يخبرنا موقع ويكيبيديا، الموسوعة الإلكترونية الشهيرة، أن المادة الحافظة هي مادة تضاف إلى المنتجات الغذائية والدوائية وغيرها من العينات الحيوية لحمايتها من التفكك الحيوي الناتج عن النمو البكتيري أو من تغيرات كيميائية غير مرغوب فيها. أثناء الطفولة كانت كلمة المواد الحافظة تتردد كثيرًا في حوارات الكبار، لا سيما في مناسبات مرض الصغار، فمهما اختلفت طبيعة المرض كانت المواد الحافظة هي أول المتهمين، كيف لا! وهي تدخل في تصنيع كل الأغذية المعلبة والحلوى والبسكويت والشيبسي وغيرها من المأكولات التي يعشقها الأطفال.

بعد تجربته غير الموفقة قبل عامين، يعود النجم أكرم حسني هذا الموسم الرمضاني ببطولة منفردة لأول مرة في مسلسله الجديد «مكتوب عليا»، بعد مشاركة أحمد فهمي عملين سابقين «ريح المدام» و«رجالة البيت»، ومشاركة النجم أحمد أمين المسلسل الناجح «الوصية» في موسم رمضان 2018. هذا العام يقدم حسني تجربة مختلفة وطازجة للغاية بأفكار مبتكرة على مستوى السرد وإخراج مميز من المخرج صاحب عدد من التجارب الكوميدية الناجحة خالد الحلفاوي.

تدور أحداث «مكتوب عليا» حول شخصية جلال، شاب من الطبقة المتوسطة، يعمل مدرسًا للموسيقى في إحدى المدارس التي لا تهتم كثيرًا بتلك المادة، وتخصص أغلب حصصها لاستكمال المواد الأخرى الأكثر أهمية من وجهة نظر إدارة المدرسة. يسعى جلال لتحقيق أحلامه البسيطة كاحتراف الغناء أو الارتباط بالبنت التي يحبها، عندما تنقلب حياته، التي لا تسير كما يرجو لها، رأسًا على عقب بعد لقاء عابر مع شيخ يبيع المسك في الشارع. يستيقظ جلال في اليوم التالي ليجد كلامًا مكتوبًا على ذراعه اليسرى لا يراه سواه، وكل يوم يتغير المكتوب بعد أن يتحقق بنهاية اليوم.

فكرة جديدة ومبتكرة أحسن أكرم حسني برفقة المخرج المتميز خالد الحلفاوي في استغلالها وتقديم عمل متماسك إلى حد كبير وخارج عن إطار المألوف في الدراما المصرية، كما أجاد الثنائي، الذي سبق وتعاونا في أكثر من عمل أبرزهم مسلسل «الوصية» أنجح أعمال أكرم حسني السابقة، التنويع بين كوميديا الموقف والكوميديا البصرية من دون الإخلال بالإطار الدرامي للعمل وشخصياته الكثيرة والمميزة.

السرد سيد الموقف

بعد انقضاء ثلثي الموسم الدرامي واقتراب المسلسل من نهايته، نلاحظ أول ما نلاحظ أن قصة المسلسل أقرب إلى التقليدية، ولكن ما يميزها بشكل كبير هو القالب السردي الذي تروى من خلاله الحكاية، وفي الوقت نفسه الخروج من مأزق التوظيف السردي للشخصيات والاعتماد على اسكتشات مختلفة في كل حلقة من خلال مواقف متناثرة ومنفصلة تقع فيها الشخصية من دون هيكل قصصي واضح، وهو الشكل الذي اعتمدت عليه أغلب الأعمال الكوميدية في الفترة الأخيرة بما فيها مسلسل أكرم حسني الأخير «رجالة البيت»، بل وحتى مسلسله الأكثر نجاحًا «الوصية».

