إنها الانتخابات الأمريكية. العالم يشتعل مجددًا من فرط الترقب، ولا عجب في ذلك، فمن حقِّنا جميعًا أن نتلمَّس المسار الانتخابي للرجل الذي يحكم حياتنا. بكلمة منه قد تقصف إسرائيل منشآت طهران. وفور إشارته، قد يتوقف انهمار القذائف على رؤوس أطفال اليمن ولبنان والعراق وسوريا وأكثر!

كل هذا يزيد تعقيدات هذه الانتخابات التي يُحدِّد صاحبها أولويات العالم، وهو أنتج مطالباتٍ عِدة للسماح لغير الأمريكان بالمشاركة فيها!

هذه المرة كنَّا على موعدٍ مع تعقيدات إضافية تُزيد من حبائل سياسة الانتخابات الأمريكية اشتباكًا، وهو التسابق الجنوني بين الجمهوريين والديمقراطيين على السُّلطة، ورغبة كل فريق في الإطاحة بالآخر، مهما كان الثمن ومهما كانت الوسيلة، حتى لو كانت النهاية إعلان كلٍّ من الفريقين أنهما فازا في الانتخابات!

قد يبدو هذا الحدث مألوفًا في انتخابات رئاسية أولى في بلدٍ حديث العهد بالديمقراطية الانتخابية كمصر، مثلما حدث في انتخابات 2012م حين أعلن كلا الطرفين (المهندس محمد مرسي والفريق أحمد شفيق) فوزهما في الانتخابات، ولكن كيف يحدث هذا في دولة تتنفَّس انتخابات منذ عشرات السنين كأمريكا؟

أعلن ترامب فوزه، وكذلك بايدن.. وبرغم ذلك فإن النتيجة حتى الآن لم تُحسم بعد، لتُدخلنا هذه التصريحات المتناقضة في حالة من «الجدل الرقمي» التي عادةً ما تُلاحق أجواء الانتخابات الأمريكية، ولكن هذه المرة بصورة أشد، ما يُعيد إلى الأذهان مجددًا الأنباء التي تتردد بعد كل نهاية استحقاق انتخابي عن حجم الجهود التي تُبذل لاستغلال الأرقام والبيانات الاجتماعية من أجل انتزاع النصر.

فهل يُمكن أن يقود الاستغلال الحِرفي للبيانات المتناثرة على صفحات فيسبوك مُرشحًا انتخابيًّا إلى البيت الأبيض؟

لهذا قصة طويلة.. وقديمة.

ما قبل البداية

في الأعوام الأخيرة أصبحت البيانات مصدرًا أساسيًّا للثروات القياسية التي حصدتها كبرى الشركات العالمية، بل أصبح الاستثمار فيها أكثر نجاعة من النفط!

فشركات مثل جوجل وفيسبوك وتويتر لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أن قامت بكل ما يُمكنها لاستغلال بياناتك الشخصية واعتصرت تفاعلاتك عبْر شبكاتها الاجتماعية حتى آخر قطرة لتضمن لها أعلى استفادة ربحية ممكنة حتى آخر دولار.

كم مرة تحدثت مع صديقك عن سلعةٍ ما وفوجئت بإعلاناته تظهر فجأة لك؟
كم مرة شاركت صورة مكانٍ تتمنَّى السفر إليه مع زوجتك فطاردتك فورًا عروض السفر إليه؟

وليت الأمر توقَّف على هذا الأمر، وإنما تشعَّب إلى ما هو أكثر؛ اختياراتك السياسية وانتماءاتك الحزبية. فكل مرة ضغطت فيها «أعجبني» (Like) على صورة أوباما، أو أعدت تغريدة لترامب، أو التقطت لنفسك صورة في مؤتمر سياسي، تؤرشف؛ كل مرة أعلنت فيها عن غضبك من قرار لرئيس دولتك، أو أعربت عن غضبك إزاء حادث هزَّ الرأي العام؛ كلما استعملت بطاقتك الائتمانية لشراء منتج، أو استخدمت GPS لتحديد مكانك.

هذه المواقف الشخصية لا تذهب سُدًى، وإنما تؤرشف في أكوام صافية من البيانات تُعبِّر بأصدق ما يكون عنك، وهو ما يجعلها كنزًا مثاليًّا لأكثر الراغبين في التعرف على مواقفك الوطنية واحتياجاتك الشخصية لحثِّك على تأييدهم والتصويت لأجلهم، وهم طبعًا السياسيون.

