لا أعرف ما السبب الذي جعلني أشاهد «Darkest Hour»، فأنا عادة لا أشاهد أفلام الأوسكار في وقتها، لكن هذا الفيلم شاهدته، ربما لأني أحب «جاري أولدمان – Gary Oldman»، أحب تمثيله، صوته المميز، وقدرته الفائقة على التجسيد، لكن أن يؤدي دور «ونستون تشرشل» رئيس وزراء بريطانيا الأشهر؟ كيف؟! .. نعم، ربما يكون هذا هو السبب الذي جعلني أشاهد الفيلم.


في البداية كان «هتلر»

نعم، هذا هو المدخل.. «هتلر» وجنونه، وهو يسحق الجيوش، ويسفك الدماء ليسود الجنس الآري، ومنطقي أن تكون دول أوروبا هي الحاجز الذي يمنعه من اقتحام بقية دول العالم. يهمنا هنا مواجهته لإنجلترا، أو الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. كيف يمكن لرجل مثل هذا أن يقلقل أمنها، ويصيبها بالذعر؟

في ذلك الوقت تم الزجّ بالسياسي المعروف «ونستون تشرشل» لكي يتولى القيادة في وقتٍ عصيب، وسط تشككات من الملك «جورج الخامس» في قدرته على تولي مهمة خطيرة كهذه، وآخرون يريدون إزاحته، وخصوصًا أنهم من أنصار التفاوض مع «هتلر»، وحصولهم على السلام.

كان رأي «تشرشل» أن «هتلر» وحش لا يمكن السيطرة عليه، ولا يمكن الثقة فيه، وأنه لا سبيل إلا المقاومة، والدفاع حتى آخر قطرة دم.

هذه هي القصة الحقيقية، فكيف يمكن نقلها على الشاشة؟


ثم أتى «جاري أولدمان»

سيناريو الفيلم قوي جدًا ومحكم، ومليء بالحوارات الرائعة. أحضِر ممثلًا متوسطًا، وربما يخرج منه شيء. لكن أن تأتي بعملاق مثل «جاري أولدمان»؛ فسيُبعث «ونستون تشرشل» من قبره!

الحقيقة أن «أولدمان» ليس حديث عهد بتجسيد الشخصيات المشهورة، فقد سبق له أن جسد دور «بيتهوفن» الموسيقار الألماني العظيم، وكذلك دور «دراكيولا» أو «فالاد الوالاشي» في رائعة «فرانسيس فورد كوبولا»، وهو أحسن تجسيد لتلك الشخصية المرعبة من وجهة نظري.

في المشاهد الافتتاحية للفيلم نعرف أننا في عام 1940، ونعرف أن ثمة أزمة خطيرة تلوح في الأفق؛ إذ إن إنجلترا تحتاج إلى من يتولى قيادتها، لكن أن يتقدم أحدهم لاستلام الدفة هنا، معناه أنه يخاطر بنفسه في قلب العاصفة. هنا يظهر «ونستون تشرشل». هو معروف بلسانه اللاذع، حتى أن الملك «جورج» قالها له فيما بعد، إنه لا يمكن التنبؤ بما سيقوله.

تفوق «أولدمان» على نفسه، ونفخ في الشخصية من روح إبداعه. فهو ينتقل من حالة إلى حالة في مشهد واحد بتلقائية شديدة، وكأنه انصهر في شخصية «تشرشل» وأقنعنا أنه هو!

«تشرشل» عجوز، ويبدو أنه كان ينتظر هذا المنصب منذ وقتٍ طويل، وعندما أتاه كان في موقف لا يُحسد عليه، فهل ينزوي حتى يتلاشى من الاضطراب والخوف والتردد، أم يتوهج في أشد الساعات حلكة في تاريخ إنجلترا؟

السيناريو يقع في حيّز ضيق جدًا من التاريخ، فهو يتحدث عن شهر مايو/ آيار تحديدًا، ولا يتكلم عن «تشرشل» بشكل عام. هو يتكلم عنه في تلك الفترة فقط، وما القرار الذي سيتخذه. نحن نعرف أنه اتخذ قرار الحرب والمقاومة، لكن كيف اتخذه؟

هنا يأتي جمال السيناريو الذي كتبه «Anthony McCarten»، والذي رأيناه كاتبًا لفيلم شهير آخر هو «The Theory of Everything»، والذي يعرض الأزمة بشكل متزن متناغم، بحيث تطلع على تأثير تلكم الأزمة على أصحاب القرار، وعلى الشعب أيضًا.

