يسأل سائل: ألم تفسر نظرية التطور تنوع الحيوانات واختلافها على نحو لم يُبقِ حاجة لافتراض وجود إله خالق؟

تكلمنا في الحلقات الماضية عن نظرية التطور وشرحناها شرحًا مبسطًا، وتكلمنا عن سبب اهتمامنا بها[1]، ولماذا النظرية احتلت منزلتها العلمية، وما قابلها من مواقف: كالموقف التخليقي، وموقف التصميم الذكي. وحاولنا تبيين علاقة ذلك بالموقف الديني المتنازع بين الفرق[2]. ونقدنا فريقين: الفريق الذي يقول: (الطبيعة فعلت، فلا حاجة لإله)، والفريق الذي يقول: (الطبيعة لا يمكن أن تفعل بعض هذه الأمور تحديدًا! فهذا فعل الله).

وبينا أن الفريقين عندهما خلط في مجال البحث والنظر إلى الكون. وفرَّقنا بين البحث عن السببية العادية والقوانين الكونية من جهة، وبين البحث عن المقتضى العقلي والنظر للكون من حيث كونه ممكن الوجود مفتقرًا إلى موجِد. وأن فعل الله في الكون هو نفس إقامة قانون الأسباب وخلق هذه الارتباطات الكونية.

ونشرع في هذه الحلقة في الجواب على بعض أهم المسائل التي جاءت بها النظرية، والتي تسببت في شرخ كبير في بعض الاستدلالات المشهورة في القرن التاسع عشر على وجود الله. ونبين موقفنا منها، ونبين كيف أن النظرية لم تغننا عن وجوب افتقار الكون إلى خالق.

دليل صانع الساعات

قبل مجيء دارون كان هناك دليل من أشهر الأدلة على وجود الله، وهو الدليل الغائي أو التيليولوجي teleological argument والذي يسمى بدليل صانع الساعات Watch maker’s argument ويسمى أيضًا بدليل التصميم argument from design والذي اشتهر بنسبته لويليم بيلي William Paley.

فما هي هذه الحجة التي يقال إن النظرية التطورية قد أبطلتها؟

حاصل دليل بالي: أنك لو وجدت ساعة ملقاة على شاطئ ونظرت فيها، لوجدت أجزاءها مركبة بدقة، كل جزء له دور محدد يظهر أنه من أجله وجد، فتعتقد حينئذ أن الساعة هذه لا بد أن هناك صانعًا للساعات قد صمم أجزاءها، ثم ركبها لتعمل بهذه الدقة والإحكام.

يقول بالي:

كذلك في عالم البيولوجيا، لو نظرنا إلى أجزاء الكائنات الحية، لوجدناها مصممة مركبة من أجزاء وأعضاء، ولوجدنا هناك غاية واضحة في كل خلق لأعضاء المخلوقات، فالرب خلق لنا اليدين لعلة معينة، نفعل بها كذا وكذا … إلخ، فكل عضو وكل جزء في الكائن الحي هو مُصمم كما أن أجزاء الساعة مصممة، ووجد للقيام بتلك الوظيفة التي صمم من أجلها، وكل تصميم لا بد له من مصمم، وهو الإله. [3]

ريتشارد دوكنز .. وصانع الساعات الأعمى

ثم جاءت نظرية دارون، وأعطت نموذجًا لتفسير تعقد الكائنات الحية عبر سنوات طويلة من التغيرات الجينية العشوائية والانتخاب الطبيعي، فضعَّفت دليل بالي، وقد كان دارون نفسه من المؤمنين بدليل بالي، ثم تسببت اكتشافاته في نسف الدليل.

يقول العالم البيولوجي الشهير الملحد ريتشارد دوكنز بعد أن بين كيف أن تشارلز دارون نقض نظرية بالي:

Paley’s argument is made with passionate sincerity and is informed by the best biological scholarship of the day, but it is wrong, gloriously and utterly wrong.… All appearances to the contrary, the only watchmaker in nature is the blind force of physics … Natural selection, the blind unconscious, automatic process which Darwin discovered, and which we now know is the explanation for the existence and apparently purposeful form of all life, has not purpose in mind. … If it can be said to play the role of watchmaker in nature, it is the blind watchmaker. [4]

فحاصل ما سبق:

أن هذه الحجة كانت من أقوى وأهم الأدلة على وجود الإله -خاصة بالمقارنة بأدلة أخرى مشهورة مثل الدليل الأنطولوجي لأنسلم، وفكرة (طفرة الإيمان) لسورين كيركيجارد، ورهان باسكال- ولكن هذا الدليل قد دحضه دارون تمامًا. فتبين أنه ليس هناك (صانع ساعات) بل قوة الفيزياء العمياء، والانتخاب الطبيعي غير الواعي. فقوانين الطبيعة تلك هي صانع الساعات الأعمى الذي أوصلنا إلى تعقد الكائنات الحية.

بعد أن أبطلت النظرية هذا الدليل صار الموقف الإلحادي يقول على لسان دوكنز:

… although atheism might have been logically tenable before Darwin, Darwin made it possible to be an intellectually fulfilled atheist[5]

ومعنى كلامه:

بالرغم من أن الإلحاد كان يمكن الدفاع عنه منطقيًّا قبل دارون، فإن دارون قد جعل من الممكن أن يكون الإنسان ملحدًا مستغنيًا ومطمئنًا فكريًّا.

وقالوا كذلك: قبل دارون رأوا أن الكائنات الحية مصممة تصميمًا بديعًا، ولكن نظرية التطور بينت أنه لا تصميم، فقط وهم التصميم Illusion of design، وذلك لأن التصميم يحتاج إلى مسودة need a blue print، ثم إن المصمم الجيد يخطط لمقصده وينفذه طبقًا لهذا المقصد، ولكن الذي وجد في الطبيعة على خلاف ذلك. فقد وجدنا “الشاسيه” القديم الذي كان أصلًا لحيوان قبل الحيوان الذي نراه، يتم البناء عليه. فإنا نجد أشياء في الحيوانات لا فائدة لها البتة، وإنما هي أشياء كانت موجودة في الحيوان الذي تطور عنه. فهذا ليس صنع مصمم، هذا صنع الانتخاب الطبيعي، يبني على الموجود الذي قبله، وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى. فهذا ليس فعل مصمِّم يعرف ما يريد ويصممه لأداء مهمة يريدها.

يقولون: ثم لو سلمنا أنه صنع مصمم، فهذا لا يجيب على السؤال، إذ سيبقى سؤال: فمن صمم ذلك المصمم.

وسنشرع الآن في بيان موقفنا من هذا الدليل التيليولوجي (دليل الغائية) وكيف نقده علماء الإسلام قبل ولادة دارون بقرون طويلة، وكيف أن ما اعتمدنا عليه في إثبات الإله ووجوب استناد الكون إليه لا يتأثر البتة بالكشف العلمي الهام لدارون.

الجولة الأولى من الجواب: نقض العلة الغائية

النظرية أضعفت مبدأ التيليولوجي أو الغائية[6]. وذلك أن يكون وجد الشيء لغاية.

فدليل بالي يعتمد العلة الغائية. يقول إننا نجد في الأجزاء الحية يد، وقلب، ورئة، وأعصاب. كل شيء قد تشكل بشكل معين ليقوم بدور محدد، ولولا هذا الدور لما صُمِّم هذا الشيء. فاليد للقبض والبسط، العين للرؤية، ولولا هذه الغاية لما وجدت هذه الأشياء. فدل ذلك على وجود مصمِّم علم بهذه الغاية وأرادها ثم صمَّم الكائنات على النحو الذي تؤدي فيه هذه الوظائف.

والنظرية بينت كيف تحصل تلك التشكلات والتقيد والأجزاء نتاج عشوائية في الأصل، ناسبت الواقع والطبيعة، فانتُخبت وبقيت، فهي ليست مثل أجزاء الساعة، ولا يوجد في الطبيعة  سعي نحو غايات تنقاد إليها الأشياء لتحقق كمالاتها الغاية التي بسببها وجدت الأشياء، فهذا هو المراد بنفي الغائية في الطبيعة.

فما موقفنا من العلة الغائية؟

قد شاع في التراث الإسلامي نقض فكرة العلة الغائية في أفعال الإله. لأن معنى العلة الغائية أن تحقيق الغاية هي سبب وجود الشيء. وهذا عند علماء الإسلام القدماء ينافي إطلاق الإرادة الإلهية؛ لأن القول بالعلة الغائية يقتضي جعل الإله مضطرا إلى خلق الشيء حتى يحقق غايته، ولا يمكنه تحقيق هذه الغاية إلا عن طريق هذه الآلة المعينة. ولتوضيح هذا المعنى نضرب مثالًا: تخيَّل إنسانًا يعمل فقط من أجل تحصيل المال، ولولا حاجته للمال لما عمِل. فهذا الإنسان في الحقيقة لا يقصد العمل قصدًا أوليًّا، بل إنه مضطر إلى العمل لتحقيق مقصوده الأصلي وهو تحصيل المال. فالعلماء نفوا هذا النوع من الاضطرار والعلل الغائية في أفعال الله تعالى.

وهذا لا يعني أن لا حكمة في أفعال الإله، ولكن أن الله تعالى ليس مضطرا إلى إيجاد شيء معين لتحقيق نتيجة معينة. بل هو سبحانه قادر على تحقيق هذه النتيجة بسبب آخر، أو بغير سبب أصلًا. وأن فعل الله هو الحكمة، لا أن الحكمة تقيد أفعال الله. وهذا الذي قررناه هو ما يقرره علماء المسلمين منذ قرون طويلة:

يقول الإمام عبد الكريم الشهرستاني (ت 548 هـ ـ 1153 م):

لا لعلة حاملة له على الفعل، سواء قدرت تلك العلة نافعة له أو غير نافعة؛ إذ ليس يقبل النفع والضر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق إذ ليس يبعثه على الفعل باعث، فلا غرض له في أفعاله ولا حامل. ونحن لا ننكر أن أفعال الله تعالى اشتملت على خير وتوجهت إلى صلاح، وأنه لم يخلق الخلق لأجل الفساد. ولكن الكلام إنما وقع في أن الحامل له على الفعل ما كان صلاحًا يرتقبه وخيرًا يتوقعه، بل لا حامل له.

فالخلاصة:

لا يوجد ما يقيد إرادة الله في فعله، يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، وليس ملزمًا بشيء، ولا هناك علة غائية تبعثه بسببها يفعل ما يفعل، بل يفعل لأنه أراد أن يفعل، وهو مستغنٍ عن كل آلة وكل غرض لولاه لما كان سببًا لإقدامه على فعله.

وبالتالي، فإننا نقول إن ما نعتقده ليس أن الله أراد تحقيق غايات معينة فخلق الأشياء على هذه الصورة لتحقق غاياتها اضطرارًا منه إلى ذلك. بل إن الله قد أراد كل شيء إرادة أولية. فأراد أن تحصل التغيرات الجينية العشوائية (لأن حصول هذه التغيرات أصلًا هو أمر ممكن الوجود، وكل ممكن الوجود لا بد له من مسبب)[7]، وأن توجد الآثار المترتبة على هذه التغيرات.

وحصول الجين الفلاني أو العلاني وما يتبعه من أثر، كله معلوم مراد مختار مُوجَد، إذ هو من جملة المخلوقات، وكل الخلوقات معلومة مرادة مقدرة، ضرورة كونها ممكنة الوجود حادثة.[8]

فلا شيء يحصل في الكون “بلا سبب” وأنه عشوائية أو صدفة لا عن شيء، بل كل شيء هو فعل الله وإيجاده، ولا حصول لشيء في الحقيقة بغير الله.

وأن “العشوائية” بمعنى أننا لا نجد لها نمطًا محددًا، لا يعني أنها (حدثت بغير محدِث)، ولا يعني أن من أحدثها لم يكن عالمًا بها! فالله تعالى عالم بكل شيء، ومحدِث كلَّ شيء[9]. {الله خالق كل شيء} {وخلق كل شيء فقدره تقديرًا} {وكان أمر الله قدرا مقدورًا}. وأراد أن تكون الموارد أقل من الحيوانات المتكاثرة، وأن يحصل بينها انتخاب يبقى فيه الأليق بالبقاء، وأن تكون هذه المخلوقات قاصرة يعتريها الأمراض والضعف أحيانًا. كل ذلك مقصود للإله قصدًا أوليًّا.

وإنما الخلل هو عند من يجعل للطبيعة تأثيرًا ذاتيًّا وخلقًا، ويقول (قد أوجدت الطبيعة كذا)، (ولم يوجده الله). هذا والطبيعة نفسها –على أي شكل كانت، وعلى أي قانون اعتمدت- هي في العقل ممكنة، كان يمكن أن تكون أو لا تكون، فافتقرت إلى مرجح واجب الوجود.

قد ذكرنا في مقالة سابقة[10] أن سبب افتقار الكون إلى خالق ليس أنه جميل، أو أنه متناسق، أو أنه غائي teleological (بمعنى أن كل جزء من أجزائه خُلق لأداء غرض ما لا يتحقق هذا الغرض بدونه)، أو أنه على هيئة مخصوصة معينة جميلة، أو منظمة تنظيمًا معينًا، أو متناسقة مع بعضها، أو معقدة، أو ساذجة، أو مركبة، أو بسيطة، أو مصممة على أي نوع من أنواع التصميم، أو أن الكون ملائم للحياة عليه أو غير ملائم.

فتوقف الكون على الإله ليس منوطًا بأي وصف من هذه الأوصاف، ولكنه مرتبط بمجرد كون حقيقته أنه ممكن الوجود، أي يستوي وجوده وعدمه من جهة الحكم العقلي، فلا يترتب أي تناقض منطقي على وجوده الآن، أو على وجوده بصورة أخرى، أو على عدم وجوده أصلًا. ولما كان الكون ممكنًا كان مفتقرًا إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، أي يحدثه.

فإن الكون لو كان مجرد صخرة صماء، لكان مفتقرًا إلى المكوِّن، لأن هذه الصخرة وجودها ممكن، واتصافها بمقدار معين ممكن، وجريانها على قوانين معينة ممكن، فتحتاج في ابتداء وجودها واستمرارها إلى مخصص، بل لو كان الموجود من الكون ذرة واحدة فقط، فسيجري عليها نفس الكلام!

ونقول إن هذا الذي قلناه، إنما قلناه لقيام الدليل العقلي عليه، وليس الدليل الحسي التجريبي. ومن أراد الاستزادة من هذه المسألة فليقرأ مقالتنا عن وجه افتقار الكون إلى الله[11].

فنحن لم نقل هذا لأننا لم نجد سببًا فيزيائيًّا أو بيولوجيًّا أو كميائيًّا في مسألة ما فقلنا: إذن لا بد أن يكون هناك سبب أوجد العالم. فليس بحثنا محاولة لسد جهلنا. بل لو فهمنا جميع أسرار الكون، وجميع ارتباطات أجزائه بعضها ببعض، وجميع ما يسري فيه من قوانين، لحكمنا أيضًا بأنه مفتقر للخالق الواجب الوجود لأنه ممكن، وما قيل في الكون يقال في قوانين الكون التي هي من جملته، والتي يجوز بالنظر العقلي أن تكون على غير ما هي عليه.[12]

فالعلم بها لا دلالة فيه أبدًا على استغناء الكون عن إله مدبر له مبقٍ، فضلًا عن أن يستغني عن موجد!

