فالمدينة دهرها دهران..
دهر أجنبي مطمئن لا يغير خطوه وكأنه يمشي خلال النوم..
وهناك دهر كامن متلثم يمشي بلا صوت حذار القوم..

هكذا يصف الشاعر الفلسطيني «تميم البرغوثي» حال القدس التي تعاني من وطأة الاحتلال وجبروته. وهكذا تكون المدينة أيضًا في أيام الأعياد الإسرائيلية، دهرٌ يهودي يحتفل ويطلق الصيحات، ودهرٌ عربي ساكن يعاني القهر والقمع. لا يختلف الأمر كثيرًا بين عيد وآخر، أو بين مسيرة دينيةٍ وأخرى، فغالبًا ما تكون الطقوس اليهودية وبالًا على القدس وأهلها. تضييق وقمع بحجة تأمين احتفالات المستوطنين.

تلك الحماية الأمنية المشددة تعطي المستوطنين الضوء الأخضر للسرقة والعربدة في الشوارع المقدسية. كما ترعى قوات التأمين عمليات النهب والترويع التي يمارسها المستوطنون. كما يحوّل المستوطنون المقيمون في القدس منازلهم لفنادق مجانية للمستوطنين القاطنين خارج القدس ليتناولوا فيها وجبة العيد، ويناموا فيها ليلة العيد. وبسبب الاكتظاظ يفضل المستوطنون النوم خارج منازل أقرانهم فيتراصون أمام بيوت المقدسيين، وغالبًا ما يبدؤون في ترتيل طقوسهم لأجل استفزاز أصحاب الأرض.

وإذا اقتربت أكثر من مناطق كحي عقبة الخالدية والقرمي والسرايا وطريق الواد والسلسلة سوف تكتشف أن التنكيل بهم يزداد عن غيرهم، فيطالهم التنكيل الأمني والخسارة الاقتصادية. فيجبرون على إغلاق محالهم التجارية، وقد يُجبر بعضهم على مغادرة المدينة ريثما تنتهي الاحتفالات. كما تتراكم المحاصيل الزراعية الخاصة ببعضهم على الحواجز حتى تفسد وهي تنتظر الإذن بالدخول.

وفي الغالب يستجيب المقدسيون لقرارات الغلق خوفًا من التهديدات بالمخالفات المالية الكبيرة التي سيفرضها عليهم الاحتلال. لكنهم كذلك لا يستجيبون لقرار المغادرة من المنطقة، وحتى إن غادرت العائلة فإن رب العائلة والقائم بأعمال المحل التجاري المُغلق يعود إليه كل صباح، ويجلس أمامه وهو مغلق. في رسالةٍ يصر أهل القدس على إبلاغها للجانب اليهودي، أن المدينة لن تفرغ من سكانها الأصليين مهما حدث.

المسجد الأقصى بالمقايضة

منذ مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1974 شكّل الجانب الإسرائيلي لجنة شمغاز، التي قررت تقسيم الحرم بين اليهود والمسلمين زمنيًا. فالحرم الإبراهيمي يُغلق أمام المسلمين 10 أيام كل عام، ويُفتح في تلك الأيام ال 10 بالكامل للمستوطنين. تلك الأيام ليست متتابعة لكنها مرتبطة بأعياد اليهود المتكررة على مدار العام.

فيبدأ الإغلاق في يومي 30 و31 مارس/ آذار من كل عام للاحتفال بعيد الفصح اليهودي. وفي 5 أغسطس/ آب للاحتفال برأس السنة اليهودية. وفي 7 سبتمبر/ أيلول لمدة 4 أيام، ثم في 12 و14 و15 من نفس الشهر للاحتفال بعيد الغفران. كما يُغلق الحرم أمام المسلمين في 22 و23 و27 أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام للاحتفال بعيد العرش. وفي 28 نوفمبر/ تشرين الثاني للاحتفال بعيد سبت السيدة سارة.

أما باقي أيام العام فيُفتح الحرم للمسلمين من الثالثة صباحًا وحتى التاسعة ليلًا. ويفتح الحرم بشكل كامل للمسلمين في 10 أيام، هم 4 جُمع من شهر رمضان المُعظم، وليلة القدر، وعيد الفطر وعيد الأضحى، وفي ليلة المولد النبوي، وفي ليلة الإسراء والمعراج، ورأس السنة الهجرية. وفي حالة اشتمل رمضان على 5 جُمعات فإن الاحتلال يقوم بفتح الحرم فيها، لكن يُغلقه يومًا إضافيًا أمام المسلمين دون أن يكون هناك عيد يهودي أو أي داعٍ أمني، كأنها مقايضة، يوم في مقابل يوم.

رغم أن أيام الإغلاق الرسمية 10 أيام، فإن الواقع المقدسي يحكي عن أن الإغلاق قد يحدث في أي وقت من السنة بدون أي مبرر. كما يختلق الجانب الإسرائيلي مناسبات عامة أو زيارات لشخصية دولية مبررًا لإغلاق أبواب الجامع الأقصى وقبة الصخرة في وجه المسلمين، وتطويق المنطقة بالكامل بسياج أمني شديد الحراسة.

عيد المساخر والغفران

من الأيام التي يختلقها الجانب الإسرائيلي لغلق الحرم الإبراهيمي ومحيط القدس كانت أيام مسيرة الأعلام التي انطلقت في 15 يونيو/ حزيران 2021 وأثارت غضبًا شعبيًا فلسطينيًا. مسيرة الأعلام يحييها اليهود احتفالًا بذكرى احتلال القدس عقب حرب يونيو/ حزيران عام 1967.

