في عام 1975 صدر فيلم «زوجات ستيبفورد – The Stepford Wives» من إخراج بريان فوربس عن رواية لإيرا ليفن، اختلق الفيلم عالمًا يأخذ فيه الرجال زوجاتهم إلى مدينة ستيبفورد الهادئة البعيدة عن صخب المدن الكبيرة، مدينة تتميز بمنازل قديمة الطراز ومساحات خضراء شاسعة، مع الوقت تظهر نوايا الأزواج الحقيقية، تصبح النساء أكثر خنوعًا، يتخلين عن طموحاتهن القديمة، تتحول ملابسهن من ملابس السبعينيات الحرة إلى ملابس تشبه الملابس القروية لنساء بداية القرن العشرين، يستمتعن بخدمة أزواجهن وبممارسة الأعمال المنزلية باستمرار دون كلل، يكررن كلمات مهذبة بشكل آلي ولا يملكن أفكارًا خاصة بهن، امتلك الفيلم حسًا ساخرًا ورعبًا من نوع جديد جعله مؤثرًا حتى عامنا هذا، ويظهر تأثيره بوضوح في فيلم «لا تقلقي عزيزتي» المعروض في السينمات حاليًا.

عرض فيلم «لا تقلقي عزيزتي» (Don’t Worry Darling) عرضه الأول في مهرجان فينيسيا السينمائي لهذا العام، وقوبل بردود أفعال وجدل واسع ، ليس على الأفكار التي يتناولها بقدر ما تمحورت حول الدراما المتصاعدة المتعلقة بفريق عمله، خلافات وخيانات وإشاعات حول كل فرد مشارك في صناعة الفيلم، أخرجت الفيلم الممثلة التي تحولت للإخراج مؤخرًا أوليفيا وايلد وكتبته كاتي سليبرمان ، قام ببطولته ممثلون في مقتبل مسيرتهم، فلورنس بيو الممثلة التي بدأت من أفلام مستقلة ذات ميزانية متوسطة حتى وصلت إلى عالم مارفل السينمائي بفضل موهبة وجمال مميز، وفي الدور الثاني هاري ستايلز نجم البوب المتحول حديثًا للتمثيل، بقاعدة جماهيرية راسخة وكاريزما تدعم موهبته المحدودة في مجاله المستجد، نجح الفيلم في جذب المشاهدين بسبب الدراما المثارة حوله لكن هل نجح في إيصال أفكاره؟

عالم مثالي

يتناول «لا تقلقي عزيزتي» فرضيته بوضعنا بشكل مباشر في مكان الأحداث، مجتمع منعزل يسمى «مشروع فيكتوري» على غرار بلدة ستيبفورد، تعيش به مجموعة من الأسر بسعادة، يقود الرجال سياراتهم الكلاسيكية كل صباح ذاهبين لأعمالهم بينما تنتظرهم النساء مودعات على عتبات المنازل الملونة ثم يمضين إلى الداخل لتكملة اليوم في الأعمال المنزلية، مبتسمات ومرتديات الملابس الأنثوية الجميلة، أو يستلقين حول حمامات السباحة الواسعة يتبادلن النميمة على الأخريات بينما يلعب الأطفال على مرأى منهن، من البداية يضع «لا تقلقي عزيزتي» نفسه بجوار أفلام مثل «زوجات ستيبفورد»، الأفلام التي تتناول رعب الهوية المستلبة والمجتمعات المغلقة وتضفي عليها نزعة نسوية، فالرعب موجه تجاه جنس بعينه، ويمثل مجازات اجتماعية خاصة بوقته، صدر زوجات ستيبفورد في السبعينيات في عقد لم يبتعد كثيرًا عن الأفكار المرتبطة بالأدوار الجندرية، النساء بالكاد يتلمسن طريقهن في عصر يفتح بعض نوافذ الحرية مما يهدد سطوة الرجال ويهدد ذلك العالم الحديث بالانهيار في أي لحظة.