يُمكن تلخيص الحُلم الأزلي لأي سياسي هو كيفية قياس رغبات المواطنين، والتعبير عنها (حتى لو لم يترافق الفِعل مع أي قول) وإمكانية التنبؤ بها.

لهذا ظهرت إلى الوجود حملات طرق الأبواب لمدِّ أواصر التعارف المباشر مع المواطنين، وإقامة المؤتمرات الجماهيرية وإلقاء الخطب الرنَّانة فيها، وأخيرًا العمل على تحليل «البيانات الشخصية»، والتي اعتُبرت الجوهرة التي زيَّنت عقد استغلال الحياة الشخصية للمواطنين من أجل دفعهم تجاه التصويت لمرشحٍ بعينه.

الجهل بالتاريخ وسام شرف

في منطقة وادي السليكون الأمريكية، تمتزج التكنولوجيا برأس المال، الرياضيات بالصناعة، العبقريات البشرية بالطموح السياسي، وهو الوضع الذي يتمنّى أصحابه الإبقاء عليه لأطول وقتٍ ممكن بطبيعة الحال، عن طريق التشبّث بكل نجاحٍ يتمُّ تحقيقه، الآن، والسعي بكل الوسائل لمعرفة المستقبل والتكيف معه حتى لا يفلت هذا النجاح من بين الأصابع.

وهو ما عبَّر عنه ذات يوم مهندس السيارات ذاتية القيادة أنتوني ليفاندوفسكي لصحيفة The New Yorker، بأن «الجهل بالتاريخ وسام شرف في وادي السيليكون، الشيء الوحيد المهم هو المستقبل».

وهو ما تجتهد العلوم الإحصائية/الرياضية لتحقيقه، فإن استطاع حاسوب أن يتنبأ بوقوع الانتفاضات الشعبية قبل حدوثها والانتخابات قبل حدوثها، سيدفع سياسيو الأرض وزنه ذهبًا لامتلاكه.

بالطبع لم يصل البشر إلى هذه التقنية بعد لحُسن الحظ، ولكن هذا لا يمنع أبدًا من أن يكونوا في طريقهم إليها يومًا ما.

ففي اللحظة الأولى التي بدأ فيها الحديث عن هذا الأمر عام 1960م لم يُصدِّق أحد أن التحليل السياسي للبيانات سيحتلُّ تلك المكانة الكبيرة التي أصبح عليها الآن.

وخلال الانتخابات الرئاسية التي خاضها جون كينيدي أمام ريتشارد نيكسون، توقَّع الجميع فوز الأخير في كل استطلاعات الرأي التقليدية التي تزامَنت مع انتصارٍ ساحق حقَّقه الأخير في 4 مناظرات متلفزة جمعت بين الرجلين، فبدا أن نيكسون في طريقٍ مُمهَّد للعرش الأبيض، لكن قلبت النتائج المعلنة كل الأوزان.

فاز كيندي على منافسه بهامشٍ ضئيل (49.7% لكيندي مقابل 49.5% لنيكسون) لكنه أمَّن له النصر في جميع الأحوال، مخالفًا كل التوقعات التي مالت لانتصار ساحق لنيكسون، باستثناء كمبيوتر What- if.

نشرت مجلة هاربر (Harper’s Magazine) قصة عن استعانة كينيدي بجهود جهاز كمبيوتر سرِّي أجرى عددًا من الحسابات وتجارب المحاكاة وتنبأ بأن هالة التأييد التي تحيط بنيكسون زائفة وأن كينيدي هو الفائز لا محالة، وهو ما حدث، وفتحت هذه القصة العاصفة بعدما تعرفنا لأول مرة على الدور الذي يُمكن أن تلعبه الرياضيات في السياسة.

حاولت Simulmatics، الشركة مُخترعة هذا الكمبيوتر، استغلال هذا الحدث، فطرحت أسهمهما في البورصة، وعرَّفت خدماتها بأنها قائمة على إجراء عمليات تحليل معمَّقة لبناء نماذج رياضية تُساهم في توقع السلوك المحتمل للمجموعات.