قد تكون مسيرة الأعلام الماضية، والتي تزامنت مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والقدس، قد تكون هي التي لفتت النظر إلى الطقوس الإسرائيلية الاستفزازية، لكنّها ليست الطقس الوحيد كما سبق القول. فمثلها احتفالات عدة تضيّق على الفلسطيني حياته اليومية الخانقة بالفعل.

مثل عيد المساخر، حيث يحتفل اليهود بانتصارهم على مخطط هامان الوزير اللا سامي في إمبراطورية فارس. ويُعتبر عيد المساخر، البوريم، من أشهر الأعياد الإسرائيلية ويُفرض حصار خانق على الضفة الغربية وقطاع غزة لضمان أمن المحتجين. ويحتفل اليهود به على مدار يومين متتاليين.

أما أقدس أيام اليهود فهو يوم الغفران، عيد الكيبور، حيث لا اغتسال ولا طعام ولا شراب ولا مساحيق تجميل ولا أحذية ولا جنس. لا سيارات تسير في الشوارع، لا إذاعات ولا قنوات تلفزيونية، فقط صلوات من أجل طلب الغفران. وبما أن حياة اليهود قد وقفت، فيجب على حياة الفلسطيني أن تقف كذلك، فتُمنع سيارات الفلسطينيين من الحركة، ويُحرم الأفراد من الانتقال إلى أي مكان.

يليه في القدسية يوم الروش هشانا، وهو أول أيام السنة العبرية. ويتميز كذلك بالإغلاق التام، ويقضيه اليهودي في الكنيس. وغالبًا ما يشهد هذا اليوم اقتحامات للمتطرفين اليهود للمسجد الأقصى. وتتميز هتافاتهم بالنفخ في بوق مصنوع من أقران الكباش، أو الشوفار كما يسميه اليهود. وقرن الكبش إشارة إلى الكبش الذي ذبحه النبي إبراهيم فداءً لابنه إسحاق، حسب الرواية اليهودية، بعد أن رأى منامًا يذبحه فيه.

أمّا عيد الفصح، أو البيساح، فذكرى خروج بني إسرائيل من مصر، وتحررهم من العبودية. وفيه تُعطل المدارس والمصالح الحكومية ويُفرض حصار على الفلسطينيين كذلك.

إسرائيل تحتفل باستقلالها

أما عيد العرش أو عيد المظلة أو عيد السكوت كما يسميه الإسرائيليون ففيه ينام اليهود في خيام منصوبة على أسطح المنازل، أو في أماكن قريبة من البيوت أو المسجد الأقصى. في ذلك العيد يتذكر اليهود سنوات التيه وحياة اليهود فيها لمدة 40 عامًا في سيناء مصر. وينشئ اليهود فيه مظلّات كبيرة يتناولون كافة الوجبات أسفلها لمدة 7 أيام متتابعة.

في تلك الأيام يغلب على اليهود الفرح، بينما ينقلب الأمر نكدًا وكدرًا على حياة الفلسطيني. الأمر مختلف قليلًا في يوم ذكرى خراب الهيكل، أو يوم الصيام، حيث يكون يومًا نكدًا على اليهود أنفسهم فيتذكرون فيه معابدهم التي دُمرت. بالتالي يكون اليوم أشد ظلامًا على الفلسطينيين، وخاصة أنه غالبًا ما يصادف عيد الأضحى عند المسلمين، فيحرص اليهود على تكدير اليوم والدخول في اشتباكات عنيفة.

من الأيام الكئيبة أيضًا يوم هاعتسماءوت، يوم الاستقلال الإسرائيلي، وهو عطلة مستحدثة للاحتفال بقيام إسرائيل عام 1948. ويسبق ذلك اليوم يوم هازيكارون، حيث يُحيي فيه الإسرائيليون ذكرى الجنود الذين سقطوا في خلال الحروب التي سبقت استقلال، أو إعلان، إسرائيل، ويعرب فيه اليهود عن شعورهم بالدين تجاههم. ومأساة ذلك اليوم أنه يوم النكبة عند العرب والفلسطينيين، فيحيون فيه مسيرات العودة، لذا فغالبًا ما يشهد اليوم أحداثًا دموية.

ومن الأعياد المتعلقة بالقدس عيد توحيد القدس، ويحتفل فيه اليهود باحتلال الجزء الشرقي من القدس عام 1967. وفي ذلك العيد تحديدًا يحرص المستوطنون على اقتحام المسجد الأقصى لتأكيد حقهم فيه. ويصبح الوضع كارثيًا إذا ما وافق اليوم، يوم 28 في الشهر الخامس من التقويم العبري، الأيام الأخيرة من شهر رمضان مثل ما حدث عام 2019.

لا تكاد السنة الميلادية تنتهي إلا ويوجد عيد جديد لليهود، 10 ديسمبر/ كانون الثاني ولمدة 8 أيام. يُسمى ذلك العيد بعيد الأنوار حيث يحتفل اليهود بحصولهم على حريتهم في العبادة بعد أن قاد اليهود المكابيّون تمردًا على السلوقين عام 165 بعد أن حاول الملك أنطيخوس الرابع فرض الثقافة الهلينية على اليهود، وإرغامهم على عبادة آلهة الإغريق. ويقول اليهود إن الزيت الموجود في الهيكل كان يكفي ليضيء لهم ليلتين فقط، لكن ظل مشتعلًا ثماني ليال حتى انتهى تمردهم بالانتصار.

ولا تنتهي السنة ولا تبدأ الجديدة إلا بعيد آخر، الهولوكوست في 27 يناير/ كانون الثاني، حيث ذكرى الإبادة الجماعية لليهود. ومهما اختلفت أسباب تلك الأعياد، وسواء كانت تاريخيّة أو دينية، قديمة أو مستحدثة، حزينة أو سعيدة، فإنها جميعًا تتفق في تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم.