ارتدى المرض ثوبًا سياسيًّا في العصر المملوكي، وأصبح وسيلة للوصول إلى السلطة وكبح جماح المعارضين، وذلك عبر أكثر من ملمح، منها اعتباره فرصة لا تُعوض لعزل سلاطين وتولية آخرين، أو كونه سببًا في إشعال ثورات وفتن، أو من خلال التظاهر بالوهن لتحقيق هدف ما. 

الوثوب على السلطة

كان من آثار الأمراض السياسية إثارة الفتن وإشعال الاضطرابات، نظرًا لانشغال السلاطين بأمراضهم، مما يدعو الطامحين إلى السلطنة في الوثوب على الحكم منتهزين فرصة انشغال السلطان بمرضه، خاصة عند انقطاعه بالدور السلطانية لتلقي العلاج، حسبما ذكر عبد الله أحمد همام في دراسته «الأمراض وأثرها على الحياة السياسية في عصر سلاطين المماليك البحرية والجراكسة».

ومن شواهد ذلك أنه لما علم الأمير رمضان بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بمرض أخيه الملك الصالح إسماعيل (743-746هـ)، تحدث مع طائفة من المماليك لإقامته سلطانًا، واتفقوا على الخروج عن طاعة السلطان وانتهاز فرصة مرضه لتحقيق أهدافهم.

وما إن علم الملك الصالح إسماعيل بخبر أخيه وخروجه في جمع من الجند ومعه جماعة من العامة يريد السلطنة، حتى نهضت همته وقام من فراش مرضه من شدة انزعاجه، وسرعان ما سكنت الفتنة بالقبض على الأمير رمضان وحبس مماليكه.

كما استغل الأمير نوروز مرض السلطان برقوق في سنة 801هـ، وأراد الوثوب على السلطة، غير أن أصحابه أشاروا عليه بالصبر حتى ينتظر ما يصير إليه مرض السلطان، فإن مات حصل ما قد قصد دون تعب، وإن كانت الأخرى – أي الشفاء – فليفعل من أمره ما يشاء، فما إن بلغ السلطان ذلك حتى احترز على نفسه، ودبر على نوروز حتى تمكن من القبض عليه وحبسه بالإسكندرية.

ثورات واضطرابات وحظر تجول

غالبًا ما كان يصحب مرض السلاطين خلال العصر المملوكي تدهور أحوال البلاد، وكثرة الفساد، واشتعال ثورات العربان، وما يترتب على ذلك أيضًا من غلاء الأسعار نتيجة تلك الاضطرابات.

ويروي «همام» أنه حين أُشيع مرض السلطان المنصور قلاوون سنة 689هـ وردت أخبار باندلاع ثورة العربان ببلاد الصعيد، فجرد إليهم حملة عسكرية أخمدت تلك الثورة.

كما شهدت القاهرة اضطرابات وأُغلقت الأسواق في سنة 801هـ، حين أشيع إصابة السلطان الملك الظاهر برقوق بحمى، واندلعت الشائعات المغرضة وكثر الفساد في البلاد.

وفي سنة 841هـ اشتد المرض بالسلطان الأشرف برسباي، حتى مُنع رجال الدولة من الدخول عليه من شدة ما به، فصحب ذلك انتشار الذعر بين الناس خوفًا من وقوع نهب، وكثر عبث المفسدين في البلاد وقطاع الطرق في مصر والشام، وسرعان ما ظهرت على الساحة مسألة ولاية العهد إذا قُدر موت السلطان في مرضه هذا، حتى صار العسكر منقسمًا على نفسه، وانتهى الأمر بتولية العزيز خلفًا لأبيه برسباي، وأن يكون الأمير جقمق متوليًا تدبير المملكة.

وأثناء مرض السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري بعينيه في سنة 919هـ، اضطربت الأحوال في البلاد، واندلعت ثورة العربان، وكثرت الشائعات باشتعال الفتن، ونتيجة لذلك قام السلطان بإلغاء الاحتفال بمولد سيدي أحمد البدوي في تلك السنة.