بدأت الشركة في عرض نفسها على عمالقة الصناعة الأمريكية، وتعاقدت معها بالفعل استوديوهات MGM و Columbia Records للاعتماد على تحليلاتها في تقديم محتوياتها الترفيهية، وهو أمر يُشبه ما تقوم بها شبكة نتفلكس الآن عن طريق جمع كل بيانات المستهلكين من جميع وسائل الإعلام ودور النشر وشركات التسجيلات وشبكات التلفزيون لتقديم محتوى موافِق للهوى الجماهيري.

وفي 1963م، سعى كينيدي لاستغلال هذا الأمر مجددًا، بالرغم من أنه نفى أن تكون الشركة لعبت دورًا في فوزه، وهذه المرة لتُساعده على الحُكم وليس الوصول إليه، فتعاقد مع الشركة من أجل تزويده بتحليلات تعينه على اتِّخاذ قراراته.

قدَّمت الشركة محاكاة لاقتصاد فنزويلا، كما أجرت أبحاثًا رقمية على فيتنام لمحاولة تشمم احتمال وقوع انقلاب فيها عن طريق تحليل صحفها المحلية لبحث مدى زيادة استخدام كلمات كـ«الثورة» و«المطالب القومية»، وهو أمر شبيه إلى حدٍّ ما بتقنية الكلمات المفتاحية التي تستخدمها جوجل الآن، كما منحتها وزارة الدفاع الأمريكية عقدًا لتقييم جهودها لكسب قلوب وعقول الفيتناميين لصفها بدلاً من قوات المتمردين التي تخوض حربها معهم.

وبعد ذلك بعدة سنوات ستُعتبر الشركة متورِّطة في حرب فيتنام، حتى إن طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا علَّقوا صورة مديرها وطالبوا بمحاكمته بِاعتباره «مجرم حرب».

ولاحقًا، في ظِل إدارة الرئيس جونسون، اندلعت احتجاجات ضد الظلم العنصري في مُدن لوس أنجلوس وكاليفورنيا وديترويت فحاولت الشركة ابتكار تقنية يُمكنها التنبؤ بأحداث الشغب العرقية قبل وقوعها.

في النهاية، فشلت الشركة في معظم مهامها، وكانت تحليلاتها التنبؤية غير صحيحة، لأن الإمكانيات المتوفرة حينها لم تكن لتُساعدها على تحقيق فكرتها الطموحة، فالكمبيوترات، حينها، كانت محدودة الذكاء وبطيئة، كما أن البيانات الشخصية كانت قليلة للغاية ويصعب الوصول إليها بسبب جمعها داخل ملفات ورقية.

ألغت البنتاجون عقدها معها. وفي العام 1970، تقدَّمت Simulmatics بطلب إفلاس، لكنَّها كانت أول من فتح الباب واسعًا لرجال الإحصاء لدخول عالم السياسة.

الناخب سلعة في سوق السياسة

ألَّف إيتان هيرش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل، كتابًا كاملاً عن كيفية التأثير على الأمريكيين، أطلق عليه اسم «اختراق الناخبين».

أكد فيه أن كُتلة الناخبين الأمريكيين يُناهز عددهها 300 مليون شخص، ولسنواتٍ طوال كان من المستحيل التعرُّف على اهتماماتهم الحياتية بِاستخدام الوسائل التلقيدية التي كانت مُتاحة قديمًا، والمحصورة في المسوحات الإحصائية واستطلاعات الرأي التقليدية، وهي عادةً تحوي نسبًا مُعتبرة من احتمالات الخطأ تجعل الاعتماد عليها مجازفةً كبرى.

ويشرح هيرش في كتابه أن أكوام البيانات التي بات يُمكن جمعها اليوم عبر شركات مثل جوجل وفيسبوك، بالإضافة إلى بيانات أكثر تفصيلًا حول عُمر الفرد وطبائعه الاستهلاكية وميوله العرقية وحتى انتماءاته الرياضية والثقافية تُساعد على تشكيل رؤية مجسَّمة لهذا الشخص، وبالطريقة التي يُمكن مخاطبته عبرها بفاعلية.

تمكن المطوِّرون من ابتكار خوارزميات معقَّدة من شأنها معرفة الميول الانتخابية للناس، ومن ثم التبنؤ بما سيكون عليه التصويت، والعمل على الأرض وفقًا لهذه النتائج. تمامًا بالضبط، مثلما تفعل شركة عملاقة كأمازون ببذل مساعي حثيثة لفهم زوَّارها بأدق شكلٍ ممكن حتى تُلاحقهم بأكثر المنتجات المُناسبة لهم فور دخولهم على موقعها. الفارق الوحيد هنا، هو فقط أن السلعة هي الناخب.