ملصق فيلم The Stepford Wives 1975

«لا تقلقي عزيزتي» ينتهج النهج نفسه لكن دون الحتمية الاجتماعية أو الضرورة المعاصرة، يطرق بابًا لتناول الموجة الجديدة من معاداة حقوق النساء لكن دون أفكار جديدة تتخطى ما صنع مسبقًا في السبعينيات، يربط الفيلم  فرضية الرعب الجندري بالتطور التكنولوجي وسيطرة الشركات الرقمية والتطبيقات الإلكترونية والعوالم الافتراضية،  لكنه لا يضع قواعد صارمة لعالمه، فيبدو أنه لا شيء على المحك حتى الموت نفسه، بعد وقت طويل من تصوير تداعي وهم الشخصية الرئيسة أليس (فلورنس بيو)، التي تعيش راضية حتى تهاجمها ذكريات الماضي، يكشف الفيلم عن المخطط الخفي الذي يفرض على جميع نساء «مشروع فيكتوري» عيش حياة رقمية رغمًا عنهن، فيها يصبحن ربات بيوت راضيات لأزواج عاملين، الرأس المدبر لذلك المخطط هو رائد أعمال صنع ما يشبه تطبيقًا رقميًا افتراضي، يدعو الرجال اليائسين إلى تخدير وتنويم السيدات مغناطيسيًا فيتناسين حيواتهم ويعشن حياة افتراضية تلائم أزواجهن الذين عانوا في حياتهم اليومية بسبب ضغوط الحياة الرأسمالية بما فيها عمل زوجاتهم وقلة الوقت الذي يخصصنه لهم.

كريس باين في فيلم Don’t Worry Darling 2022

يخلق «لا تقلقي عزيزتي» شريرًا يدعى فرانك (كريس باين) في صورة بطريرك أسري مسيطر يختار كل شيء للجميع، يحجب العالم الحقيقي عن رعيته، كأنه قائد لجماعة دينية متطرفة يخطب في شعبه، يشبه فرانك  مهاويس الإنترنت الذين يتوقون لزمن ماض، زمن خال من تعقيدات الأفكار النسوية أو الأدوار النوعية السائلة، ويحقق حلمه عن طريق التكنولوجيا والخطب الخاوية، يملك فرانك كاريزما وحبًا لإلقاء الخطابات يلقي نحو خمسة منها طول مدة الفيلم، يعيد فيها أفكاره مرارًا وتكرارًا ليوصلها لنا، تتلخص أفكاره في  أن العالم هو عالم الرجال، وأن المجتمعات الحديثة زرعت وهم المساواة في العقول فأصابت الجميع بالتعاسة، لا تثق وايلد في ذكاء مشاهديها بالقدر الكافي فتصنع فيلمًا يملي عليهم أفكاره بشكل متكرر بدلًا من أخذ الوقت في بناء عالم مخيف يمكن تصديقه، فيلم يعتمد بشكل كامل على الكشف الحواري بدلًا من بناء الرعب البصري والمكاني.

لا شيء على المحك

يمكن البرنامج قاطنيه من عيش نسخة متخيلة من الحلم الأمريكي، أسرة هادئة من رجل وامرأة وتوزيع أدوار صارم،
يستخدم الفيلم فترة الخمسينيات كقفزة سردية وبصرية لما ينظر إليه باعتباره مثاليًا، الكل يبدو في أبهى صورة، الشمس مشرقة على الدوام، والكل سعداء في أدوارهم الحياتية الصغيرة المفروضة عليهم،  ومثل كثير من التناولات الحديثة لتلك الفترة فإنها تستخدم فقط كواجهة يتم تفكيكها وإظهار باطنها، تتماهى النساء مع الوهم بسبب فقدانهن الأهلية حتى يبدأ ذلك الوهم في الانكسار مما يدخلهن في أزمة هوية وتشكيك في الوجود نفسه، عندما ينهار الساتر العقلي لبطلة الفيلم أليس يتم اتهامها بالجنون والهستيريا، تتصاعد الأحداث بسبب مقاومتها للعالم الافتراضي  ويبدأ الفيلم في أخذ منحى عنيفًا، لكن بسبب قصور بناء العالم السينمائي فإن كل ما يحدث يبدو أخطر من حقيقته، غير مؤثر أو مقنع، تلقى علينا معلومات نصف مكتوبة عن طبيعة البرنامج، مثل إن الموت في العالم الافتراضي يعادل الموت في العالم الحقيقي، فقط لرفع المخاطر إلى أقصاها، لكن لا يوجد رابط حقيقي مع هؤلاء الأبطال أو مع طبيعة العالم يجعلنا نتفاعل مع أي تصرف صادر منهم أو واقع عليهم.