مع كل يوم جديد يصحو جلال ليجد مكتوبًا جديدًا على يديه، هذه الفكرة البسيطة هي التي تقود السرد في المسلسل، وتحافظ على تشوق المشاهدين لمعرفة ما سيؤول إليه المكتوب كل يوم. إضافة إلى ذلك فهناك تنوع شديد وتلاعب بتوقعات الجمهور من خلال المكتوب، ففي إحدى الحلقات يقرأ جلال إحدى الكلمات المكتوبة بأنها «مخلل» ويقضي الحلقة في أكل المخلل انتظارًا للتحول الذي سوف يحدثه، قبل أن يكتشف أن هناك نقطة زائدة على حرف الحاء تسببت فيها إحدى البقع الجلدية، ويكتشف، ونكتشف معه، أن المكتوب هو «محلل» وليس «مخلل». إضافة إلى وظيفته الكوميدية، نلاحظ هنا أن هذا التلاعب اللفظي يؤدي وظيفة سردية أخرى لها أهمية في دفع الحدث وإحداث التحول، عندما يتزوج جلال من أخت بدوي كمحلل، لتموت الزوجة قبل الطلاق ويرث جلال كل ثروتها، ومن ثم تتخذ الأحداث اتجاهًا مغايرًا.

الجميل في المكتوب أنه لا يقيد التوقعات ولا يحكم سلوك البطل إزاءه، فبعد الحلقات الثلاث الأولى نفهم أن هذا المكتوب يحمل خيرًا للبطل، وعلى هذا الأساس يتحرك جلال لمحاولة تحقيق المطلوب وجني الخير الكامن وراءه، ولكن هذا المكتوب لا يتعدى أن يكون بضع كلمات، تأتي مفردة أحيانًا، وتجتمع في جمل مكتملة في أحيان أخرى، ومن ثم فإن البطل لديه حرية التصرف التامة في ما يفعله، وفي أغلب الأحيان لا يفهم المكتوب فيقوم بتصرفات غريبة، والمشاهد كذلك لا يفهم المكتوب إلا بعد تحققه في نهاية كل حلقة، ومن ثم فإن التشويق يبقى طازجًا وحاضرًا طول مدة الحلقة، وفي الحلقة التالية نعيد الكرة بشكل جديد ومختلف.

الكوميديا ليست نقيض الدراما

الكوميديا هي أحد تصنيفات الدراما، ولكن الخطأ الشائع أن الدراما صنو التراجيديا، ومن ثم اعتبارها نقيضًا للكوميديا. في مسلسل «مكتوب عليا» تنتظم أغلب عناصر الدراما بشكل متماسك إلى حد كبير، على خلاف كثير من الأعمال الكوميدية المصرية في السنوات الأخيرة. لدينا شخصيات مرسومة بشكل دقيق وواقعي بلا أي مبالغات كاريكاتيرية، تحكمها حبكة رئيسة تنظم العلاقات في ما بينها وتؤطر صراعها الداخلي والخارجي وتقود العملية السردية.

لنأخذ على سبيل المثال قصة الحب التي تجمع بين جلال وسلمى، والتي تتطور بشكل لطيف للغاية، وسنجد أن كل الصدف التي تحدث بين الشخصيتين سواء ارتبطت بالمكتوب أم لا، هي صدف واقعية تدفع في اتجاه تطور العلاقة والمشاعر بين الشخصيتين، وفي مرحلة لاحقة تدفع باتجاه تطور الصراع. منذ البداية تبدأ العلاقة عندما يصادف جلال سلمى في أحد البنوك، وهو البنك الذي تودع فيه المدرسة التي يعمل بها أموالها. ومن ثم يتطور الإعجاب الظاهري البسيط عندما يصر جلال على توصيل محصل المدرسة إلى البنك، وهي الرحلة التي من المنطقي أن تكرر أكثر من مرة، ومن ثم يتكرر اللقاء. أما أول تدخل للمكتوب فيكون في صورة موقف واقعي هو أرقام الدخول إلى البنك، والذي اعتاد عليه المشاهد في حياته اليومية، ومن ثم تنبع الكوميديا هنا من الموقف نفسه، وتعكس في الوقت نفسه ظاهرة اجتماعية حقيقية.

