واحد من أكثر ماركسيي القرن – من غير السوفيت- أصالة وإثارة.
دليل أكسفورد للفلسفة معرّفًا بهربرت ماركوز

قرابة أربعين عامًا، منذ وفاته وحتى اليوم، لم تكن كافية لإعلان انتهاء صلاحية أفكار الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز لمقاومة الإنسان والمجتمعات للقمع السياسي والتطويع التكنولوجي. وحتى وإن كان البعض يرى أن تسارع التغيرات والتفاعلات في عالم التقنية والسُلطة وطبقات المجتمعات يسوّغ تجاوز بعض مقولات ماركوز، إلا أن شمولية وتركيز مجهود ماركوز في تقديم التأملات النقدية والأسئلة المحورية والإجابات الجوهرية، يُبقي على صلاحيةٍ نسبيةٍ لأفكاره ومقولاته ومعالجاته، حتى ولو لبعد حين. خاصةً وأن ما كان راهنًا من الأوضاع حينها، لم يعُد راهنًا، وإنما صار ممتدًا ومتسرطِنًا على نحو أو آخر حتى اليوم، وكأنه ذلك «الحاضر السرمديّ» الذي حذّر منه ماركوز بشكلٍ عابر.


النقد الواعي باعتباره فِعلَ مُقاومة

الحقّ أن التحليل النقدي المواجه للأوضاع المتناقضة، ما يزال يَعتبر التغيرَ الاجتماعي ضروريًا وملحًّا أكثر من أي وقت مضى […] للمجتمع في مجموعه ولكلّ عضوٍ من أعضائه، فالإنتاجية ووسائل التدمير تنمو بوتيرة واحدة، والبشرية مهدّدة بدمار شامل، والفكر والأمل والخوف رهنٌ بإرادة السُلطات.
هربرت ماركوز – الإنسان ذو البعد الواحد

إذا كان كلّ شيء يبدو طبيعيًا ومنطقيًا وعقلانيًا، ما الذي قد يمنعك من مسايرة الوضع وتقبله والاندماج فيه والانسياق معه والانخراط فيه؟ لن يمنعك من هذا إلا أن تكون رافضًا لما تبدو عليه الأمور ظاهريًا، رافضًا للتفسيرات السطحية التي تبدو منطقيةً جدًا، وللوعود التي تبدو قريبةَ التحقّق جدًا.. سيمعنكَ من مسايرة الوضع أيضًا أن تكون واعيًا بأن ما يُصدّر إليك باعتباره حقيقيًا، ليس كذلك، وإنما هو زائف. وربّما تكون متمكّنًا من رؤية أجزاء تلك الصورة الكليّة المتماسكة إجمالاً، وتبيّن تشوّه هذه الأجزاء ونقصها والثغرات والشروخ فيما بينها، في نفس الوقت.

كل هذا الذي يمنعكَ مما سبق، لا يخرج عن دائرة «النقد». النقد – كما يؤكّد ماركوز – «لا يقبل الواقِع القائم كما هو باعتباره سياقًا نهائيًا؛ وإنما يتعالى عليه، وينيره بالاحتمالات والفرضيات والتطورات التي لا يُعتَرف بها»، وأن تكون ناقدًا يعني أن تكون متلبّسًا برفض الواقع والتعالي عليه وإنارته بالاحتمالات والفرضيات، وبمعنى آخر «أن تقاومَ ذلك الواقع على ما هو عليه».

لكن هل هذا مسارٌ متاحٌ لأيّ واحدٍ منّا بسهولة؟

الحقيقة أنه ليس سهلاً بالمرّة. فالتحوّلات الحاصلة مكّنت السُلطات والأنظمة والطبقات العُليا من تحوير المعارضة بما يمكنها من ابتلاعها واستدماجها، ومسخَت الممارسة النقدية بحيث لا تشكّل أي أضرار لها، وهو ما يشرّحه ماركوز: «المجتمع الصناعي المتقدّم يحرم النقد من أساسه الحقيقي… كان النقد [فيما مضى] ينشئ مفاهيم الحلول التاريخية البديلة.. ويمارس عمله بصورة عينية متوسّطًا بين النظرية والممارسة، بين القيَم والوقائع، بين الحاجات والأهداف.. ولكن تطور هذا العالم قد شوّه بنية الطبقات الاجتماعية ووظيفتها».