ولما اشتد مرض السلطان الملك قانصوه الغوري كثرت الشائعات بعمى السلطان، وصار الحجاب لا يُدخلون عليه أحدًا عدة أيام أثناء مرضه، فتعطلت أحوال الناس لقلة التوقيع السلطاني على المراسيم والمحاكمات، وكثر الفساد في البلاد.

وإزاء ذلك أمر السلطان الغوري والي القاهرة بالنداء بالأمان، وأن يطوف بالشوارع والطرقات حتى يبث الطمأنينة في نفوس الناس، كما أمر الناس بعدم الخروج بعد العشاء.

لذلك طاف والي القاهرة، ومعه جماعة من مماليك السلطان بلغ عددهم مائتي جندي مسلحين، في الحارات والأزقة، وألقوا القبض على من يمشي بعد العشاء ولا يتبع تعليمات الأمن بعدم الخروج.

غير أن المرض قد يدفع بعض السلاطين لأن يصدروا قرارات غير مفهومة بدون وعي، حسبما ذكر الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه «العصر المماليكي في مصر والشام»، فعندما اعترى السلطان برسباي مرض الماليخوليا، أي ارتباك في قواه العقلية، سنة 841هـ، جعله يصدر قرارات غريبة كأمره بنفي كل الكلاب إلى الجيزة، وألا يلبس فلاح أو عبد غطاء رأس أحمر، كما منع النساء من الخروج للطرقات.

العزل والتولية

إحدى التداعيات السياسية للمرض تمثلت في عزل السلاطين وتولية آخرين، فإذا أحس الأمراء بدنو أجل السلطان في مرض موته يقترحون عليه أن يعهد بالسلطنة إلى أحد أولاده بعد رحيله، وغالبًا ما كان هذا الاقتراح يلقى قبولًا لدى سلاطين المماليك، فيقومون بتنصيب أحد أبنائهم ولاية العهد، بحسب «همام».

من ذلك ما حدث سنة 741هـ حين دخل الأمير جنكلي بن محمد وأكابر الأمراء على السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، واقترحوا عليه أن يعهد لأحد من أولاده بالسلطنة من بعده، فأجابهم بدوره إلى مطلبهم وجعل ابنه أبا بكر سلطانًا من بعده، وأوصاه بالأمراء وأوصى الأمراء عليه.

ولم يكتفِ السلطان الملك الظاهر برقوق عندما اشتد به المرض سنة 801هـ بأن يعهد لأحد أبنائه بولاية العهد فحسب، بل عقد الأيمان لأكثر من شخص، فجمع أرباب الدولة وبايعوا على أن تكون السلطنة للأمير فرج بن برقوق، ثم من بعده لأخيه عبد العزيز، ومن بعدهما أخوهما إبراهيم.

أما السلطان الملك الأشرف إينال العلائي (857- 865هـ) فقد مرض في سنة 862هـ مرضًا ألزمه الفراش، فأخذ يحادث أهل الحل والعقد من الأمراء في تولية ولده من بعده، وذلك تلميحًا لا تصريحًا، ثم عُوفي بعد أيام.

وفي سنة 865هـ حين مرض مرض الموت دعا الخليفة القضاة والأمراء وأشهدهم على خلع نفسه من السلطنة، فقام الجميع لسماع كلام الملك الأشرف إينال في ولاية العهد، فلم يستطع الرد عليهم لمرضه، ثم كرروا عليه السؤال، فرد عليهم بصعوبة باللغة التركية «أغلم، أغلم»، أي «ابني، ابني»، فقالوا إنها إشارة لتولية ابنه العهد، فحلف جميع الحضور للملك المؤيد أحمد بن إينال بالسلطنة، روى «همام».