أما الشخصيات وما يجمعها من علاقات متباينة فهي منبع آخر للكوميديا تم رسمه بشكل دقيق وواقعي، فنجد مثلًا شخصية الأب وعلاقته المتوترة على الدوام بالابن والمواقف الكثيرة التي تخلق منها الكوميديا الطازجة والمتجزرة مجتمعيًا.

قس على ذلك باقي الشخصيات وما يجمعها من علاقات، فهناك شخصية ابنة الخالة التي تحب جلال وترغب في الارتباط به، أو شخصية خطيب الأخت الذي لا يروق لجلال فيداوم على وصفه بكلمة «اللطيز» بما لها من وقع كوميدي نظرًا للتلاعب اللفظي الذي يدركه المشاهد على الفور ويقع في غرامه، وهي الشخصية التي يلعبها بشكل جيد للغاية الممثل الموهوب محمد طعيمة، وهناك أيضًا من الشخصيات الثانوية شخصية سيد صديق جلال، وفكرة إيمانه العميق بالخير الكامن في الإنسان، وهي التفصيلة التي رسمت بقدر من المبالغة يناسب النوع ويحمل دلالة اجتماعية مهمة عن الشخصيات الساذجة، من دون أي افتعال أو ابتذال وبأداء مميز أيضًا من الممثل الشاب محمود السيسي.

أما أبرز مواطن التجديد على مستوى الدراما، فهو جرأة صناع المسلسل على إدخال جانب مظلم على الحكاية مع بداية مرحلة التحول، وذلك بحادثة الموت الهزلية للخالة، والتي كانت اللحظة التي تطورت فيها العلاقة مع رقية ابنة الخالة، ونشوب الصراع بينها وبين جلال تمهيدًا لتحول شخصية البطل إلى جانبها المظلم بعد التورط في العديد من الأعمال الإجرامية مع بدوي، فضلًا عن اضطراره للكذب بشكل متكرر للخروج من فخاخ رقية ومطاردتها.

الكوميديا البصرية

خلال تجربته القصيرة قدم المخرج خالد الحلفاوي مجموعة من الأعمال الكوميدية المميزة، لا سيما على مستوى الكوميديا البصرية سواء في السينما في أعمال مثل «يا تهدي يا تعدي» أو «نادي الرجال السري»، أو الدراما التلفزيونية في أعمال «الوصية»، و«بدل الحدوتة تلاتة» وأخيرًا في «مكتوب عليا». شهدت هذه الفترة القصيرة تطورًا واضحًا للمخرج الشاب، وتمكن لافت من أدواته وتوظيفها لخلق كوميديا بصرية مختلفة ومطلوبة بشكل كبير في ظل تغول الكوميديا اللفظية وكوميديا الاسكتشات.

يوظف الحلفاوي الأدوات البصرية في خلق الكوميديا بشكل مميز للغاية، نلاحظ ذلك من خلال التكوينيات كما في مشهد انهيار رقية بعد اعتراف جلال بحبه لسلمى واصطفاف العائلة في خلفية المشهد، وتكرار الأمر نفسه في المشهد التالي بعد تورط جلال في الاعتراف كذبًا بحب رقية وانهياره في مقدمة الكادر والبقاء على اصطفاف العائلة في الخلفية. نلاحظه أيضًا في تفاصيل بسيطة في حركة الكاميرا كما في مشهد خطوبة جلال ورقية واختفاء جلال ليومين احتفظت خلالهم العائلة بضيوف الخطوبة كالأسرى، ثم استكمال حفل الخطوبة بعد عودة جلال والكشف عن وجود الضيوف من خلال حركة الكاميرا وانبساط الكادر.