ماذا عن المجتمع «الاستهلاكي» الذي صار أكثر ضراوةً وسيولةً من نسخته «الصناعي»؟

يجادل ماركوز – بما يصحّ أن يطّرد في تلك الحالة – بأنه: ليس معنى أنّ الكثير من شرائح المجتمع – أي مجتمع- تقبل أو تتقبّل أوضاعه، أنّ هذه الأوضاع عقلانية ولا تقبل النقد، بل إنها لا تزال كما هي، لا يتغيّر شيء من لاعقلانيتها أو قابليتها للنقد، ذلك أنه لا زالت هناك دلالة قائمة للتمييز بين الوعي الحقيقي والزائف، بين المصلحة الواقعية/ العامة والمصلحة الفورية/ الحصرية. الطريق الوحيد لاكتشاف الطريق المؤدّي إلى الوعي الحقيقي والمصلحة الواقعية، هو الرفض، الذي هو روح النقد.

مسألة الوعي هذه قد تصلُح في حالة الفرد؛ لكن لا يمكن الجزمُ بصلاحيتها على مستوى المجتمعات أو حتى الطبقات، إذ تظلّ مرهونةً بمدى التأثير الذي يحدثه الوعي لدى الفرد نفسِه.

وقد يجادل البعضُ – وأنا ما زلتُ واحدًا منهم – بأنّ وقوع كارثةٍ كُبرى (طبيعية أو وبائية أو اقتصادية)، قد يُحدِث تغييرًا نوعيًا على مستوى الوعي لدى المجتمع، في حالتنا نحن على الأقل،.. إلا أن ماركوز يرى عكس ذلك. فالوعي بما هو واقع، وما هو وَهم، وما هو ممكن، وما هو محظور.. كل ذلك «إذا لم يُحدِث انقلابًا في سلوك الإنسان، فإن التغيّر النوعي للمجتمع الذي ينتمي إليه لن يحدث، حتى ولو وقعت كارثة كُبرى».


الأنظمة والمجتمعات: فكّ الارتباط

هل عفى الزمن على أطروحات مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية التي انتمى إليها وتبنّاها ومارسها وطوّرها هربرت ماركوز؟

حظت مدرسة فرانكفورت بتقييم نقديّ هائل، وحظى ماركوز بالمثل بالتبعية.. وكمثالٍ عابرٍ على تلك التقييمات النقدية، ما أورده توم بوتومور: «مالت مدرسة فرانكفورت إلى التأثر بالظواهر الآنية والظواهر قصيرة الأمد، والتي لم تحظّ بالبحث بطريقة منهجية من منظور تاريخي ومقارن، وانعكس كل هذا في انشغال المدرسة الزائد بالاشتراكية الوطنية ومعاداة السامية في الثلاثينات والأربعينات، وبصناعة الثقافة في الخمسينات. وتتجلّى نفس الإشكالية في الستينات في اعتناق ماركوز للفكرة القائلة بأنّ حركات اجتماعية شتّى بين الطلبة والأقليات العِرقية، والعالَم الثالث، شكّلت عناصر ذات ثورية جديدة للتاريخ»، ملمّحًا إلى راهنيّة أفكار ماركوز.

كما حظيَ ماركوز نفسه بالنقد بالأصالة، كما في نقد باول ماتيك له بأنه يفتقر إلى التحليل الدقيق للاقتصاد العالمي، وهو ما برّره ماركوز استباقيًا بأنّ النظرية النقدية تهتمّ بما أدّى إلى الاقتصاد القائم وما نتَج عنه، وليس ماهية الاقتصاد ذاته، إضافةً إلى انتباه ماركوز منذ البدايات إلى أن إنتاج مدرسة فرانكفورت يفتقر إلى بُعد اقتصادي وسياسي كافٍ، وكانت سيكولوجية أكثر مما ينبغي.

هل يضع هذا النقد – وما ماثله – غطاء التابوت على أفكار ماركوز القادمة من ستينات وسبعينات القرن الماضي؟

الحقيقة أن ما اعتبره نقّاد ماركوز «وضعًا راهنًا وعابرًا»، لم يعُد كذلك، وإنما استقرّ وتحوّر وتمدّد على نحوٍ سرطانيٍ، محقّقًا ذلك «الحاضر السرمدي» الذي حذّر منه ماركوز بشكلٍ عابر. ولنأخذ مثالاً.

