في وسط زخم أحداث انتشار كورونا وكونه أصبح رسميًا وباءً عالميًا، لابد وأنك سمعت عن قصة بداية انتشار المرض من سوق للمأكولات البحرية في ووهان، وسمعة الصينيين -التي لها أساس ما لكن ليست بنفس قدر شهرتها- أصبحت تسبقهم بعبارة «إنهم يأكلون كل ما هو حي».

والحقيقة هي أن 75٪ من الأوبئة التي دبت الرعب في قلوب البشرية على مدى العصور مثل الطاعون، والإيبولا، والإنفلونزا الأسبانية إنفلونزا الطيور والخنازير وغيرها، هي أمراض نشأت في حيوان ما وانتقلت إلى البشر بطريقة أو بأخرى.

من بين هذه الطرق يتكرر مصدر مشبوه لانفجار عدوى فتاكة يعرف باسم «الأسواق الرطبة»، تلك التي تبيع اللحوم الحية، تُذبح وتقطّع وتباع في آن واحد. هذه الأسواق لا تقتصر فقط على الدواجن والماشية والأسماك، بل يزخر بعضها بكل ما قد يخطر على بالك من كائنات برية ابتداءً من طيور الطاووس، القرود، الفئران، الثعالب، جراء الذئاب، والخنازير البرية إلى التماسيح والخفافيش والضفادع والسلاحف والثعابين وحتى الكوالا!

فيروس من عائلة الكورونا معروف باسم «سارس SARS»، أول ظهور له كان في أسواق جوانجدونج بالصين عام 2002. تَتَبُع أثر الفيروس أدلى إلى انتقاله من الخفافيش إلى حيوان زباد النخيل- متسلق أشجار يشبه القطط- ثم إلى البشر.

قط زباد النخيل، متسلق أشجار يأكل الفواكه والحشرات
في طبق صيني مشهور «Dragon tiger phoenix» تدخل ثلاثة مكونات: الثعبان ويمثل «التنين»، الدجاج ويمثل «العنقاء» وقط زباد النخيل الموجود بالصورة ويمثل «النمر»

كذلك فإن النسخة الجديدة من كورونا HCoV-19، حسب ما نُشر في 17 من مارس الحالي في نيتشر، تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة بالخفافيش والتي قفزت منها بالأحرى إلى حيوانات البانجولين- حيوان حرشفي آكل للنمل- ثم إلى البشر، وهو ما دفع العلماء لتسميته SARS-CoV-2. لكن كيف نجحت فيروسات كورونا وغيرها من تخطي حواجز الفصائل حتى وجدت طريقها للبشر؟!

فيروسات قافزة

الفيروسات ما هي إلا قطعة من الحمض النووي DNA/RNA مغلفة بالبروتين لا تستطيع أن تصمد طويلاً في الهواء الطلق دون أن تجد كائنًا حيًا يحتويها. إذا ما توافقت بروتينات الفيروس مع بروتينات عائل ما، فقد امتلك البطاقة الذهبية للعبور إلى داخل الخلية الحية ليسيطر على آليتها ويضعها رهن إشارته بالتكاثر وإنتاج جيش من المتطفلين لغزو مزيد من الخلايا.

ولكي تقفز الفيروسات من العائل الأصلي (حيوان بري) إلى عائل مختلف (الإنسان)، فهي تواجه الكثير من العواقب بحكم الحواجز الجيوغرافية والسلوكية بين الحيوانات البرية والبشر، إلى جانب وجود اختلافات بيولوجية كبيرة بين العائلين.

لكن الفيروسات تمتلك بطاقة أخرى؛ وهي أن لها معدل طفرات عالٍ يُمّكِنها من التغير بسرعة لتتحور وتتحول إلى سلالة جديدة قد تستطيع إصابة عائل مختلف. ومع هذا، فإن عملية الانتقال بمفردها لا تضمن حدوث العدوى، فقد يفشل الفيروس في التكاثر أو قد تقتله مناعة الشخص وينقرض في سلام.

