إذا كنت رجل أعمال وتريد الحصول على مناقصة تابعة للدولة، فليس هناك داع أن تُقدّم أقل سعر. وإذا كنت تريد الاستحواذ على شركة منافسة، فلا يجب عليك أن تقدم لها عرضًا مُغريًا. الوصفة السحرية في روسيا هي الإسناد المُباشر بأمر أحد رجالات الدولة. ولتحصل على ذلك الأمر، إما أن تكون أنت رجل الدولة أو تدفع رشوة لرجل الدولة أو تملك فضائح تبتزه بها.

شهران متواصلان، آلاف الروس في الشوارع، وقوات مكافحة الشغب لا ترحم. أعدادٌ غير مسبوقة اعتُقلت، وهراوات الجنود تركت أثرها على آلاف أخرى. السبب هو تعسف سلطات مدينة موسكو ضد مرشحي المعارضة. لم تتكلف السلطات عناء التزوير، بل منعت أي معارض من المشاركة في الانتخابات البلدية. لم يكن منع المعارضين  السبب الوحيد، بل القطرة التي طفح منها الكيل.

 الكيل الذي تملؤه السلطات الروسية بلا هوادة منذ عقود تمتد إلى زمن انهيار الاتحاد السوفيتي. فالاحتجاجات باتت أمرًا معتادًا في روسيا، لكن كل حين تحدث ذروة تلفت الأنظار إليها. مثلما حدث عام  2011 حين انتفض الروس لإيقاف محاولات التزوير في انتخابات حزب روسيا المتحدة الحاكم. التزوير الذي لو تم لأعاد بوتين لرئاسة روسيا عام 2012.

جذوة المظاهرات مشتعلة دائمًا لأن أسبابها لا تختفي. ويكثر المتظاهرون لأن سببًا واحدًا يجمعهم، الفساد. جعلهم الفساد المستشري في جسد الدولة الروسية يتسامون على اختلافاتهم الأيديولوجية والسياسية من أجل القضاء عليه. في سبيل إجهاض  تلك المحاولات سُجن قادة المعارضة، ونُفي آخرون، واغتال بوتين آخرين. الناجي الوحيد كان أليكسي نافالني. استخدم نافالني كل ما طالته يده من وسائل العصر الحديث، قناة يوتيوب، حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، والمدّونات. خسر نافالني معركته في الانتخابات ضد بوتين، لكن بقي أثر الفضائح التي كشفها. تجمعت تلك الفضائح حول نفس السبب، الفساد. لكن اتخذ الفساد شكلًا مختلفًا عبر إثراء طبقة معينة من الأشخاص المتعاملين مع الجهات الحكومية.

مؤتمر للرد

قوات مكافحة الشغب تقمع مظاهرات في العاضمة الروسية موسكو احتجاجًا على الفساد المنتشر في البلاد.

أمام صراخ مواقع التواصل الاجتماعي وهتافات المتظاهرين وجب على النظام أن يرد. اختار بوتين أن يكون الرد في جلسته السنوية مع الشعب. في اللقاء التلفزيوني السنوي يُجيب الرئيس على أسئلة الشعب. ضمن المداخلات المُختارة بعناية مداخلة تم وضعها بعناية أيضًا لتفتح الباب أما بوتين للحديث عن الفساد. الأمر أكبر من الإنكار، لذا غير بوتين استراتيجيته واعترف بوجود الفساد. لكنّه أضاف أن هذا الفساد في تناقص، والسبب جهوده المتواصلة الصارمة في محاربة الفساد.

السجل الرسمي للدولة يُظهر كفاح بوتين ضد الفساد. في ديسمبر/ كانون الأول 2017 تم الحكم على وزير الاقتصاد بالسجن 8 سنوات بتهمة الرشوة. كما سبقه وزير الدفاع ناتولي سيرديوكوف، المُقال عام 2012 بتهم تتعلق بالفساد. المُفترض أن تظهر تلك الحوادث حجم الجهد المبذول في مكافحة الفساد، لكنّها أظهرت حجم تغلغل الفساد في الدولة. كما أن تتبع مصائر الشخصيات العامة المُقالة يظهر أن الإقالات كانت استعراضًا فقط. بعد عام واحد فقط من إقالته حصل وزير الدفاع على وظيفة مرموقة. في شركة الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة المملوكة رسميًا للدولة.

إضافةً إلى أن معظم التحركات التي تمت تحت شعار مكافحة الفساد كانت للمصادفة العجيبة قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية. حكم بالحبس لمدة 8 سنوات بحق محافظ مقاطعة كيروف السابق. وحكم آخر بالسجن 13 سنة بحق محافظ مقاطعة ساخالين السابق. بجانب اعتقال عدد من  المسؤولين الكبار في داغستان شمال القوقاز. لكنها كانت في أوائل مارس/ آذار 2018. الشهر الذي يجب أن تجري الانتخابات الرئاسية في الثامن عشر منه. الانتخابات أسفرت عن نجاح بوتين كالمتوقع، لكن ليس لحملته الدعائية ضد الفساد. فالشعب يُدرك أن النظام بأكمله قائم على الفساد. وإذا تمت مداهمة أي مسئول أكبر من المحافظ فستجد الدولة مبالغ أكبر من 16 مليون دولار التي وُجدت نقدًا في مكتب محافظ ساخالين.