في مجتمعاتنا الراهنة، تتزايد أعداد اللاجئين والمشرّدين والمضطهدين عرقيًا وإثنيًا، تتزايد نسب العاطلين عن العمل والعاجزين عنه، كل هذا ينمو على أرضية الطبقة الدنيا المتّسخة من المجتمعات المحلية والدولية، بعيدًا عن طبقاتٍ أعلى من نفس المجتمعات تتلاحم في سياقٍ استهلاكيٍ رقابيٍ خاضعٍ لاهث، وبعيدًا جدًا جدًا عن الأنظمة وقوانينها ومؤسساتها.

حسنًا، لن نرغي ونزبد كثيرًا، فهذا الوضع بعينه هو ما يذكره ماركوز بنصّه:

وهذا إن كان واقعًا في زمنه، فهو لا زال مستمرًا مطّردًا، وإن كان فرضيةً – وهذا مستبعد- فهو الآن متحقّقٌ تمامًا. وهذه حالة من افتكاك الروابط بين الأنظمة والطبقات الدنيا من المجتمعات المنضوية تحت سُلطتها، وهو ما يُعطي مسارات نظرية مُحتَملة ومرشّحة لتحرّر هذه الطبقات من سُلطة الأنظمة المحلية، وهو ما يمكُن تكامله على مستوى النظام الدولي بدرجة من الدرجات.


التجريد وراديكالية الأمل

الشعب الذي كان في الماضي خميرة التغيّر الاجتماعي، تطوّر ليصبح خميرة التلاحم الاجتماعي والرقابة الاجتماعية… ولكن ما تزال هناك، تحت تلك الطبقات الشعبية، طبقة المنبوذين واللامنتمين والعروق الأخرى والألوان الأخرى والطبقات المستغلّة والمضطهدة، والعاطلون عن العمل والعاجزون عنه… إنها قوة بدائية يعجز النظام عن دمجها وابتلاعها، قوة تخرق قوانين اللعبة، مُظهرة بالتالي أنها لعبة زائفة.
إنّ الأمل لم يُكتب لنا إلا بسبب أولئك الذين هم بلا أمل.
والتر بنجامين

هناك خبرات مهولة اكتسبها النظام العالمي وأنظمة الدول المنضوية تحته، من تجارب المائتي عامٍ الأخيرة. خبرات في الاستلاب والاحتلال والتسلّط والاستعباد، ومقاومة وقمع الجريمة بكل مستوياتها، ومكافحة وقمع التمرّدات المدنية والأهلية، وتوظيف كلّ ذلك لمصلحة النظام القائم، دولي أو محليّ. خبرات تتبادلها مؤسسات تلك الأنظمة وتكتسبُ بها مناعةً تحصّنها من تكرار معاناة التجارب السابقة من جديد.

هذه الخبرات الهائلة، هي ما تعطي الأنظمة قدرةً فريدةً هائلة على ابتلاع واستدماج كلّ ما يمكن أن يعارضها أو يخرج عن طوعها، بشكلٍ فوريٍ، وربّما بشكل استباقيّ. سمّ ما شئتَ من الأحداث والأسماء التي جرت، وقارنها بهذا المكتوب. وهي هي نفس الخبرات التي تمكّن الأنظمة من إدارة المجتمعات والتحكّم فيها وتطويعِها.

حقيقةً لم يصرّح بها هربرت ماركوز، وربّما لم تسمح الأوضاع في زمنه بانكشاف الأمور بهذا التبجّح كما هي عليه الآن، إلا أنّه يرصُد جانبًا مهمًا منها، فيشير متسخّطًا – في مقالته «الفلسفة والنظرية النقدية»- إلى «مذاهب فلسفية عديدة لا حصر لها، هي مجرّد أيديولوجيا، وهي باعتبارها أوهامًا عن العوامل الظاهرة اجتماعيًا، تكون مهيّأة للاتحاد في جهاز عام للهيمنة والسيادة». بل ويتمادى في موضعٍ آخر في تبنّي الاعتراف بـ «إن كلاً منا – نحن الراديكاليين- وعلى نحوٍ ما، تمّ إغراقه وتخبيله وإشباعه وتشويهه بتناقضات المجتمع القائم».

