«موت بائع متجول» هي مسرحية للكاتب الأمريكي «آرثر ميللر»، نشرت عام 1949، يحكي فيها الكاتب عن آخر أربع وعشرين ساعة من حياة «ويللي لومان»، الرجل الستيني صاحب المظهر الأنيق واللسان المعسول والتاريخ الطويل في عالم المبيعات، فقد كان ويللي يتباهى دوماً بحب الناس له وقدرته على التأثير بهم، ويرى أن ذلك أهم من أي شهادات أو مهارات عملية.

بعد الكساد الكبير الذي أصاب الولايات المتحدة في الثلاثينيات، يتم تخفيض الرتبة الوظيفية لويللي، ليصبح أجره بنسبة على المبيعات بدلاً من الراتب الثابت، مما يجعل الديون تتراكم عليه؛ فيُسبِّب له ذلك مشاكل في المنزل، وبخاصة مع ولديه (بيف وهابي) اللذين لم يحققا نجاحاً يُذكر في حياتهما المهنية وعادا للعيش في منزل والديهما، ويسعيان خلال فترة إقامتهما لبدء مشروع خاص بهما؛ اعتماداً على أموال الأب.

تتصاعد أحداث المسرحية ويتصادم البطل مع أبنائه، يلقي أحدهما عليه بذنب فشله الدراسي بسبب عدم توسط ويللي له عند مُدرِّسه بالثانوية ليعطيه فرصة للنجاح والالتحاق بالجامعة، يُصدَم أيضاً في والده بعد رؤيته بصحبة امرأة أخرى غير والدته. تحاول ليندا زوجة البطل الإصلاح بين ابنيها ووالدهما ولكنها تفشل، تحاصر البطل ذكريات الماضي السعيد حين كانت علاقته ممتازة بولديه، يختلط عنده الحاضر بالماضي ويهذي أغلب الوقت.

تنتهي الرواية بموت ويللي في حادث سيارة –انتحار على الأرجح- مما يُمكِّن عائلته من الحصول على مبلغ التأمين البالغ عشرين ألف دولار؛ فتُحل مشكلة الأقساط والديون المتراكمة عليهم، كما يفتح بذلك الباب أمام ولديه لبدء مشروعهما.

ما وراء «البائع المتجول»

المسرحية مزيج بين الذكريات والأحلام والصراعات؛ تناقش أزمة فقدان الهوية وعدم قدرة البعض على تقبل التغيير فضلاً عن التعامل معه، كما تُعبِّر المسرحية عن مدى زيف الحلم الأمريكي، الذي يهتم بالمظهر، فالأولوية للوسامة والأناقة والطابع الاستعراضي وما دون ذلك لا يوليه أي اهتمام.

وسرعان ما تفقد المظاهر قيمتها مع الكساد الكبير، تنهار المظهرية الفارغة لتُستبدل؛ إمّا لحساب القيمة الحقيقية، أو تحتل مكانها مظهرية أشد منها إبهاراً وزيفاً.

المظهرية الفارغة لا تقتصر على عالم المال والأعمال فقط، وإنما تمتد للحياة العائلية، مظهر برّاق يخفي محتوى فاسداً مُشوّهاً، تتحلل الروابط الأسرية وتبقى المادة فقط هي من تجمع العائلة معاً.

النزعة الاستهلاكية أيضاً لها تأثير مُدمر واضح، الجميع يقتنون بالدين ما يفوق قدرتهم على السداد، ثم تتعقد حياتهم جرّاء ذلك.

المسرحية هي تشريح لما أصاب المجتمع الأمريكي من أوبئة اقتصادية واجتماعية.

تم تجسيد مسرحية «موت بائع متجول» في فيلم تلفزيوني عام 1985، قام «داستين هوفمان» بدور «ويللي لومان»، فيما قامت «كيت رايد» بدور «ليندا» زوجته. «جون مالكوفيد» جاء في دور «بيف لومان»، أما عن دور «هابي» لومان فقام به «ستيفن لانج»، الذي عُرف لاحقاً بدور الرجل الأعمى في فيلم Don’t breath.