ونورد هنا كلام الإمام تقي الدين مظفر بن عبد الله المقتَرَح الذي توفي سنة 612 للهجرة، الموافق سنة 1215 للميلاد (أي قبل ميلاد تشارلز دارون بحوالي 600 سنة). يقول:

وقد استُدل على كونه تعالى عالمًا قادرًا بطريق الإحكام والإتقان الذي هو مقابلة الفعل المثبج [وهو نقيض المتقن] ، والإحكام والإتقان المشار إليه معنى عبارة عن: وضع جوهر إلى جوهر على وجه مخصوص مقصود في العادات. وهذا في الحقيقة لا دلالة له من هذا الوجه! فإنه يختلف بالنسب والإضافة، فرب شيء محكم في حق زيدٍ مُثبجٌ في حق عمرو … فكل ما يختلف بالنسب والإضافات واختلاف العادات لا حقيقة له، فلم يدل إذن من هذا الوجه. وإنما دل من حيث كونه فِعلًا، لا يختلف بالمثبج والمحكم. فالفعل الواحد في الحقيقة يدل على كونه تعالى عالمًا قادرًا مريدًا، عرضًا واحدًا كان أو جوهرًا أو جسمًا، مثبَّجا كان أو محكمًا. فإذا رأينا هذا الفعل واقعًا في زمن دون زمن، وعلى شكل دون شكل، وفي جهة دون جهة، وفي محل دون محل، وعلى صفة دون صفة، ونسبة الأزمان إليه نسبة واحدة، وكذلك نسبة الأشكال، وكذلك نسبة الجهات، وكذلك نسبة المحال، وكذلك نسبة الصفات، فاختصاصه ببعض الجائزات دون بعض يفتقر إلى مخصص قطعًا.[13]

انتهى كلامه رحمه الله. وهو كلام نفيس، يظهر وجه دلالة الكون على كونه محتاجًا لموجد له، ويبطل فكرة الدليل التيليولوجي، وهو مذكور قبل ميلاد دارون بقرون، فيتبين منه استقرار هذه الفكرة في التراث الإسلامي، وأنها ليست رد فعل لنظرية التطور.

الجولة الثانية من الجواب: نقض فكرة التصميم الكامل

يفترض الملحد –كدوكنز مثلًا- أولًا أن هناك “تصميمًا كاملًا” كان ينبغي للشيء أن يكون عليه. ثم يدَّعي أنه لو كان هناك إله، فإنه يجب عليه أن يوجد الكائنات على وفق هذا التصميم الكامل. فبما أن الكائنات الموجودة ليست على صورة هذا التصميم الكامل، دل ذلك على عدم وجود الإله. فيقولون مثلًا: لو كان هناك مصمِّم حكيم، فلماذا خلق حوض الأنثى من الكائنات الحية صغيرًا بحيث تكون الولادة مؤلمة مرهقة صعبة، فتموت النساء كثيرًا في الولادة وتتألم ألمًا شديدًا؟! لو كنا نحن الذين صممنا الكائنات، لجعلنا الولادة سهلة ميسرة بلا ألم!

فهذا وغيره من الأمثلة هي فرع عن ذلك التصور لما ينبغي أن يكون عليه الأمر في ظن الظان! وهو يرد على من يقول إن الإنسان صمم تصميمًا يمنعه من الألم والأذى. وهذا في الحقيقة يرجع إلى ضيق الأفق، وإلى الجهل بحقيقة الألوهية.

فإننا نقول: لا يجب على الله شيء، هو فعَّال لما يريد، وقد أراد أن تكون الدنيا على صورة من النقص، دارًا للابتلاء، ينال الإنسان فيها بعض الألم والتعب والمشقة (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). فإن الله خلق الدنيا على هذه الصورة لأنه أراد أن يبتلي البشر، وخلق الموت والحياة والسعادة والألم والمشقة والراحة والغنى والفقر (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). فهو لم يرد أصلًا أن تكون الدنيا جنَّة كاملة، أو أن يكون البشر كائنات كاملة. بل إن الإنسان قد خلق ضعيفًا كما قال القرآن، لا يسعفه جسده أحيانًا كثيرة. ولو أراد الله أن يصفِّي الدنيا من كل كدر لخلقها كذلك، ولكنه أراد أن يكون فيها من النقص والمرض وسائر التحديات الطبيعية والنفسية ما فيها.

