كان الدينماركي «لارس فون ترير» في بدايته مخرجًا يساري الأيدلوجية موهوبًا وطموحًا، يرغب في التمرد على القوانين والمسار المفروض على السينما من هوليود، ذلك المسار الذي قاومه هو ورفاقه عندما أصدروا بيانًا في الثاني والعشرين من مارس/آذار عام 1995، وأسموه «دوجما 95»، أسس هذا البيان لمدرسة لم تستمر طويلاً. فلم يكن المقصد من البيان الاستمرارية، بل هو كصرخة مؤقته في وجه مسببي الضمور وانتشار النفعية في السينما (حسب رؤيتهم).

إنه بيان لمحاولة إعادة السينما لأصلها، وابتعادها عن التزيف، وتحرير عقول المبدعين وتدعيم استقلاليتهم. كان من أهم قواعد البيان التصوير في الأماكن الطبيعية، عدم استخدام مؤثرات صورة (إضاءة صناعية- جرافك- مكياج- أدوات قتال ومشاهد عنف) وعدم استخدام مؤثرات صوت، بل يتم تشغيل الموسيقى في موقع التصوير. استمر فون ترير في الالتزام بهذه المدرسة في ثلاثية القلب الذهبي (كسر الأمواج- البلهاء- الراقصة في الظلام).

الميل اليساري والانحياز للفقراء والمهمشين يظهر بشكل واضح في أغلب أعمال فون ترير، فأغلب إن لم يكن كل أبطال أفلامه، فقراء ومهمشون، وخصوصًا في «ثلاثية القلب الذهبي» الذي كان العامل المشترك بين البطلات الثلاثة أنهن نساء وفقيرات. يحاول فون ترير تقديم لمحة مجنونة من قسوة العالم، فيبدأ أفلامه باستعراض طيبة ومصدر معاناة الشخصية النسائية، ثم تتعقد الأزمة على البطلة، ولكن في الفصل النهائي لا يسير فون ترير مسار بقية أقرانه، حيث يجد مَخرجًا ما للبطلة، أو حتى نهاية كئيبة تتسبب في بعض الدموع للمشاهد.

هذا ليس بفون ترير الذي يمارس أقصى درجات السادية على المشاهد بنهاية كابوسية لا يتصورها أكثر متابعي الفيلم سوداوية، هكذا يتحول الفيلم من مجرد فيلم كئيب وتشاؤمي، لجرح غائر في قلب المشاهد. ولهذا تنقسم آراء محبي السينما فيه لثلاثة أقسام؛ الأول من يقدسونه ويعتبرونه أحد أعلام السينما طوال تاريخها، الثاني وهم الأكثرية يقدرون مكانته في صناعة السينما ولكنهم لا ينفون عنه صفة المريض النفسي، القسم الثالث (وينتشر في الوطن العربي) يصفونه بالمريض النفسي والمخرج المقزز والمستفز.

ولكن ثلايته الأخيرة والتي يمكن أن نطلق عليها «ثلاثية الاكتئاب»، يغير فون ترير من بعض قواعده، فما زالت الأنثى هي البطل، ولكن لم تعد فقيرة، بل من الطبقة الأغنى، أو من الطبقة المتوسطة. تحول فون ترير في تلك الثلاثية من مجرد مخرج يقوم بابتزاز المشاهد عاطفيًا بنهايات شريرة، لشخص يحمل سيفه ويريد الصدام مع المشاهدين وصناع السينما والنقاد، ويلعن أفكارهم وقيمهم.


حين تحدّت الكاميرا النص: Antichrist

أحد المشاهد المركزية في فيلم «Antichrist»، وهو مشهد الممارسة الجنسية على جذور شجرة البلوط، عندها تتراجع الكاميرا للخلف، وينتقل المشهد من الواقعية للخيال، فنرى أيادي الكثير من النساء تخرج من الجذع. عندما تقرأ السيناريو أو تتابع الفيلم دون اهتمام، ستجد أنه فيلم عن امرأة فقدت عقلها بعد موت ابنها، وتحاول الانتقام من نفسها وزوجها. حيث ارتبط في ذهنها مشهد موت الابن بالممارسة الجنسية، هكذا تحاول خصي زوجها وتختين نفسها. وفي النهاية تحاول قتل زوجها، وهذا ما يضطره لقتلها دفاعًا عن النفس.

ولكن بداية من مشهد شجرة البلوط، تبدأ الصورة في التلميح عن قضية الفيلم الرئيسية، وهي الاضطهاد التاريخي للمرأة وكل ما تمثله، أو المرأة كوعاء جنسي. فرغم أن زوج المريضة شخص متحضر ولكن تبدأ الصورة في جعله رمزًا للرجل في كل العصور. فتاريخ العنف ضد النساء لم ينتهِ إلى الآن وما زال في مسؤلية كل رجال العالم.

ومن أجل تدعيم تلك الرؤية لايتم ذكر اسم الزوجين، هي تمثل المرأة وهو يمثل الرجل. كما يستلهم الفيلم بعض مشاهده من القصص الماورائية، فشجرة البلوط تشبه شجرة الأنثى في جنة عدن، ولكنها في الفيلم ترمز للكثير من جثث النساء اللواتي تم حرقهن وقتلهن في هذه الغابة أثناء العصور الوسطى. يضطر الزوج في النهاية لقتل زوجته دفاعًا عن نفسه ويحاول الخروج من الغابة، فتلاحقه أرواح النساء اللاتي قتلن.

هكذا يقوم فون ترير بسرد مزدوج. فعلى المستوى الصغير، الزوج شخص متحضر يساند زوجته المصدومة، والتي تفقد صوابها وتأذيه جسديًا ومعنويًا، ولكن على المستوى الكلي هو فيلم تضامن مع المرأة ضد الرجل.


Melancholia: نهاية الأرض كفرصة للمقهورين

رؤية مغايرة عن المعتاد من أفلام نهاية العالم، ففيلم «Melancholia» هو الفيلم الوحيد تقريبًا طوال مسيرته الذي يحمل رؤية متفائلة. نعم فالفيلم ينتهي باصطدام كوكب «ميلانكوليا» بالأرض وتدميرها. والكوكب مسمى على اسم أحد الأمراض النفسية والتي تشبه الاكتئاب ويشتهر في اللهجة العامية بـ«منخوليا»، وهو المرض الذي تعاني منه «جاستين» بطلة الفيلم.

في الفصل الأول للفيلم نرى جاستين في فستان زفافها، تبدو سعيدة ولكن مع الوقت تظهر عليها ملامح الاكتئاب. ضمنيًا نجد أن حياة جاستين محاطة بالمدعين. بداية من أبيها الذي يدعي تحرره وانفتاحه، وأختها التي أعدت هي وزوجها فرحًا ضخمًا لجاستين، اختيار سيارة الزفاف الليموزين الكبيرة والتي لا تناسب الطريق المتعرج.

مديرها في العمل الذي يريد استغلالها وابتزازها لتحقيق أكثر أرباح ممكنة حتى في أثناء زفافها. زوجها نفسه والذي لا تكرهه ولكنها تراه مثالاً لكل الادعاءات السابقة. مرة أخرى الصورة توضح هذا كله، عكس النص الذي يبدو أنه يتحدث عن مريضة اكتئاب يحاول أهلها وأصدقاؤها مساندتها في زفافها.

تشارلي أخت جاستين، رغم طيبة قلبها، ولكنها مثل بقية أفراد المجتمع، المظهر وقيم البرجوازية المدعية تسيطر على رؤيتها للحياة. في الفصل الثاني يظهر كوكب ميلانكوليا الذي يقترب من الأرض. هكذا تفقد تشارلي المنغمسة في الادعاء أعصابها وعقلها، بينما أختها جاستين تتعافى من مرضها، وتبدأ في الحركة والانطلاق.

صوّر فون ترير تلك الحالة بمشهد جاستين وهي تجلس عارية في الحديقة، ليستقبل جسدها نور كوكب ميلانكوليا وكأنها تتدفأ به. بينما تشارلي تنظر لها برعب. فهي لا تتحمل منظر الكوكب. نهاية الأرض في نظر فون ترير هي الفرصة السانحة للتحرر لجميع المقهورين الخاضعين لقيم المجتمع المدعية، والتي تمثلهم جاستين التي تعافت تمامًا بل اكتسبت قوى خارقة مثل معرفة بعض الأشياء من المستقبل.


Nymphomaniac: عن الجنس والثقافة

«Nymphomaniac»، فيلم عن امرأة ظلت وحيدة بسبب شبقها الجنسي. الحالة التي تجعلها في حاجة لممارسة الجنس عددًا كبيرًا من المرات في اليوم لإشباع رغبتها. هي لا تعلم هل هي طبيعية أم مريضة، ولكن لأن حالتها ليس لها توصيف متعارف عليه، فلا تعلم كيف تتعامل معها، وهل لديها الحق في الزواج التقليدي والإنجاب أم لا.

في النصف الأول من الفيلم الممتد لأكثر من خمس ساعات تلعب جولي دور الصياد، والتي تدفع الرجال لممارسة الجنس معها. أما في الثاني فتتحول أحيانًا لضحية وأحيانًا لحائرة في فهم نفسها. ولكن يتجاوز الفيلم كل هذه الأمور ويركز على طريقة تعامل المجتمع معها، فالبعض يعاملها كعاهرة والآخرون كمريضة.

الفيلم سبّب صدمة كبيرة لأغلب صناع السينما والنقاد وبالطبع الجمهور. فالفيلم يبدو كفيلم بورن مع إضافة لمسات قصصية ودرامية. هنا تظهر براعة فون ترير كصانع أفلام، فهو يتطرق لأمور إنسانية وثقافية منطلقًا من فيلم تمثل المشاعد الجنسية أغلبه، بالإضافة لاستخدام المصطلحات البذيئة لوصف الأعضاء والعملية الجنسية.

تطرق الفيلم للعديد من القضايا الثقافية والجنسية. في الفصل الأخير من الجزء الأول كان سرد الفصل على مقطوعة «باخ»، حيث جمع بين مفهوم التناغم في الموسيقى والتناغم في الجنس، وكأنهم شيء واحد. ينتهي الفيلم بصور من أفضل ثلاث علاقات جنسية مارستهم جولي، وصور المراحل الثلاثة لموسيقى باخ.

يصنع فون ترير تناغمًا شكليًا وصوتيًا ليدمج المُشاهد في تعقيدات شخصية جولي. فيلم نيموفنياك كثير التفاصل ولا تكفيه فقرة واحدة، فهو فيلم شديد التمرد في كل تفاصيله وأسلوب سرده. جمع بين براعة فون ترير كصانع أفلام وبين ثقافته، وبين غضبه من الوسط الفني والنقدي خصوصًا بعد أزمته مع مهرجان كان عام 2011 عندما وصف بأنه شخص غير مرحب لحضوره المهرجان، وأنه معادٍ للسامية.


بعيدًا عن هوليوود

«بعيدًا عن هوليوود» هي سلسلة من المقالات نتناول فيها السينما العالمية غير الأمريكية، نركز فيها على العناصر الفنية المختلفة التي تميز صناعة السينما خارج أستوديوهات هوليوود العملاقة، نتناول فيها حالات فنية متفردة، وتجارب إخراجية وثقافية مغايرة.