أحداث الفيلم مأخوذة نصاً من المسرحية دون أي تغيير أو تعديل يُذكر؛ مما يجعلها أكثر المعالجات إخلاصاً للعمل الأصلي.

عن بائع «أصغر فرهادي»

الفيلم الإيراني «البائع» للمخرج المتميز «أصغر فرهادي»، من إنتاج عام 2016، حصل على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2017؛ ليكون بذلك ثاني فيلم إيراني وثاني فيلم لأصغر فرهادي يحصل على تلك الجائزة، بعد فيلم «انفصال» إنتاج عام 2010، كما رُشح فيلم البائع لجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام –البافتا- في دورتها الـ71 عام 2018، عن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية.

الفيلم إنتاج فرنسي-إيراني مشترك من بطولة الممثل الإيراني «شهاب الحسيني» في دور «عماد إعتصامي» في تعاونه الثالث مع أصغر فرهادي، والبطلة «ترانيه ألودسيني» في دور زوجته «رنا إعتصامي» في تعاونها الرابع مع نفس المخرج.

تدور أحداث الفيلم على ضفاف المسرحية الشهيرة، البطل «عماد إعتصامي» يعمل مدرساً في الصباح وممثلاً في فرقته الخاصة مساءً، يمثل مسرحية «موت بائع متجول» في دور «ويللي»، فيما تقوم زوجته «رنا إعتصامي» بدور ليندا زوجة البطل.

تتعرض رنا لاعتداء بعد انتقالهما لمنزل جديد. تُصاب بصدمة نفسية، ويحاول عماد مساعدتها. يعثر على الجاني، رجل ستيني محترم المظهر يعمل في خدمة التوصيل، يعترف لعماد بأنه كان على علاقة غير شرعية بسيدة سيئة السمعة كانت تسكن قبلهما في تلك الشقة، يدخل إلى الشقة ظناً منه أن رنا هي تلك المرأة، ولكنه لا يتراجع بعدما عرف بوجود امرأة أخرى.

يستدعي عماد أهل الرجل ويقسم على فضح حقيقته أمامهم في وجود زوجته، يُصاب الرجل بأزمة قلبية ويقوم عماد ورنا بإسعافه، تطلب رنا من عماد إخلاء سبيل الرجل بخاصة بعدما اعترف بخطئه واعتذر له وكونه فر هارباً بعدما فزعت رنا فلم تخرج سوى بأقل الخسائر. يرفض عماد ثم يقبل على مضض.

قلب الرجل لا يتحمل، فيخسر حياته على سلم المنزل، وينتهي الفيلم بخروج رنا من المنزل في نفس وقت وصول عربة الإسعاف، لتُشعل خيال المشاهد وتدعه يكتب كلمة النهاية بنفسه.

«البائع الإيراني» همومه لا تختلف كثيراً عن مثيله الأمريكي، ما يقارب القرن من الزمان وآلاف الكيلومترات لم تُغيِّر من طبيعة الزيف المنتشر في كل مكان، مظهر برّاق وجوهر فاسد. البائع الإيراني تناول أيضاً صراع البشر الأكبر بين الانتصار للذات بالقصاص الحق، وبين التسامح والرحمة بالغير، صراع مرير ونتائجه مفصلية في حياة الظالم والمظلوم.

بين هذا وذاك

العمل الكلاسيكي ومعالجته بمختلف الثقافات واللغات أمر شائع جداً، لكن نادراً ما تتفوق المعالجة على العمل الأصلي.

العمل الأصلي بارد، مُغرَق في الخيالات، لا يتلامس مع الحياة الواقعية، ولا يُظهِر صراعات النفس البشرية مثلما حدث مع الفيلم الإيراني.

من جماليات المعالجة الإيرانية أنها تمت في إطار المنظومة القيمية والفكرية لصُنّاع العمل، لا يوجد مشهد خارج ولا لفظ غير مهذب، معالجة راقية تُركِّز على المضمون لا مجرد إثارة فارغة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.