فعندما تتلقَّى رسالة على بريدك الإلكتروني تُطالبك بالتشبث بموقفك الجمهوري قبل ساعات من الانتخابات، تمسُّ صياغتها وجدانك فتتحمَّس أكثر. أو يُعرض على جوالك مقطع تُسيء فيه مرشحتك لطائفتك الدينية خلال وقوفك في طابور الاقتراع، فتقرِّر معاقبتها بالتصويت لمنافستها.

لا شيء من ذلك يحدث صُدفة، والفضل في ذلك كُله لعمليات فلترة البيانات التي تجري على قدمٍ وساقٍ في المراكز الرئيسية لحملات الناخبين.

ظهرت محاولات خَجلاوات لاستغلال هذه البيانات في انتخابات عامي 2000م و2008م، إلا أنها لم تُحرز تأثيرًا كبيرًا كما حدث في الانفجار البياني الكبير الذي حدث في 2016م، وكانت نتيجته وصول ترامب إلى البيت الأبيض.

لا تنتخبوا هيلاري العنصرية

يقول سايمون سير، خبير تكنولوجيا المعلومات الرقمية، إن البشر عندما يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي فإنهم يكونون أقل حذرًا بشأن انتماءاتهم السياسية والحزبية، ويستخدمون لغة «غير مُصفَّاة» للتعبير عن آرائهم المتنوعة بشأن تفضيلاتهم الحياتية والأشخاص والمنظمات التي تمثل قيمهم، وهي عادة بيانات قد يحجبون بعضها إذا طُلب منهم التعبير عنها بشكل رسمي في استطلاع رأي أو مقابلات مباشرة.

وهو ما يجعل مساهمات الأفراد على هذه المواقع كنزًا لا يُقدَّر بثمن للراغبين في الترشح للانتخابات.

اتَّخذت حملة ترامب نهجًا بيانيًّا مختلفًا عمَّا فعلته حملة أوباما وأمَّنت الانتصار له.

فبينما اجتهدت حملة أوباما البيانية لتحديد الناخبين المتأرجحين (لم يحسموا قرارهم بعد) في الأماكن التي يرُجح أن تشهد إقبالاً انتخابيًّا كبيرًا، ركَّزت حملة ترامب على برامجه السياسية الأساسية وشعاراته القومية المثيرة للجدل، وتروِّج لها وسط مجموعات متبانية من الناخبين عبر رسائل مباشرة بلغ عددها 100 ألف في اليوم الواحد.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن ترامب قدَّم لقادة حملته (في الأغلب هم مَن قادوه إلى ذلك) هدية كبرى، وهي براعته المُطلقة في استخدام تويتر، والتي تكفل ردود فِعل قياسية مع كل ما يكتبه، اتفاقًا أو رفضًا، وهي ردود الفعل التي كان يُمكن رصدها بكل سهولة.

وفيما بعد كانت حملة ترامب تُجري «إحصاء ديموغرافيًّا» لكل الأشخاص الذين تفاعلوا جيدًا مع رسائله وتختصُّ هذه المناطق بالخطابات الإعلامية التي تلائمهم تحديدًا.

يحكي براد باسكال، المستشار الأول الرقمي لحملة دونالد ترامب:

توقفتُ عن النظر إلى الناس على أنهم مجموعات وشخصيات، وإنما قلت لفريقي دعونا ننظر إلى الناس كأفراد؛ كيف يتصرفون وكيف يتفاعلون بشكلٍ فردي، لأنه حتى الأشخاص المتشابهين قد يتصرَّفون على نحوٍ مختلف.

كما يكشف عن أنه في الوقت الذي أذاع فيه فريق هيلاري كلينتون 66 ألف إعلان مرئي، صنع فريقه 5.9 مليون إعلان، استهدفت الأشخاص مباشرةً بالطريقة التي يريدونها.

منها إعلان شهير استهدف كتلة الأمريكيين السود، ذكَّرهم فيه ببعض العبارات المسيئة التي قالتها بحقِّ السود وأنهم «حيوانات مفترسة»، وآخر عرض صورة لبيت زجاجه متكسر والغرباء يقتحمونه؛ للدعاية لآراء ترامب المناهضة للهجرة.