التشاؤم بالسلطان والثورة عليه

وكان لارتباط الأمراض والأوبئة باعتلاء أحد سلاطين العصر المملوكي أثر سلبي أدى إلى تشاؤم الناس وكراهيتهم لسلطنته، وتمني زوال حكمه. ويروي سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه المذكور آنفًا، أن اعتلاء الملك العادل كتبغا (694- 696هـ) تزامن مع تفشي الأمراض والأوبئة نتيجة انخفاض النيل واشتداد الغلاء وانتشار المجاعات، وصار الناس يسقطون صرعى في الطرقات.

وبلغ من حدة الأزمة أنه كان يموت في القاهرة كل يوم بضعة ألوف، ويبقى الميت مطروحًا في الأزقة والشوارع ملقًى في الممرات اليوم واليومين ولا يجد من يدفنه، لاشتغال الأصحاء بأمواتهم والسقماء بأمراضهم، بحسب «عاشور»

ومع السلطان بيبرس الجاشنكير (708- 709هـ) تضافر تشاؤم المصريين منه مع عوامل سياسية أدت إلى الثورة عليه. وتذكر عذاري الشعيبي في دراستها «ثورات العامة في مصر في عصر المماليك البحرية. الأسباب والنتائج»، أن اعتلاء الجاشنكير للحكم تزامن مع انتشار الأوبئة والأمراض نتيجة انخفاض منسوب النيل وقلة الأرزاق وارتفاع الأسعار، وحينها اعتقد الناس أن ما يقاسونه من مصائب إنما هو بسبب ظلم هذا السلطان وانقلابه على خلفه محمد بن قلاوون وإزاحته عن الحكم، فعدوه نذير شؤم عليهم.

ولم يكتفِ المصريون بذلك، فثاروا عليه وطالبوا بعزله وإرجاع ابن قلاوون لحكم مصر بدلًا عنه، فعمدوا إلى المجاهرة بسبه وإعلان ذلك بالأماكن العامة، وأخذوا يطلقون عبارات الاستهزاء والسخرية عليه، فقبض بيبرس الجاشنكير على عدد من المصريين، إلا أن ذلك لم يحل دون قيام ثورة شعبية أزاحته عن الحكم وأرجعت محمد بن قلاوون، بحسب ما روت «الشعيبي».

ادعاء المرض للنيل من الخصوم

أيضًا كان ادعاء المرض وسيلة لتحقيق هدف سياسي يصعب الوصول إليه بدون ذلك، وقد لجأ إليه رجال الدولة لإخفاء موت السلطان، وذلك حفظًا لمهابة الدولة وحتى لا تضطرب أحوال البلاد، وحتى يتسنى الوقت لتسليم ابن السلطان مقاليد الحكم.

وهذا ما قام به الأمير بدر الدين الخازندار سنة 676هـ، حين مات السلطان الظاهر بيبرس بدمشق، فكتم وفاة السلطان وأشاع أنه مريض حتى لا تضطرب الأمور على ولده الملك السعيد، ورتب الأطباء على العادة، وأخذ العساكر والخزائن، ومعه موكب محمول موهمًا الناس بوجود السلطان فيه مريضًا، وخرج من دمشق إلى الديار المصرية بالعساكر والخزائن، وصعد إلى القلعة وسلمها للملك السعيد، معلنًا وفاة السلطان بيبرس.

وزعم بعض السلاطين والأمراء المرض كحيلة للنجاة بأرواحهم، ففي سنة 732هـ تظاهر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالمرض للرجوع إلى الديار المصرية عندما كان قاصدًا حج بيت الله الحرام، وكان قد قارب على منطقة «أيلة»، وذلك بسبب ما بلغه من تآمر الأمير بكتمر الساقي مع عدد من المماليك السلطانية  للفتك به، وحينها وجد في التحايل بالمرض وسيلة يتخذها ليبرر رجوعه إلى مصر على هذا الوجه، فوافقه  الأمراء جميعهم إلا بكتمر الساقي المذكور الذي شنع رجوعه.

وعندئذٍ اضطر السلطان لمواصلة السير وقد احترز على نفسه غاية الاحتراز بإخفاء مبيته وانتقاله بالليل مرارًا بين مناطق عديدة، واستمر على ذلك حتى وصل إلى ينبع، حسبما ذكر تقي الدين المقريزي في كتابه «السلوك في معرفة دول الملوك».