جُبلت على كدرٍ وأنت تريدُها ** صفوًا من الأقذاء والأكدارِ؟

فلا يصح إرجاع النقص الذي نراه في الكون إلى عدم وجود الإله. بل وجود خالق للكون واجب عقلي. وقد أراد هذا الخالق الحكيم أن يكون في الدنيا نقص لأنه أراد ابتلاء الخلق، وتكليفهم بالصبر والرضا، وسنتحدث عن ذلك في سلسلة مقالات قادمة حول (مسألة الشر).

الجولة الثالثة من الجواب: خلق الله وفق أسباب وتفاعلات

لو أراد تعالى أن يوجد المخلوقات على صورة نهائية لفعل، ولو أراد أن يولد الإنسان كبيرًا دون أن يمر بمراحل الجنين والطفل والصبي والشاب لفعل. لكنه قد أراد أن يجري خلقه على وفق قانون يمكن فهمه واستثماره.

فما الغريب العجيب أو الممنوع في أن يكون قد قدر تعالى أن تظهر المخلوقات بعد مرورها بمراحل، كل مرحلة يعقبها مرحلة، تفاعل الكائنات مع الطبيعة التي هي كذلك خلق الله، وصمود كائنات لصفات ملائمة للطبيعة، كله خلق الله، يسري على صورة أرادها؟ من ألزم الإله، وقد أراد الخلق، أن يخلق الخلق على صورة معينة؟ أو في نطاق زمني محدد؟

فإنه لا يوجد في الدين ما يمنع أن يكون الله تعالى قد قدَّر أن يكون هناك حيوانات، في هذه المرحلة الزمنية من عمر الأرض، وأن يحصل هذا عبر نظام سببي تراكمي معين، كما قدر أن تخلق السماوات والأرض، وألا تتكون هذه الأرض مباشرة، بل عبر تراكم طويل من الأحداث والصدامات والأحوال الفلكية –كالانفجار الكبير أو غيره من النماذج الكوزمولوجية- لتحصل النتيجة بعد ذلك.

فالله قد أراد النتيجة، وقد أراد أن تحصل بطريقة معينة.

الجولة الرابعة من الجواب: نظرية التطور نفسها تحتاج إلى مخصِّص خالق يقتضيها

إذا طبقنا كلامنا السابق على نظرية التطور نفسها، وجدناها كذلك تشرح كيفية جريان الأسباب في الكون على قاعدة معينة، ولا تتطرق -كشأن أي نظرية علمية- إلى السؤال الهام:

ما المقتضي العقلي لوجود أمر ممكن منطقيًّا كهذا الذي تشرحه النظرية دون غيره؟

إن نظرية التطور مبنية على افتراضات هي قوانين في الكون ترتب عليها التطور بالانتخاب الطبيعي:

  • منها أن هناك اختلافًا بين أشخاص النوع الواحد، وهو اختلاف جيني وراثي.
  • وأن الصفات تورَّث من الآباء إلى أولادهم.
  • وأن تكاثر الحيوان أسرع من زيادة الموارد كأكل ونحوه.

وظاهر أن كل هذه القوانين لا يوجد مقتضى عقلي لأن تكون على هذه الصورة.

فكان من الممكن مثلًا في عالم آخر أن يكون تكاثر الحيوان بنفس سرعة زيادة الموارد أو أبطأ، وهذا بأن تكون الموارد تتكاثر بشكل أسرع مما في عالمنا هذا، أو أن تكون الكائنات الحية تتكاثر بشكل أبطأ مما هو الواقع  ولو حصل هذا لتعطل الانتخاب الطبيعي. وكذلك وجود الاختلاف بين أشخاص النوع الواحد، وانتقاله من الآباء إلى الأولاد، كان يمكن عقلًا أن يكون على غير هذا دون شك بأن يكون الأشخاص نسخًا كربونية من بعضهم فلا يكون بينهم أي اختلاف مثلًا، فوجود الكون على صورة معينة من جملة صور جائزة بحيث تجري فيه القوانين الكوزمولوجية والبيولوجية التي تفسر الحياة هو في ذاته أمر ممكن، كان يمكن ألا يكون على هذه الصورة، فيحتاج  إلى مرجِّح يرجح وجوده على عدمه، وهذا المرجِّحُ لو كان ممكنًا لافتقر إلى مرجح، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى ذات واجبة الوجود عقلًا، لا تقبل العدم، فلا تحتاج إلى مرجِّح يرجح وجودها على عدمها. [14]

