دائمًا ما نرى الوجه المشرق للفنون، نشاهد الأعمال بعد انتهائها، فنُقدِّر مدى روعتها وإبداع صانعها، ونغفل عن فكرة أن خلف أغلب تلك الأعمال الفنية معاناة عاشها ذلك الفنان المُعذَّب.

قال الفيلسوف «فريدريك نيتشه»: «لقد اخترعنا الفن كي لا نموت من الحقيقة»، ذلك أن مجالات الفنون المختلفة تزخر بأسماء فنانين كانت لدى كل منهم معاناته الخاصة مع الحياة.

هل يتلازم الإبداع والألم النفسي؟

قد يخرج العمل الفني من قلب المعاناة، كـ تعبير عن الشعور بالألم أو محاولة من الفنان لتغيير ذلك الواقع التعيس، كأن يواجه الفنان واقعًا مؤلمًا يصعب عليه تغييره، ويصعب عليه أيضًا أن يحياه، فيبدأ في نسج ذلك العالم الآخر الذي يهرب إليه، ربما بريشته وألوانه، أو بقلمه وأوراقه، أو بآلته الموسيقية، فنجد الكثير من مشاهير الفنون المختلفة قد عانوا من الاكتئاب أو التوتر والقلق في مشوار حياتهم الفني.

كما أن بعض الدراسات ترى أن الاكتئاب يُعزِّز العمل الإبداعي، إذ إن الأشخاص التعساء هم الأكثر إصابة بداء التفكير والتأمل، إما بشأن مشكلاتهم الحياتية، أو بشأن قلقهم من المستقبل، أو سخطهم على واقع حياتهم. كل تلك الأفكار تجعلهم يتعمقون في التفكير عن غيرهم من البشر العاديين. وتوغلهم في ذواتهم وتعمقهم فيها يمدهم بتلك الأفكار المختلفة التي تضفي على أعمالهم تلك القدرة على الإدهاش.

فتكون تلك التعاسة هي نافذة الفن، فالفنان يبذل قلبه وعقله ومتاعبه في سبيل إخراج عمل فني للآخرين، فيكون ألمه النفسي هنا مزية ودرجة عالية من العبقرية، وضريبة تميزه هذا أن يحيا غريبًا بين الناس، فيشعر بالوحدة التي تضاعف من كآبته والتي بدورها تزيد من إبداعه.

والأمثلة كثيرة: «فينسنت فان جوخ»، ذلك الفنان الذي أحب العالم ولم يبادله العالم الحب ذاته فقرر أن يغادر نحو الربيع، أحب فان جوخ الطبيعة والبساطة والفقراء وظهر ذلك في لوحاته التي رسمها ولم يُعِرها أحد انتباهًا، ولكن حوّله الشعور بالرفض بعد أن فشلت قصة حبه ونبذ الكنيسة له، إلى شخص تعيس بائس منعزل لا يتحكم في غضبه إلى حد أنه جرح أذنه بموس حلاقة أثناء شجاره مع أحد أصدقائه.

كان قد رسم لوحته الشهيرة The starry night في المصحة النفسية، ولم تلق لوحاته رواجًا طيلة حياته مما زاد شعوره بالرفض والكآبة، ويُقال إنهم وجدوا رسالة بعد موته إثر إصابته بطلقة نارية يقول فيها: «لقد أطلقت النار على نفسي، أرجو ألا أكون فشلت في ذلك أيضًا»، وبعد وفاته نشرت زوجة أخيه لوحاته ورسائله التعيسة التي كان يرسلها لأخيه، ليعرف العالم قصته ويُقدِّر فنه بعد أن رحل.

وفي قصة أخرى نجد الروائي الشهير «فرانز كافكا» رائد الكتابة الكابوسية، الذي كان يعاني منذ الصغر من توتر علاقته بأبويه، وقد كان الصبي الوحيد لثلاث بنات في عائلته، بعد وفاة أخويه في صغره، وكان أبوه حادًا ومستبدًا إلى حدٍ كبير، قليل التقدير لموهبة ابنه في الكتابة ورافضًا توجهه لمجال الأدب، وقد تحدث كافكا عن علاقته بأبيه في روايته The Trail، التي تتحدث عمّا يعرف بـ جنون العظمة Paranoia.