فلورنس بيو وهاري ستايلز في Don’t Worry Darling 2022

يعمل الفيلم كله كفصل ثالث طويل دون بنية تعريفية توصله إلى الذروة، فنحن نبدأ من انهيار الوهم ولا نبدأ ببناء الوهم نفسه، ونظرًا لطبيعة العالم الذي نعيش فيه حيث انتشار المعلومات عن المحتوى السينمائي والتلفزيوني فإن حبكة الفيلم معروفة ومتوقعة مسبقًا، يجعل ذلك الوقت الذي يمضيه الفيلم في تصوير انهيار الوهم بلا معنى حقيقي ولا يمهد لالتواءة حبكة أو مفاجأة، يحاول الفيلم قلب البنية التقليدية فيجعل الكشف في النصف الأخير يرجعنا  إلى العالم الحقيقي وبداية الحكاية في مشهد استرجاعي flashback واحد غير مؤثر أو صادم، وبناء على هذا المشهد تبني كاتي سبيلمان مع أوليفيا وايلد الفيلم كله ودوافع أبطاله، تبادل حواري قصير يكشف عدم رضا جاك (هاري ستايلز) عن حياته بسبب عمل زوجته، يجعله يدمر حياتها بالكامل ويسلبها الإرادة، ويرجعها إلى عصر لا تعمل فيه النساء أو يشتكين بسبب الدور المفروض عليهن.

العوالم الافتراضية والأفكار النسوية

عندما تتناول قصص العوالم الافتراضية أفكارًا نسوية فإنها على الأغلب تخلق الرعب من فكرة العودة إلى  الأسرة النووية ومثاليتها الوهمية، وتطبيق الأدوار النوعية، رعب من الاختطاف الفعلي والمجازي للنساء داخل منازلهن، يستقي لا تقلقي عزيزتي  كثيرًا من هنا وهناك، يقتبس  وجود عالم كامل ليس على الخريطة الحقيقية و هوس إحدى الشخصيات بالبقاء في ذلك العالم لتجنب فقدان أطفالها منغمسة في وهم شاركت فيه بنفسها من مسلسل مارفل  واندا فيجن wandavision، ، ومن زوجات ستيبفورد يأخذ خطته الفلسفية المتعلقة بعمل المراة وتصور الزوجة المثالية لكنه لا يملك بناء العالم المفصل للعمل الأول ولا الحتمية المجتمعية للعمل الثاني بل يقع في مساحة فاترة لا هو فيلم رعب متميز ولا يتناول أفكار نسوية لامعة.

 «لا تقلقي عزيزتي» فيلم يحتفي بالوجوه الجديدة دون أفكار جديدة، يعامل نفسه بأهمية أكبر من حقيقته، يتناول أفكارًا تم تناولها عشرات المرات على مدار السنين، في الأعمال التلفزيونية والسينما دون أي إضافات مثرية لما أصبح أشبه بنوع فيلمي مستقل من الأفلام التي تتناول العيش في محاكاة، ويستبدل الاختزال الحواري المؤثر الذي ميز زوجات ستيبفورد بخطب مسطحة عن النظام الأبوي والعالم المعاصر.