الجولة الخامسة من الجواب: جواب سؤال «من صمَّم المصمِّم»

يقول الملحد الشهير دوكنز فيما يعتبره من أقوى أدلته على بطلان الحاجة إلى إله: وهي حجته المحورية central argument  في كتابه وهم الإله The God Delusion[15]، ما حاصله (من صمم المصمم؟)

يقول:

The point is that the designer himself in order to be capable of designing, would have to be another complex entity of the kind that, in his turn, needs the same kind of explanation.  It’s an evasion of responsibility because it invokes the very thing it is supposed to be explaining. – [16]

والجواب على الشبهة الواهية:

أنه أولًا عنده خلط في جهات البحث، إذ ريتشارد دوكنز لا انشغال له كبير بدراسة الفلسفة، وهو كثيرًا ما يقول:

 I’m a scientist not a philosopher، ولكن في نفس الوقت فإنه يدخل نفسه في قضايا فلسفية عديدة، ويقول كلامًا عجيبًا.

فنقول: تعقد الكائنات أو الكون أو عدم تعقده، ليس هو جهة النظر التي استدللنا بها على وجوب افتقاره إلى خالق، ولا استبعادنا أن تتشكل الكائنات عن طريق الانتخاب الطبيعي argument from incredulity، هو الذي ألجأنا إلى القول بأن الله خالق كل شيء.

بل الجهة التي دعتنا إلى القول بوجوب افتقار الكون واحتياجه إلى خالق أنه ممكن الوجود، أي أنه موجود على هيئة وصورة معينة كان يمكن ألا يكون عليها، أو ألا يوجد أصلًا، وأنه حادث. وأن هذا يدل على افتقاره إلى ذات واجبة الوجود لا تقبل الانتفاء أبدًا ولا تتصف بنفس صفات الكون التي دلت على أنه ممكن الوجود (فلا تقبل هذه الذات التغير، ولا التحيز، وغير ذلك من صفات الممكنات).

فكما أننا إذا رأينا المشترك الكهربائي علمنا بالتأمل فيه أنه ليس مصدرًا للكهرباء، بل إنه مجرد موصِّل معتمد في وجود الكهرباء فيه على مصدرٍ ما[17]، فكذلك إذا نظرنا في الكون وجدناه ممكنًا، وعلمنا بالعقل أن كل ممكن لا بد له من سببٍ مرجح، وأن سلسلة الأسباب لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود الذي وجوده ذاتي أزلي أبدي وهو منزَّه عن كل صفات الممكنات. [18]

خاتمة

 فتبين من هذا أن نظرية التطور لا يلزم عنها الإلحاد، ولا عدم احتياج العالم لإله. وأنها ليست سوى وصف لأحد مظاهر الكون والعلاقات والأحوال المبثوثة فيه، وأننا نعتقد أن الله عز وجل قد أقام الدنيا على وفق قانون الأسباب الذي تكشف عنه النظريات العلمية كنظرية التطور، تصيب تلك النظريات العلمية أو تقارب الصواب، ويبني اللاحق منها على السابق، فيتقدم العلم. وإن المسيرة العلمية كما تضررت من محاولات الكهان ورجال الدين التدخل فيه وفرض قيود عليه، فإننا نعتقد أنها ستتضرر لا محالة من محاولات كهان الإلحاد ورجاله لاستعمال النظريات العلمية وتطويعها في خدمة أفكارهم الشخصية، كما أنها ستتضرر إن تدخل رأس المال في توجيه البحث العلمي بما يحقق ربح الشركات الكبرى مثلًا. كل هذا تدخل في مسيرة العلم، وخروج به عن محله، ونحن لا بد أن نقف في وجه كل ذلك، إن كنا نحب العلم حقًّا.

