التراجع في سعر الإسترليني
معدل التراجع في سعر الجنيه الإسترليني بعد البريكسيت
معدل الزيادة في نسبة التضخم في إنجلترا
معدل الزيادة في نسبة التضخم في إنجلترا بعد البريكسيت

هكذا دخل العمال الانتخابات ببرنامج يمكن تلخيصه في أنه محاولة «إزالة آثار التاتشرية» بزيادة الضرائب على الأثرياء، وتأميم قطاعات النقل والطاقة، وزيادة ميزانية نظام الصحة القومي NHS، وتأسيس نظام رعاية قومي في البيوت لكبار السن بالتوازي مع النظام الصحي، والاقتراض لزيادة الاستثمار الحكومي في البنية التحتية، وإلغاء قانون الاتحادات العمالية الذي أقره كاميرون في 2016، وإلغاء رسوم الالتحاق بالجامعة، وخفض سن التصويت إلى 16 سنة. أما بخصوص مفاوضات البريكسيت، فيميل العمال إلى خروج هادئ بمحاولة البقاء في السوق المشتركة وتأمين حقوق الإقامة لمواطني الاتحاد الأوروبي في إنجلترا مقابل الحقوق نفسها لمواطني إنجلترا في الاتحاد الأوروبي.

حقق العمال بهذا البرنامج وبقيادة كوربن أفضل مما كان متوقعًا ضمن كافة استطلاعات الرأي، بعد إعادة العمال إلى اسكتلندا والسيطرة على لندن وويلز، حيث حصلوا على 262 مقعدا بزيادة 30 مقعدًا عما كان لهم في برلمان 2015، مقابل 317 مقعدًا للمحافظين بتراجع 13 معقدًا عن برلمان 2015. وبفارق نحو 800 ألف صوت فحسب بين عدد المصوّتين للحزبين، مقابل فارق نحو مليوني صوت بين الحزبين في 2015.

لا تعطي هذه النتيجة بالطبع حق تشكيل الحكومة للعمال، لكنها وفّرت لكوربن الفرصة للسيطرة على مؤسسة الحزب المتمردة عليه بعد أن حقق لهم أفضل نتيجة يحققها الحزب منذ 2007، وبفضل استراتيجيته تلك المرّة، لا كما زعم صادق خان في مسألة الفوز ببلدية لندن. كما أنها أظهرت زيف الوجه الذي حاولت رئيسة الوزراء من المحافظين تيريزا ماي الظهور به، كسياسية قوية وحازمة وذات رؤية ثاقبة، بما يعني أنها ستكون فريسة سهلة في أية انتخابات قادمة إذا ما واجهت أية خسائر جديدة؛ وهي خسائر محتملَة في ظل مفاوضات شاقة مع الاتحاد الأوروبي. المهمة التي على كوربن الاضطلاع بها اليوم هي تجاوز الضعف التاريخي لليسار الإنجليزي، وإعادة تنظيمه في تيار صلب قادر على الصمود حتى وإن هُزِم كوربن، ووضع برنامج أكثر تمايزا لإنجلترا جديدة بـ «نموذج» جديد؛ نموذج يستطيع إقناع قطاعات طبقية وديموغرافية أكثر.