فهل هناك مفرّ من سطوة تناقضات المجتمع التي تنبثق بدورها عن خبرات الأنظمة في التحكّم الشامل في المجتمعات؟ تلك الأنظمة التي تصوغ لغة المجتمعات وحاجاتها وآلامها وأحلامها وآمالها، وتحدّد وتحجّم الوعي على نحوٍ يحجز النشاط الحقيقي للوعي ومحتوياته داخل بُعد العقل المجرّد؟

هنا يقدّم ماركوز مفتاحًا لمسار الهرب: «التجريد» الذي يُنقِذ حقيقة الوعي ويحافظ على ما تبقّى من سلامة العقل. ولكنه يشدّد: «لا ينجم التجريد من تجنّب الوضع القائم، بل إنه الاتجاه نحو الوضع المستقبلي للإنسان». هذا الاتجاه التجريدي يقوم على عنصرين: الأمل والخيال. ولن نجادل هنا بشأن طوباوية ماركوز من عدمها.

يقرّ ماركوز بأنه يرتكز على الأسئلة الكبرى التي طرحها كانط في «نقد العقل المحض» وتشكّل ماهيّة الإنسان: سؤال المعرفة (ماذا يمكنني أن أعرف؟)، سؤال الدور (ماذا يجب أن أفعل؟)، وسؤال الأمل (ماذا يمكن أن آمل؟). هذا السؤال الأخير هو الذي يقدّم عنصرَ الأمل. يضيف ماركوز: «ولكي يمكن الاحتفاظ بما ليس قائمًا بعدُ كهدفٍ فيما هو قائم، يكون الخيالُ مطلوبًا». لكِن من أين يأتي «أملٌ نقيٌّ حقيقيّ» إذا كان المجتمع ومن فوقه سُلطة الأنظمة يحتكرون صياغة الخيال ومفرداته وآفاقِه؟

هنا تبرُز أهمية التجريد الذي يزيل التشويهات والقيود التي وضعتها السلطة والمجتمع، والذي نتحصّل منه على الخيال الحقيقيّ اللائق بنا، والذي بدوره يطرح أمامنا آمالاً شديدة الراديكاليّة، لا يكون بين خياليتها وواقعيتها سوى جِسر «الممارسة والتحقّق» على أيدي «أفراد متحرّرين من كل دعاية ومن كل تكييف مذهبي ومن كل تحكّم وتلاعب، وقادرين على معرفة الوقائع وفهمها، وعلى تقرير الحلول الممكنة».

أخيرًا، ربما تؤنسنا – حتى حين – ، أو تغيظنا أكثر، تلك الحقيقة المُبئِسة التي يقرّرها هربرت ماركوز في خاتمة أحد كتبه:

لا شيء يثبت أنها ستكون نهاية سعيدة. فـ[الأنظمة] القائمة تملك من الموارد الاقتصاية والتقنية القدرَ الذي تستطيع معه أن تسمح لنفسِها بتقديم التساهلات والتنازلات للبؤساء، وتملك من القوات المسلّحة العدد الكافي لمواجهة المواقف الطارئة. ولن يصبح تقرير المصير الذاتي فعليًا وواقعيًا إلا إذا لم تعُد هناك «جماهير»، بل مجرّد «أفراد» متحرّرين من كل دعاية ومن كل تكييف مذهبي ومن كل تحكّم وتلاعب، وقادرين على معرفة الوقائع وفهمها، وعلى تقرير الحلول الممكنة.
المراجع
  1. دليل أكسفورد للفلسفة، ج2، تحرير: تد هندورتش، ترجمة: نجيب الحصادي، طرابلس، ليبيا.
  2. الإنسان ذو البُعد الواحد، هربرت ماركوز، ترجمة جروج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1988م.
  3. فلسفات النفي: دراسات في النظرية النقدية، هربرت ماركوز، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة للنشر الوتزيع، القاهرة، 2011م.
  4. مدرسة فرانكفورت، توم بوتومور، ترجمة سعد هجرس، دار أويا، طرابلس، ليبيا، الطبعة الثانية، 2004م.
  5. – مدرسة فرانكفورت.. نشأتها ومغزاها: وجهة نظر ماركسية، فيل سليتر، ترجمة: خليل كلفت، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004م.