تخيَّل أمريكي أسود يُحاصره إعلان، على تلفازه وهاتفه وحتى المحطات الإذاعية في الراديو، يُخبره أن هيلاري وصفت مواطنيه بأنهم مفترسون، بالتأكيد سيكون تصويته لها أمرًا مستبعدًا، وهذا ما أراده رجال ترامب تحديدًا.

خصَّص رجال ترامب قرابة 70 مليون دولار شهريًّا، من أجل بناء «عملية بناء الجمهور»، هو عالم من ملايين الناخبين المتحمسين لترامب ولآرائه وتوجهاته السياسية القومية، لم يتوقفوا عن حقنهم بكل ما يلزمهم من إعلانات تبقيهم متقدي حماسة حتى موعد الانتخابات.

أنفقت حملة ترامب 80% من ميزانيتها على إعلانات فيسبوك، فيما بقيت هيلاري وفيَّة للنهج الإعلاني الكلاسيكي المعتمد أكثر على شاشات التلفاز والجرائد.

وكانت النتيجة أن سبعًا من كل عشر تغريدات تناولت انتخابات 2016م على تويتر خلال الأسابيع الأخيرة لانعقادها كانت في صالح ترامب.

كما لعب رجال التحليل دورًا في تحديد أماكن التجمعات السياسية المتوقعة، فترامب لن يستطيع زيارة كافة أنحاء البلاد، فانتقت له 17 ولاية تحديدًا توقعوا أن تحوي أكبر قدرٍ من أنصاره، تستحقُّ منه زيارتها قبيل الانتخابات لتوطيد دعائم انتصاره.

وكان هذا الجهد إضافة إلى جهود أخرى غاية التعقيد بذلتها شركة كامبريدج أنالتيكا Cambridge Analytica البريطانية، والتي قادت حملة ترامب بيانيًّا واجتماعيًّا (على جنبات مواقع التواصل)، ونجحت في إيصاله إلى البيت الأبيض، مثلما فعلت في مهمة سابقة لم تقل صعوبة وهي إقناع البريطانيين بالموافقة على الخروج من الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء 2016م.

أثارت هذه الشركة جدلاً كبيرًا بسبب القضية التي تفجرت عقب انتهاء الانتخابات، بما عُرِفَ بفضيحة كامبريدج أناليتيكا، بعدما جمعت بيانات 87 مليون مستخدم أمريكي عبر موقع فيسبوك، واستغلَّتها، دون موافقتهم، لأغراضٍ سياسية ثم أعادت بيع حصيلة هذا الاستغلال البياني إلى حملة ترامب الانتخابية.

شيَّدت الشركة، بالتعاون مع حملة ترامب، «ملفات رقمية» ركَّزت على الناخبين الذين سيكون من السهل إقناعهم بالتصويت لصالح ترامب، وفقًا لتحليلات سلوكياتهم على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وهذه الفئة تحديدًا التي كان يجب استهدافها بلا هوادة بكل وسائل الدعاية الممكنة.

كما لعبت كامبريدج أناليتيكا دورًا فارقًا غيَّر نتيجة الانتخابات الرئاسية في 2016م تمامًا، بعدما استشعرت تحليلاتها أن ترامب يُمكنه الفوز في ولايات ويسكونسن وبنسلفانيا وميتشيغان، وهي التي كانت شبه مضمونة لهيلاري كلينتون، وإزاء هذا الأمل الإحصائي كثَّفت حملة ترامب من دعايتها في هذه الولايات حتى حصدها بفارق ضئيل عن هيلاري، ولو كانت فازت بها لضمنت نصرًا مؤكدًا.

وعقب الهزيمة غير المتوقعة لهيلاري كلينتون أمام ترامب، وعَى الديمقراطيون الدرس مبكرًا، وهو أنهم أساءوا تقدير أهمية دور علم البيانات في معارك طاحنة كهذه.

لذا قاد مايكل بلومبرج الملياردير والعمدة السابق لمدينة نيويورك، جهودًا مكثفة من أجل القضاء على ترامب بسلاحه المفضل.

شكَّل فريقًا على أعلى مستوى من مهندسي التحليلات، وأنفق عليهم بسخاء عشرات الملايين من الدولارات من أجل بناء قاعدة بيانات ديمقراطية قوية يُمكن الاستعانة بها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة عن طريق وضع طُرُق تحديد الناخبين المحتملين وكيفية استقطابهم.