وكان كافكا يخشى نشر كتاباته طيلة حياته لما كان يشعر به من توتر ورهبة بسبب والده، وقد عانى من الاكتئاب والتعاسة حتى وفاته بمرض السل في النمسا، ولم تنشر أهم أعماله سوى بعد وفاته، والتي كانت أغلبها تعكس شخصيته التي يغلب عليها اليأس والوحدة، فكانت معظم كتابته تدور موضوعاتها حول الاغتراب الاجتماعي، والقلق، والذعر، والعبثية، وكانت أشهر كتاباته رسائله إلى محبوبته «ميلينا» ولكنه ظل مترددًا سوداويًا في قصة حبه أيضًا، حيث يقول لها في إحدى رسائله: «أخاف الأشياء التي تلامس قلبي يا ميلينا، لذا أهرب منها دائمًا، وأهرب منكِ». كان كافكا فنانًا آخر معذبًا، جل ما عاناه هو صعوبة تأقلمه مع العالم، وشعوره بالغربة وسط الآخرين، هو وغيره في مجالات الإبداع الأخرى.

وكثيرًا ما ربط المفكرون والفلاسفة بين العبقرية واضطرابات الشخصية، فيقول أفلاطون: «العباقرة يغضبون بسرعة ويخرجون عن طورهم»، وشاع في تلك الفترة وجود علاقة ما بين العبقرية والجنون، فيقول الفيلسوف بيرن «نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين».

 وشاع كثير من أسماء العباقرة الذين عُرفوا بالتوحد وغرابة السلوك وربما عانى بعضهم من الاكتئاب، أمثال «نيتشه»، الفيلسوف الشهير الذي وصفه البعض بالجنون، والملحن العالمي «بيتهوفن»، الذي أصيب باضطرابات نفسية شديدة سبّبت له الحزن والتعاسة، والروائي الشهير «تشارلز ديكنز»، الذي عُرف بتصرفاته المريبة، فكان يدخل منازل أصدقائه من نوافذها لمفاجأتهم، وغيرهم الكثير ربما نعرف أسماءهم أو منْ لم تصل إلينا قصتهم من غير المشاهير.

واختلف تعامل الفنانين المعذبين تحت وطأة المرض النفسي مع آلامهم، فمنهم منْ حاول السيطرة على اضطرابه هذا ومحاربته بفنه وإنتاجه الإبداعي واستثماره في أعماله الفنية، فحوّله من سبب للتعاسة لسبب للتميز والشهرة، ومنهم منْ تركه ليتمكن منه ويقوده للجنون.

هل كل عبقري مريض نفسي؟

تشير بعض الأبحاث في علم النفس إلى أنه ليس كل العباقرة أو المبدعين مرضى نفسيين بالضرورة، فالشخص المبدع أكثر عُرضة من غيره للمرض النفسي والاكتئاب، ذلك أنه أكثر حساسية، وأكثر تفكيرًا وتحليلًا للأمور، كما أن تميزه ذلك يقوده للغرابة بعض الأحيان. فإن لم يجد الشخص العبقري البيئة الملائمة لتقبل أفكاره -التي قد تبدو أحيانًا مختلفة بعض الشيء- قد يصيبه ذلك بالإحباط والتعاسة، ممّا يُعرّضه للألم النفسي والسخط على المجتمع، وربما على النفس، وأكثر ما قد يساهم في ذلك هو تقييد حريته والسطوة على تفكيره.

وقد يزيد الاكتئاب من إنتاجه الإبداعي في محاولة لإخراج الكبت والثورة على المألوف، ولكنه لا يخلق الإبداع من عدم، فتجد في كل قصص المبدعين الذين أصابتهم الكآبة أسبابًا مجتمعية أدت بهم إلى تلك المأساة، فهل تتوقف المجتمعات عن نبذ المُبدع لاختلافه، أم أنه لن ينتهي البؤس أبدًا؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.