نجد ذلك أيضًا من خلال تقنيات كوميدية شهيرة مثل التصوير البطيء في مشهد مطاردة رجال بدوي لجلال وسيد، ثم تجميد الكادر على صورة محددة يظهر فيها جلال وسيد بشكل مضحك لا سيما سيد بجسمه الضخم، وهي محاولة ذكية لاستغلال الكوميديا الجسدية بلا أي ابتذال أو تنمر ودمجها بكوميديا الصورة. وهناك أيضًا التوظيف التعبيري في أحد المشاهد التي ينفعل فيها جلال ويضرب بدوي على وجهه وبعد الانتقال القصير لمشهد تالٍ نعود إلى بدوي القابع في نفس المكان ومن خلال الإضاءة ندرك مرور الزمن حيث يتحول المشهد النهاري إلى ليلى وبعد خروج كل الموظفين من الشركة، للتعبير عن صدمة بدوي وعدم استيعابه لفعل جلال، ثم يصيح بجملة كوميدية في موظفيه غير الموجودين «امسكووووه».

يعج مسلسل «مكتوب عليا» بمثل هذه المشاهد الذكية والمتقنة على مستوى الكتابة والإخراج، والتي لا تخرج عن سياق الحكاية والدراما، ولا تناقض طبيعة الشخصيات وإنما تلتزم بالبنية الدرامية ولا تتجاوزها من أجل لحظات زائفة ينفصل معها المشاهد عن العمل وتفتر فيها رغبته في متابعته وتحافظ في الوقت نفسه على مستوى التشويق بلا أي ابتذال أو استسهال.

كوميديا صحية

يعرف موقع ويب طب المواد الحافظة بأنها مواد كيميائية تستخدم للحفاظ على المواد الغذائية طازجة لفترة أطول. لا أجد تشبيهًا أفضل من ذلك لوصف الأعمال الكوميدية الغثة والرديئة التي تكتظ بها شاشات التلفزيون والسينما المصرية في السنوات الأخيرة، والتي تجاهد للحفاظ على منابع ركيكة ومبتذلة للدراما جفت ضروعها وعدمت إنتاج الضحك منذ سنوات طويلة. على مدار العقدين الأخيرين مرت الكوميديا بلحظات صحوة قليلة تارة باستخدام كوميديا الشخصية في أعمال محمد سعد مثل اللمبي وبوحة وعوكل، أو في بعض أعمال أحمد مكي مثل «إتش دبور» و«الكبير أوي»، وتارة باستخدام البارودي واللعب على وتر النوستالجيا من خلال أعمال الثلاثي أحمد فهمي وشيكو وهشام ماجد، وبعض أعمال أحمد مكي، ثم تدخل في سبات عميق تسوده محاولات بائسة لإعادة إحياء تلك التيمات وغيرها.

أما أسوأ ما منيت به الكوميديا المصرية فهو الاعتماد على خليط من كوميديا الشخصية والاسكتشات المنفصلة التي تليق ببرنامج تلفزيوني وليس عملًا دراميًا حقيقيًا، والتي غلب عليها المبالغة الشديدة والبعد عن المنطق ناهيك عن الواقع الاجتماعي الذي تقوم الكوميديا على نقده فنيًا. عمد صناع هذه الأعمال الرديئة على إضافة كثير من المواد الحافظة، أملًا في استضحاك الجمهور ببضاعة اعتراها التلف وأتى عليها الزمن.

مسلسل «مكتوب عليا» أحد أنضج الأعمال الكوميدية وأكثرها طزاجة في السنوات الأخيرة، والذي ابتعد تمامًا عن أي مواد حافظة، وعمد إلى الابتكار والتجديد مع الالتزام بحدود الدراما وأصل النوع، والتنوع بين مشارب الكوميديا ما بين الموقف والكوميديا البصرية، وأتقن رسم شخصياته وما يجمعها من علاقات وصراعات، ليقدم في النهاية عملًا فنيًا قيمًا وكوميديا حقيقية وصحية بلا أي ابتزال أو إضافات صناعية.