وهدف سلاطين العصر المملوكي من التظاهر بالمرض في بعض الأحيان إلى القبض على عدد من كبار رجال الدولة الذين يُخشى من شكيمتهم وتحكمهم في السلطنة، وذلك عند قيامهم بزيارته وعيادته في مرضه، فيسهل على السلطان إلقاء القبض عليهم، ويتخلص بالتالي من سطوتهم وهيمنتهم على أمور الحكم والسلطنة، بحسب «همام».

ففي سنة 752هـ تظاهر السلطان الملك حسن بن محمد بن قلاوون بالمرض، ولازم الدور السلطانية بالقلعة للعلاج أيامًا حتى يتسنى له القبض على الأمراء طاز الناصري، وسيف الدين مغلطاي، ومنكلي بغا بن عبد الله الشمسي، إلا أن حيلته باءت بالفشل بعد أن علموا بمخططه عند قيامهم بعيادته، وأعلموه بما أضمره، فأرسل لهم السلطان مماليكه ليعتذر لهم ويسترضيهم، فما كان من الأمراء الثلاثة إلا أن ألقوا القبض على مماليكه، فشق ذلك على نفس السلطان وخلع نفسه، كما روى المقريزي.

 كما اتخذ الأمراء أيضًا التظاهر بالأمراض وسيلة لتحقيق أهدافهم، لا سيما إذا كان للأمير منزلة عالية لدى السلطان، ففي سنة 678هـ أظهر الأمير عز الدين أيبك الأفرم المرض، ولاكتمال تحايله بالمرض طلب من طبيبه دواءً يُظهر للرائي أنه مريض حقًّا، لا سيما عندما علم بقدوم السلطان الملك المنصور قلاوون لعيادته، وحينئذٍ تألم له مستظهرًا المرض، وكان غرضه من ذلك قضاء حوائجه من السلطان، ومنها أن يعفيه عن نيابة السلطنة، فلبى السلطان مطلبه وأمر باستقرار الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري عوضًا عنه في هذا المنصب، ذكر المقريزي.

النجاة من الموت

واتخذ الأميران حاجي وحسين ابنا الملك الناصر محمد بن قلاوون من التظاهر بالمرض حجة لعدم المثول بين يدي أخويهما الملك الكامل شعبان، لما أحسا منه الغدر بهما وقتلهما، حين أرسل إليهما الأميران أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي لإحضارهما سنة 747هـ، فما كان من الأمير أرغون إلا أن رجع إلى السلطان بتحريض من نساء البلاط ليكف عن أخويه، فغضب السلطان عليه وهم بقتله، لولا أن نجا أرغون بأعجوبة.

ويروي المقريزي، أنه بعد هذا الحادث، انقطع الأمير أرغون عن حضور الخدمة السلطانية متعللًا هو الآخر بالمرض، وكان لذلك أثره بزوال ملك السلطان الكامل شعبان بعد قيام المماليك بعزله وسجنه في نفس السنة.  

وادعى أمراء آخرون المرض كحيلة للتخاذل عن مساندة السلاطين في أوقات الأزمات التي يمرون بها، مثلما حدث في فتنة «الأجلاب» سنة 872هـ، وهم طائفة من المماليك السلطانية كانوا يتسببون في إشاعة الفوضى والاضطراب بين الوقت والآخر.

 واستدعى السلطان الملك الظاهر تمربغا الأمير خاير بك الدوادار للمشاورة حول هذه الأوضاع المتأزمة، فما كان من الأمير إلا أن تحايل بألم أصابه في قدميه، ولم يطل جلوسه عند السلطان، وخرج إلى خارج القصر، فازداد هرج المماليك الجلبان على السلطان، وسلموا خاير بك السلطنة بلا مبايعة ولا إجماع كلمة ولقبوه بالسلطان العادل.