وقلنا إننا ننفي العلة الغائية في الفعل الإلهي، ونقول إن الله قد أراد أن يخلق الدنيا فيها من النقائص والأكدار لأنها دار ابتلاء، وأنه لا مانع في الدين أبدًا أن يكون الله قد أراد أن يخلق الخلق عبر سلسلة طويلة من التفاعلات والأحداث الكونية، وأن نظرية التطور نفسها تنبني على أصول (axioms) ممكنة تحتاج إلى مرجِّح وخالق، وأن الإله مغاير في طبيعته للكون، فليس ممكنًا مفتقرًا متغيرًا متحيزًا فيحتاج إلى خالق.

[1] ما نظرية التطور؟ وما سبب أهميتها؟ وهل سقطت في الغرب فعلاً؟

[2] هل نسفت نظرية التطور مبدأ الخلق؟

[3] Paley says: “Every indicator of contrivance, every manifestation of design, which existed in the watch, exists in the works of nature; with the difference, on the side of nature, of being greater and more, and that in a degree which exceeds all computation. I mean that the contrivances of nature surpass the contrivances of art, in the complexity, subtilty, and curiosity of the mechanism; and still more, if possible, do they go beyond them in number and variety; yet in a multitude of cases, are not less evidently mechanical, not less evidently contrivances, not less evidently accommodated to their end, or suited to their office, than are the most perfect productions of human ingenuity”Paley natural theology p 13 Boston Gould, Kendall and Lincoln , 1837

[4] Richard Dawkins, The Blind Watchmaker ,New York: W.W. Norton, 1986

[5] The blind watchmaker

[6] والتليولوجي مستمد من كلمة (تيليوس)اليونانية، وترجع هذه إلى العلل الأربعة الأرسطية. العالم عند أرسطو يتكون من مادة وصورة، كل شيء عبارة عن مادة تتشكل في صور معينة. ثم الأشياء تسعى نحو حالتها الكاملة. ولكي تتشكل الأشياء عند أرسطو لا بد من علل أربعة، أي من شروط ضرورية لولاها لما وجد شيء: علة مادية (وهي مادة الشيء كالخشب بالنسبة للسرير مثلًا)، وعلة صورية (وهي صورة الشيء التي تصور المادة، كشكل وتصميم السرير مثلًا)، وعلة فاعلية (وهو فاعل الشيء، كالنجار الذي صنع السرير)، وعلة غائية (وهي الغاية من وجود السرير، كالنوم والجلوس عليه مثلًا).

[7] هل فسّر العلم الكون وبيّن عدم احتياجه للإله؟

[8] ألم يعرفنا العلم أننا أصغر من أن نكون مقصودين بالخلق؟

[9، 10، 11] هل فسّر العلم الكون وبيّن عدم احتياجه للإله؟

[12]وسيأتي في المقالات القادمة المخصصة في الاستدلال على وجود الله مزيد تفصيل، وفي الكلام على صفات الإله، وعن مفهوم الإله، ما يوضح أكثر قضية أن الإله يستحيل أن يكون من الكون الممكن، ولا من قوانينه!

وأيضًا أن مفهوم الإله الحق، ليس ذلك المفهوم المشوه عن الإله عند الكثير من فلاسفة الغرب، الذي هو موجود جسم يشبه المخلوقات في الذات والصفات، فمن ثم أنكروه لاستحالته! فوجود أقرب شيء يعقلونه هو اتخاذ قوانين الكون، ممكنة الوجود إلهًا!

[13]شرح العقيدة البرهانية لتقي الدين المقترح صـ 80-81

[14] هل فسّر العلم الكون وبيّن عدم احتياجه للإله؟

[15] The God Delusion, Dawkins, p157-158. Bantam press 2006

[16] Richard Dawkins, the God Delusion, pg 11, Black Swan edition, Penguin Random House, UK 2016

[17] ألا يدل «مبدأ أوكام» العلمي على عدم وجود الإله؟

[18] هل فسّر العلم الكون وبيّن عدم احتياجه للإله؟