إلا أن التجارة بالحيوانات البرية تهدم مثل هذه الحواجز، فإن نظرت للأسواق الرطبة ستجد فصائل متنوعة من أماكن متفرقة لم يكن لها أن تجتمع بذاك القرب في بيئاتها الطبيعية، كل يحمل في جعبته تشكيلة مختلفة من الفيروسات، موضوعة في أقفاص مكدسة فوق بعضها البعض يختلط فيها بول الثدييات بلعاب الزواحف لتسقط على ريش الطيور.

هذه الحيوانات تتعرض لضغط شديد بسبب احتجازها وسوء معاملتها من قبل البشر، وقد تكون أيضًا جريحة أو مريضة إثر احتجازها ونقلها، ما يضعف مناعتها ويجعلها فريسة سهلة لأي فيروس متطفل وكذلك مصدر لذرف العدوى. والأسوأ من ذلك، هو أن هذه الأسواق لا تستثني حتى أسوأ الحيوانات سمعة في نشر الأمراض أو ما يطلق عليهم بـ«خزانات العدوى» وعلى رأسها الخفافيش والقوارض والقرود.

وعلى جانب آخر، يجلس بائع يذبح مختلف الحيوانات مستخدمًا السكين ذاته في كل مرة، وتنتشر حوله الدماء والماء والأحشاء، في مشهد لا يوحي باتباع أدنى إجراءات النظافة والسلامة. كل هذا في وسط مدينة تعج بالسكان، يتكرر فيها التعرض المكثف بين الحيوانات البرية مع تلك المستأنسة ومع البشر، لتصبح أشبه بحلبة مجهزة تتيح للفيروسات تجربة القفز من سلالة لأخرى حتى تنال فرصة الارتقاء لفيروس قادر على الانتشار بسرعة وضراوة ليحفر اسم وباء جديد في تاريخ البشرية.

مافيا البرية

لكن الأسواق الرطبة ليست سوى منافذ بيع لتجارة فاحشة لا تنتشر في الصين وحدها بل تمتد جذورها إلى مافيا تتركز في جنوب شرق آسيا، شرق وجنوب أفريقيا، الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، والمكسيك. وتعد تلك رابع أكبر مصدر للمكاسب الإجرامية في العالم، بعد تجارة الأسلحة والمخدرات وعمليات الاتجار بالبشر.

عشرات الآلاف من الأنواع البرية يتم اصطيادها والاتجار بها إما بغرض الأكل، بيعها كحيوانات أليفة، أو لاستخدام أجزائها المختلفة في صناعة الملابس والزخارف ومنتجات الطب التقليدي.

يتهافت على هذه المنتجات شريحة نامية من الطبقة المتوسطة ترى في اقتنائها دليلاً على الثروة والمكانة -نظرًا لندرتها وغلاء أسعارها- وتعتقد في فوائدها كمقويات طبيعية، ومحفزات جنسية، ومكافحات للأمراض، دون وجود أدلة علمية تثبت صحة هذه الادعاءات. ولا تستحي التجارة أن تتضمن حيوانات مهددة بالانقراض ومحمية بقوانين دولية.

مثلث ميكونج الذهبي لتجارة الحيوانات البرية
تمتد التجارة غير القانونية للحياة البرية في جميع أنحاء المنطقة – من الزوايا النائية في ميانمار ولاوس ، إلى الأسواق في بانكوك وهانوي – ولكن مركز ثقلها هو المثلث الذهبي، حيث تلتقي تايلاند وميانمار ولاو الديمقراطية الشعبية والصين.

البانجولين مثلاً -العائل الوسيط لكوفيد-19 كما ذكرنا من قبل- هو أكثر الثدييات التى يتم الاتجار بها عالميًا، إذ يعد لحمه طبقًا شهيًا في فيتنام والصين، ويستخدم جلده لصناعة الأحذية والشنط في أمريكا والمكسيك. كما يستخدم قشره الخارجي بكثرة في الطب الصيني التقليدي لعلاج أمراض مختلفة دون أي سند طبي.

هناك أيضًا نيجيريا التي أصبحت مركزًا للصادرات غير الشرعية من قشور البانجولين إلى الصين، إذ سُجِل هناك حيازة شحنة من 77 طن من القشور أي ما يعادل 214 ألف حيوان بانجولين. في حين أن عقوبة صيد أو بيع الحيوان تساوي فقط 2.7 دولار لأول جُنحة.

آكل النمل البنغولي
البانغولين هو أكثر الحيوانات التي يتم الإتجار بها في العالم وهو معرض لخطر الإنقراض

وفي الصين وفيتنام، تزدهر مزارع ترعى النمور كالماشية للحصول على جلودها لصنع سجادة فخارة، أو عظامها التي يُصدق بفوائدها الطبية في علاج الروماتيزم والعقم، ومزارع أخرى لجمع سائل مرارة الدببة، وقرون وحيد القرن.

وعلى الرغم من أن هذه المزارع شرعية في ظاهرها بفضل قانون مراوغ لحماية الحياة البرية بالصين يتيح «تنظيم استغلال الحياة البرية وتربيتها في الأسر»، فهي في باطنها غطاء على تجارة غير شرعية تسمح بصيد وقتل الحيوانات البرية وإدخالها تحت ظل «الشرعية». فيصعب رصدها والتحكم بها من قبل السلطات، تمامًا كما يحدث في غسيل الأموال.

وتستمر هذه التجارة في الازدهار تحت قناع الحفاظ على البيئة وحفظ تراث الصين من الطب التقليدي وتخفيف الفقر، في حين أن هدفها الخفي هو الربح وكسب المال. وقد قدر تقرير صادر عن الأكاديمية الصينية للهندسة عام 2017 تجارة تربية الأحياء البرية بمبلغ 57 مليار جنيه إسترليني.

إنه إذن مزيج من السلطات الفاسدة، القوانين المرتخية، والعقوبات الضعيفة ما يسمح لهذه الشبكات الإجرامية بالنمو لتهدد التنوع الحيوي، الصحة العامة، الاقتصاد العالمي والأمن القومي.

دروس لم نتعلمها

أحد الدروس الرئيسية من مرض السارس هو أن الجذور الأساسية للأمراض حيوانية المنشأ الناشئة حديثًا قد تكمن في أزمة التنوع البيولوجي الموازية والفقدان الضخم للأنواع نتيجة الاستغلال المفرط لأعداد الحيوانات البرية وتدمير موائلها الطبيعية بواسطة أعداد البشر المتزايدة.
الجمعية الملكية للنشر، يوليو 2004

عندما تفشى مرض السارس في عام 2003، وأدى إلى إصابة أكثر من 8000 شخص ووفاة ما يقارب 800 شخص حول العالم، اضطرت الصين إلى غلق الأسواق وإعدام آلاف الحيوانات لاسيما حيوانات زباد النخيل المشتبهة بنقل المرض، مع فرض عقوبات وغرامات على من يقوم ببيعها أو إطلاقها.

لكن في غضون عام من احتواء الكارثة وتحت ضغط اقتصادي، بدأت القوانين بالارتخاء وتم رفع الحظر على بيع واستهلاك الحيوانات البرية لتعود لحومها إلى قوائم المطاعم وتعود الأسواق لما كانت عليه وكأن شيئًا لم يكن.

وعلى الرغم من تحذيرات مستمرة في العديد من الأوراق العلمية وإلحاح من العلماء الصينيين بفرض حظر دائم خوفًا من اندلاع جائحة جديدة، تستمر السلطات في تجاهل الأمر ليتكرر السيناريو ذاته في ديسمبر 2019 وينتشر فيروس كورونا جديد. وتهرع السلطات الصينية مجددًا إلى حظر تجارة الحيوانات البرية في الأسواق والمطاعم ومنافذ البيع الإلكترونية مؤقتًا، إلى جانب إغلاق وحجر ما يقارب 20 ألف مزرعة للحيوانات البرية في 7 مقاطعات.

وأخيرًا في 24 من فبراير الماضي، تصدر اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب (السلطة التشريعية العليا بالصين) قرارات تقضي بحظر شامل للتجارة غير الشرعية بالحياة البرية متضمنة الصيد والنقل والاتجار، والقضاء على عادات الشعب السيئة بتناول الحيوانات البرية.

خطوة إيجابية ولكن

تعلق جمعية المحافظة على الحياة البرية (WSC) على قرار الحكومة الصينية بأنه خطوة إيجابية وفي غاية الأهمية للحد من تفشي COVID-19 ومنع المخاطر المستقبلية المماثلة، إلا أنها لم تحظر تجارة الأحياء البرية للاستخدامات غير الغذائية (مثل: الطب الصيني التقليدي، صناعة الفراء، حدائق الحيوان، البحوث الطبية الحيوية، أو كحيوانات أليفة). هذا يترك ثغرة تسمح للتجارة السوداء بأن تستمر وتعسر من تطبيق القانون.

ما لم يكن هناك إجراءات صارمة مصاغة بشفافية دون مواقع غموض أو التباس فيما يتعلق باستغلال الحيوانات البرية في أغراض غير الغذاء، ستستمر الأنشطة غير الشرعية في الاتجار بكائنات البرية بحجة «الطب التقليدي» لينقرض ما ينقرض ولتَضرِب بجهود حماية البيئة والصحة العامة عرض الحائط.

يتعين على الصين أن تختار بين المصالح الضيقة لرجال أعمال الحياة البرية والمصلحة الوطنية للصحة العامة. لا يمكن أن يُسمح لأقلية من تجار الحياة البرية وعشاق الطعام الغريب باختطاف المصلحة العامة للأمة بأكملها.
بيتر جي لي

وعلى الجانب الآخر، يظن البعض أن حظر التجارة بشكل كامل ومفاجئ دون تقديم حلول بديلة سيظلم أصحاب المزارع والتجار ممن يتبعون القانون، فيتعرضون لخسائر فادحة أو يصابون بالإفلاس. ومن المحتمل أيضًا أن يدفع بالتجار إلى التجارة في الخفاء دون أي رقابة من الحكومة، وهو ما قد يضعنا في وضع أكثر خطورة.

وهنا يأتي دور التثقيف وتغيير المعتقدات الراسخة في عقول الشعوب لتغيير ثقافة استغلال الحيوانات البرية تدريجيًا نحو حمايتها بدلاً من استنفادها. إنها معادلة بسيطة؛ ما لم يوجد طلب على سلعة ما، فإن التاجر سيفقد اهتمامه بترويجها. ومن الجدير بالذكر هنا أنه ليس كل الصينيين يمتلكون شهية للأنواع الغريبة.

فقد وجد استطلاع عام 2014، ضم أكثر من ألف شخص في خمس مدن صينية، ممارسات مختلفة جذريًا في أجزاء مختلفة من البلاد. في قوانغتشو، كان 83٪ من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم قد أكلوا حيوانات برية في العام السابق. أما في شنغهاي، كانت 14% وفي بكين 5% فقط. على الصعيد الوطني، قال أكثر من نصف المجيبين إنه لا ينبغي تناول الحيوانات البرية على الإطلاق.

وبعد كارثة كوفيد-19، يشير استطلاع آخر من مركز جامعة بكينج لمجتمع الطبيعة بين 28 يناير و14 فبراير، والذي جذب 100 ألف مشارك، بأن حوالي 97% يعارضون استهلاك الحيوانات البرية و 79% يعارضون استخدام منتجات الحيوانات البرية مثل الفرو والعظام، لذا فإن رفع الوعي قد يثمر في التغلب على تلك العادات.

وبعيدًا عن الصين، فإن الأحداث التي نعيشها جميعًا الآن ربما تكون فرصة لنعيد تقييم علاقتنا بالطبيعة والحياة البرية. فهل ستكون هذه الصحوة إثر ضربة كوفيد-19 فرصة لإسقاط هذه التجارة، أم أننا سننسى مجددًا بمجرد استقرار الأمور ونعود لاستنزاف مجنون يضع حياة أحياء الأرض- بما فيها أنفسنا- على المحك.