قراءة رواية الجريمة والعقاب يُشبه التعرض للضرب المُبرح من «محمد علي كلاي» لمدة نصف ساعة متواصلة.
جورد بيترسون، عالم نفس ومفكر كندي.

هذا أبلغ ما قُيل في وصف الرواية الأشهر عالميًّا، حيث إن ديستوفيسكي غاص في أعماق النفس البشرية مثلما لم يفعل أي كاتب آخر، وهو منْ تم تصنيفه على أنه أفضل أديب بعد شكسبير، والبعض يرفعه فوق مكانة شكسبير.

ديستوفيسكي في روايته «الجريمة والعقاب» لا يقدم فقط دراسة لنفسية المجرم وتعاطيها مع الجريمة من بداية نشوء الفكرة حتى مرحلة تنفيذ العقاب، لكنه يُقدم نقدًا مُبكرًا للنظام الاشتراكي -الشيوعي لاحقًا- ودراسة لبدايات ظهور الجيل الضائع، جيل تصدَّر المشهد بعدها بثلاثين عامًا، نظرة على الثقافة الطبية المُنتشرة آنذاك، والأهم فلسفيات الجريمة، وإسقاطها على نظرة المجتمع للشر في العموم، وموقف فكرة الإيمان من عدمها، من كل هذا.

ديستوفيسكي يُجبرك على إعادة النظر في جل قناعاتك، يهز الثوابت أمام ناظريك؛ لتعيد بناءها مرة أخرى بشكل مُستقل عن فروض المجتمع وتابوهاته، استخدامه لفكرة الراوي المُطلع على خبايا الشخصيات كلها -وخصوصًا بطلنا المُجرم راسكولنيكوف- سهل الوصول لأعمق أفكار ديستوفيسكي، السرد المُسهب قد يصيبك بالسأم في البداية؛ إلا أنه يؤتي ثماره بعد حين.

هنا نقرأ خبايا رواية «الجريمة والعقاب»، ونعيد تسطير المشهد على هيئة أفكار لا أحداث.

نقد النظام الاشتراكي

يقول ديستوفيسكي على لسان أحد شخصياته، مُتحدثًا عن أفكار الاشتراكيين حول الجريمة والمجتمع: «الإنسانية ستصل من تلقاء ذاتها، بتطور تاريخي حي، إلى أن تصبح مجتمعًا سليمًا». هنا الاشتراكية تُقدِّم نفسها على أنها المساق الطبيعي للتطور التاريخي، الملاذ الآمن للوصول لمجتمع اليوتوبيا -على افتراض إمكانية تحقيقه من الأساس- وبداخل الرواية يُسقط الاشتراكيون وزر الجريمة على المجتمع؛ إعمالًا للفكرة السابقة.

الحقيقة أن للبيئة دخلًا في نشوء الجريمة وتطورها، لكنها ليست المُسبِّب الوحيد، كما ادعى الاشتراكيون آنذاك، لا يمكن تجاهل الإرادة البشرية، ولا نزعة الشر داخل البشر منذ بدء الخليقة. كما أن الاشتراكية حينما تصدرت المشهد في روسيا، في صورتها الأكثر تطرفًا، تصدرت معها جرائم العنف والتنكيل والقتل، وبالتالي هدم ديستوفيسكي الفكرة في نقاش أبطاله قبل أن تُوضع حيز التجربة، نرى من هذا أن أي أيديولوجية تقدم نفسها على أنها الحل السحري لجميع الجرائم تسيء لنفسها أولًا، وللمجتمع ثانيًا، بالكذب والتدليس؛ لأنك لو أردت أن تُخلِّص البشر من الجرائم، عليك تخليصهم من إنسانيتهم أولًا.

الجيل الضائع

يوجد العديد من الأجيال الضائعة في التاريخ الحديث، أشهرهم منْ بلغوا سن الرشد إبان الحرب العالمية الأولى، لكن منهم أيضًا منْ عاشوا في روسيا القيصرية أواخر القرن التاسع عشر، جيل عانى من الانحلال الأخلاقي، التفسخ المجتمعي، وانعدام الرغبة في العمل بل الحياة بوجه عام.

هذا الجيل كان بطل تشيخوف الأول بصفته مُعاصره، وفي «الجريمة والعقاب» يعود بنا ديستوفيسكي للفترة السابقة لتصدره، قرأه ديستوفيسكي مبكرًا -كالعادة- وسرد العوامل التي أدت لظهوره، وهي:

  • سيطرة الكنيسة الأرثوذكسية المطلقة مع تشددها وفسادها في الوقت ذاته، مما أفقدها مكانتها بين الناس بسبب كونها حملًا عليهم وعقبة في طريقهم في الآن ذاته.
  • فساد النخبة الحاكمة، وانفصالها التام عن الشعب واحتياجاته، وتحول النظام ليكون العدو الخفي للشعب بأكمله.
  • الفقر المدقع مع تفشي الأمراض والأوبئة.