فإذا دققنا النظر سنجد العديد من تحقيقات الفساد التي أُجريت كانت سلاحًا من أسلحة الفساد. طريقة يزيح بها أحد الفاسدين الكبار فاسدًا أصغر من طريقه. فالعزل بتهمة الفساد في روسيا ليس غرضه التأديب بل وسيلة من أجل فساد أكبر. كذلك تبدو حملات الإعلام الروسي متهاونة عند الحديث عن الفساد في الدولة. فدائمًا ما تعتبره شيئًا ثانويًا ستكون الأحوال أفضل دونه، لكن وجوده لا يؤثر بالصورة التي يتخيلها الشعب. رغم أن واقع الدولة الروسية عبر تاريخها يؤكد أن الفساد جزء أصيل فيها. فلم ينتج من جشع بوتين فحسب أو استغلال أصدقائه المُقربين لمناصبهم.

معًا لنشر الفساد

بلغ الفساد في روسيا رقمًا قياسيًا لم يصله من قبل، فإلي درجة تُعتبر روسيا دولة فاسدة؟

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عَمد الساسة إلى عدم وضع قوانين واضحة وحاسمة فيما يتعلق بالفساد واستغلال المناصب. فنرى بوريس بيريزوفسكي، ينتقل من بيع أجهزة الحاسوب لامتلاك سلسلة من البنوك الخاصة وشركة نفط وصحيفة قومية ومحطة التلفزيون الوطنية الرسمية. الرجل الذي اتهمته روسيا لاحقًا ومعها فرنسا والبرازيل بالفساد. لكن لم ترد السلطات القبض ففر إلى لندن وبقي فيها حتى تُوفي عام 2013، أُشيع أنه انتحر.

لم يكن هو الوحيد الذي أضحى في عدة سنوات المتحكم في قطاعات حيويّة في الدولة. فعلى رأس أولويات حكومة يلتسين كان تفكيك الاقتصاد السوفيتي وتحويله لاقتصاد يتحكم فيه الأفراد. فبدأت عملية موسعة لخصخصة أصول الدولة. الصورة الأولى كانت منح المواطنين العاديين حصصًا في تلك الشركات. لكن تحوّل الأمر لاحقًا إلى الخصخصة بالأمر المباشر ونقل الملكية لفردٍ مُحدد. الخصخصة بالأمر المباشر خلقت طبقةً جديدةً قليلة العدد فاحشة الثراء. يتقاطع أفراد تلك الطبقة في صلاتهم بمسئولي الدولة، أكثر ما يتقاطعون في ذكائهم أو قدرتهم على كسب أموالهم بطرق مشروعة.

أتى بوتين عام 2000 بوعود شديدة بتصفية تلك الطبقة، وأن انحيازه للشعب. لكن لم يزد في هذا الصدد على تلك التصريحات. بل العكس تمامًا، ساعد بوتين في وضع الثروة في يد فئة أضيق من السابق. الفئة الجديدة في عهد بوتين صارت أقل لا لمحاربته الإثراء غير المُبرر، لكن لأنه جعله حكرًا على من يعملون مع الدولة أو في الدولة. لم يكن في روسيا ثري يستطيع أن يحتل مرتبةً في تقييم فوربس لأثرياء العالم. صفر ملياردير روسي  تحول إلى 82 ملياردير في ولايته الثانية فحسب. وبعد ولاياته المتعاقبة على الحكم وصل الرقم إلى 98 مليارديرًا في قائمة الأغنى عالميًا. دون أن تعكس تلك الزيادة ارتفاعًا في مستوى دخل المواطن العادي ولا حتى زيادةً في أرقام الاقتصاد العام للدولة. بل شهدت روسيا تباطؤًا في اقتصادها بسبب العقوبات الغربية عليها خاصةً بعد ضم شبه جزيرة القرم.

الفساد هو الدولة

لم تعد الدولة تعرف حدودًا بين العام والخاص. ليس لأن الدولة سيطرت على القطاع الخاص، أو لأن أفرادًا بعينهم سيطروا على القطاع العام، لكن هو نتاج تشابك وتقاطع الاثنين. فلم يعد الفساد ورمًا خبيثًا ينمو دون إرادة الدولة، بل صار نسيجًا طبيعيًا ومألوفًا من جسد الدولة.

إذا كانت روسيا رقم 131 من ضمن 176 دولة على مؤشر الفساد فذلك يعني أن الأمر أكبر من عدة حوادث فردية. قبل بوتين كانت روسيا تحتل المرتبة 90 في مؤشر الفساد، لكن في عامه الأول هبطت إلى 126، هبطت 36 مركزًا في عامٍ واحد. ولا يظن أكثر المحللين تفاؤلًا أن هناك قاعًا معينًا ستصل إليه روسيا وتقرر التوقف عنده. فالفساد مستمر باستمرار بوتين، وربما يستمر بعد رحيله أيضًا.

صرخات الشعب ومظاهرات مواقع التواصل الاجتماعي هى من تبطئ سرعته قليلًا، وتدفع الدولة لبذل جهدٍ أكبر في محاولات التجمل وإخفائه عن الشعب. حتى الآن يعتمد القيصر على قبضته الأمنية الخانقة في قطع كل لسان يتساءل حول فساد الدولة. لا بد أن تترخى تلك القبضة في لحظةٍ ما، حينها سيكون رد الفعل الشعبي مساويًا في قوته لقوة القمع التي تعرض لها على مدار سنوات طويلة. لكن سيكون موجهًا في الاتجاه المعاكس على الشرطة أولًا، وعلى الرئيس شخصيًا، وكل قياصرة الدولة الذين سرقوا حق الشعب في حياة كريمة لسنواتٍ طويلة.