لو كنت شاهدت فيلم «The King’s Speech» –فيلم بريطاني أُنتج في 2010 وحاز على عدد لا بأس به من الجوائز؛ فستجد أن ثمة تلاقيًا بينه وبين فيلمنا اليوم، إذ إن «تشرشل يظهر» وهو يهنئ الملك «جورج الخامس» على تغلبه على عقبة التأتاة، وإلقائه خطابًا رائعًا على الشعب، يعلن فيه أنه سيدخل الحرب على «هتلر».

شخصية الملك «جورج الخامس» –أو بيرتي كما يناديه المقربون- أخذت مساحتها طوال فيلم «خطاب الملك»، بينما ظهر «تشرشل» في مشهدين أو ثلاثة. أما فيلم «Darkest hour»، فـ«تشرشل» هو من يحتل الساحة طوال الفيلم، والمشاهد التي لم يظهر فيها قليلة جدًا، بينما الملك يظهر في مشاهد قليلة، وإن كانت مؤثرة في سياق العمل.

تحدث الفيلم أيضًا عن أزمة «Dunkirk»، والتي خصص لها «كريستوفر نولان» فيلمًا بأكمله. من الجميل هنا أن نرى كيف تصرف أصحاب القرار في إنجلترا مع هذه الأزمة، والطريف أن فيلم «نولان» كان يزاحم فيلم «أولدمان» على جوائز الأوسكار التي فاز ببعضها.

الممثلون الآخرون أدوا أدوارهم بشكل جيد، لكن «أولدمان» كان يسرق الأضواء لدرجة تجعل من حوله يشحبون ويتلاشون! وقد فاز عن هذا الفيلم بجائزة أوسكار أحسن ممثل وهو يستحقها عن جدارة.

نجح الماكياج في تحويل «جاري أولدمان» إلى صورة قريبة من «تشرشل» الأصلي ظاهريًا، لكن على مستوى الأداء، فقد نفخ «أولدمان» في الشخصية من روح إبداعه. حقيقة لم أشاهد «تشرشل» الحقيقي في مقطع فيديو، ولا أعرف كيف يتكلم أو يتصرف، لكن «أولدمان» نجح في أن يقنعني أنه هو! بنزقه، وخفة دمه، وسلاطة لسانه، وسخريته، وتوهانه، وبحثه عن مفردات كلماته.

في مشهد رائع –وربما يكون أجمل مشهد في الفيلم على الإطلاق- نرى «تشرشل» يترك سيارته وسط الزحام، ويدخل مترو الأنفاق، ولأنه شخصية مشهورة فيتعرف عليه المواطنون، ويتزاحمون على مصافحته. ثم يجلس معهم ويسألهم عن رأيهم في القرار الذي يؤرق نومه: هل يقبل بالصلح مع «هتلر» وتحقيق السلام، أم يطلب من الشعب المقاومة؟ أجابوه –بتلقائية- أنهم لن يقبلوا بالاستسلام، وأنهم سيقاومون حتى آخر قطرة دم.

ركز معي هنا: «جاري أولدمان» –الممثل الإنجليزي- يتفوق على نفسه، فهو ينتقل من حالة إلى حالة في مشهد واحد، فهو هنا يلقى دعابة يضحك لها الجميع، وهنا يتحول إلى شخص اجتماعي، فيتعرف عليهم واحدًا بعد الآخر، ثم في نهاية المشهد يبكي! يفعل هذا بتلقائية شديدة، وكأنه انصهر في شخصية «تشرشل» –بغض النظر عن كونها مطابقة للواقع أم لا – وأقنعنا أنه هو!

اقرأ أيضًا:«Darkest Hour»: في السينما فقط يتفق «ناصر» و«تشرشل»

الممثلون الآخرون أدوا أدوارهم بشكل جيد، لكن «أولدمان» كان يسرق الأضواء، لدرجة تجعل من حوله يشحبون ويتلاشون! وقد فاز «أولدمان» عن هذا الفيلم بجائزة أوسكار أحسن ممثل، وهو يستحقها عن جدارة.

هذا الفيلم –من وجهة نظري- سيبقى في ذاكرة السينما كثيرًا.