كلها أمور أدت لتفشي الإلحاد، وانهيار المنظومة الأخلاقية في روسيا القيصرية، وبعدها تصدر جيل لا يؤمن بشيء، ولا يُبقي على شيء. حتى حينما تعلقوا بالقضايا العامة، كان الغرض الأول هو مصالحهم الشخصية، كما قال عنهم ديستوفيسكي، ولم يكونوا تصدروا المشهد بالكامل بعد:

إن الذين تعلقوا بالقضايا العامة قد بلغوا من فرط الكثرة والتنوع، وبلغوا من شدة إفساد كل ما لمسوه، في سبيل مصلحتهم، أنهم وسَّخوا كل شيء توسيخًا لا خلاص منه، ولا يمكن محوه.

إعلان موت الإله

الفكرة التي أعلنها نيتشه بلا مواربة، والتي ترزح تحت ثقلها الحضارة الغربية الآن، عانت منها روسيا القيصرية طويلًا، ومع موت الإله يأتي جنون الإنسان، لا يمكن للبشر تحمل السيولة الأخلاقية في حالتها القصوى، كذلك يحدث انهيار للنسيج المجتمعي، ومعها يفقد رجال الدين سلطتهم بالكلية، ما مهَّد الطريق لظهور نظام شيوعي مُلحد مُرحَّب به -في البداية- من عامة الشعب.

هذه الفكرة تصورها ديستوفيسكي هنا في صورة جنون لأسباب مادية لا فكرية، مع كون النزعة الفكرية واضحة للقارئ المُمحِّص أيضًا، وقال عنها: «كل واحد يؤمن بأنه الإنسان الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، أصبح الناس لا يستطيعون تحديد الخير والشر، لا يستطيعون أن يدينوا ولا أن يبرئوا». طبيعي أن تغيب البوصلة مع غياب الدين الذي يغيب بالضرورة مع موت الإله، الغريب في الأمر أن ديستوفيسكي تصوَّر حالة الجنون هذه مصاحبةً لتفشي مرض غامض من شرق آسيا يجتاح العالم!

من يحدد مفهوم الجريمة؟ ومن له سلطة المحاسبة؟

يقول راسكولنيكوف، أحد أبطال الرواية:

كثير من العظماء الذين أحسنوا إلى الإنسانية، ولم يكونوا قد ورثوا السلطة وراثة، وإنما استولوا عليها استيلاءً، وبالتالي كان ينبغي أن تُقطع رءوسهم منذ خطوا خطواتهم الأولى، إن الفرق الوحيد بين هؤلاء وبيني، هو أنهم قد احتملوا ثقل أفعالهم.

ويقصد بذلك أن الحظ حالفهم، واستطاعوا بيع منطقهم للجمهور، إما بطريقة دينية أو ذات طابع عمومي. فالجريمة الخاصة لا تُغتفر، إنما الجرائم العامة تكون الجماهير أكثر تهاونًا معها.

كبرياء راسكولنيكوف واعتزازه بنفسه مع ضعف توجهاته الدينية صوَّروا له إمكانية أن يصبح أحد عظماء التاريخ هؤلاء، وأعتقد أن بواباته هي أموال العجوز المرابية؛ إلا أنه وقع تحت ثقل جريمته، مما حدا به للذهاب للشرطة طوع إرادته، الجريمة لا تُناسب منْ لهم ميول أدبية، ولا مُفرطي الحساسية، ولا منْ يبالغوا في ردود أفعالهم، هؤلاء -وإن اقتنعت عقولهم بمبررات الجريمة- تظل ثقيلة على نفوسهم.

انعكاسات أفكار المجتمع

«الجنون المؤقت» هو وصف الحالة التي خففت الحكم عن القاتل.

وصف الوسواس القهري على أنه مرض الفكرة الثابتة.

توصيف مرض راسكولنيكوف على إن سببه هو الهموم والمخاوف وبعض الأفكار وقذارة بيئة المعيشة وضعف التغذية.

كلها أفكار طبية كانت مسيطرة على المجتمع آنذاك، نُلاحظ بها خلطًا واضحًا بين الأمراض العضوية والنفسية، صحيح هناك تداخلات كبيرة، لكن ليس بهذه الصورة المُفرطة، كما كانت تُسيطر أفكار غريبة عن طبائع المرض وطرق العلاج بالبيرة والشاي على سبيل المثال.

أما عن النهاية، فكانت بعودة راسكولنيكوف لحظيرة الرب بفعل قوة القبول غير المشروط والحب اللذين أمدته بهما سونيا، العاهرة السابقة. وكان راسكولنيكوف من بدأ بالقبول غير المشروط.

نرى في النهاية باب أمل لإعادة وضع الدين حيز الحسبان -وهو ما لم يحدث إلا بعد أكثر من مائة عام- وتأثرًا واضحًا بالطابع الروائي العام في القرن الـ 19، حينما سيطرت النهايات السعيدة المبشرة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.