صرَّح ميتش سيتوارت، المحلل الانتخابي في الفريق، بأن الوسيلة الرئيسية للوصول إلى عدد 51 (نسبة الفوز) في الانتخابات، هو حث الناخبين على التسجيل، وإقناع المترددين وزيادة الإقبال، وكل هذا يتوقف على التواصل مع الأشخاص المناسبين بِاستخدام الرسالة المناسبة.

ومن أجل نجاح الفريق على الوجه الأكمل، أمدَّه بلومبرج بموظفين سابقين في كبرى شركات البيانات في العالم كفيسبوك وجوجل.

سريعًا، ظهرت أمارات نجاح فريق بلومبرج، فخلال حملاته لدعم مرشحي الديمقراطيين في انتخابات الكونجرس عام 2018م فاز 21 من أصل 24 مرشحًا دعَّمهم في هذا الاستحقاق الانتخابي، ما يُؤكِّد أن فريقه البياني وضعه على الطريق الصحيح. وما بشَّر مقدمًا إلى أن انتخابات 2020م ستشهد حربًا ضروسًا بين جيشين كبيرين يمتلكان سلاحًا نوويًّا متكافئًا.

الطريق نحو التطرف السياسي

ومع تصاعد حمى انتخابات 2020م، تبلغ عمليات الاستهداف النوعي ذروتها مدفوعة بجبال البيانات التي جاهد رجال كلا الحملتين في تفنيدها على مدى الشهور الفائتة.

وهو ما تظهر نتائجه على اكتظاظ البريد الإلكتروني بالرسائل الموجَّهة وملاحقة الهاتف الذكي برسائل نصِّية ترويجية ذكية، وأخيرًا إعلانات مواقع التواصل الاجتماعي التي تُعدُّ خصيصى وفقًا لحاجات كل فئة بعينها.

محاولات مضنية لاحتلال عقول الناخبين وتحويلها إلى ما يُشبه شارع رئيسي في القاهرة ممتلئ بلافتات انتخابية، قد تقود الناس إلى الجنون يومًا أو إلى الكفِّ عن كل هذا العبث والانقطاع التام عن الانتخابات.

تقول المحللة السياسية الأمريكية كاري دان، إن القُدرة المتسارعة لاستغلال «البيانات» أفسدت الانتخابات الأمريكية وزادت من حدة الاستقطاب، فالمرشحون لم يعودوا يكترثون بتبنِّى خطابات معتدلة لاستقطاب مرشحي الوسط، الذين يتأرجحون بين الفريقين. فإذا كان فريق إحصائي جيد يستطيع أن يقوده إلى ناخبيه المضمونين، فلماذا يُهدر جهده وموارده لإقناع الآخرين؟

وهو ما عبَّر عنه إيتان هيرش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل، بأن الاعتماد على البيانات «يُساعدك على طرد خصومك».

وهو ما دفع عددًا من المحللين لاعتبار أن هذا النهج تجاوز الخط الفاصل بين إقناع الناخبين والتلاعب بهم، مؤكدين أن قيم الديمقراطية الأمريكية في مهبِّ الريح بعدما تحوَّلت إلى «سوق سياسي» لا تختلف قواعد تلميع المرشحين فيها كثيرًا عن قواعد الترويج لمعجون أسنان!

وإزاء التطور التكنولوجي المتوقع، والذي سيُساعد بالطبع على تحسين القدرة على استغلال البيانات بأفضل ما يكون، ستزداد هذه الهوة التي تُسطِّح العملية السياسية الأمريكية وتختصرها في أن مَن ليس معنا لا يستحق منَّا بذل ما يكفي من جهود لاستقطابه إلينا.

كما أن التوحش في استغلال البيانات الخاصة، فضلاً عن كونه فِعلًا غير أخلاقي، ينسف أبسط شرط واجب توافره في أي انتخابات، وهي أن تكون «حُرة، نزيهة، غير موجَّهة».

ولكن هذه الأمور لن يهتم بها أحد، مهما رفعنا من أصواتنا، ففي أوقات الانتخابات لا صوت يعلو على الرغبة في النصر بأي ثمن، حتى لو كانت النتيجة أن يعتبر كلا المرشحين أنهما خرجا منها فائزين.