الرفض الدائم للمذاكرة وأداء الواجبات المدرسية، الجلوس بالساعات لإنهاء الفروض المدرسية، المقارنة الدائمة بين الطفل وأقرانه، تلك المشكلات وغيرها نماذج من مشكلات كثيرة على لسان الأمهات وقت الدراسة، بخاصة في موسم الامتحانات، والتي تبدأ بالبكاء والتشنج لتصل إلى حد الاكتئاب.

تذكري أول مرة عانَى فيها ابنك من نوبة غضب، وألقى بنفسه على الأرض، وانهار من البكاء، وقتها كان يعلن احتجاجه على سلطتك وتحكمك، ربما يعاني من أزمة نفسية لم تحتويها أو حالة كرب بسبب ضغوط المذاكرة أو وقت الامتحانات، فتمر الامتحانات ويمر بنا الوقت وتظل تلك الندوب في نفوس أبنائنا مدى الحياة. 

تجارب أمهات

الكثير من الأمهات قد يدركن هذه العلامات لدى أطفالهن، ولكن لا يعلمن ما سبب هذا الكرب الذي ألم بأبنائهن، وقد يكون إدراك السبب أولى خطوات العلاج، وتعلق «نهى عصام» (ولية أمر) في حديثها لـ«إضاءات» :

إن أكبر كرب مرَّ به ابني هو سنة رابعة وخامسة ابتدائي، كفاية بس ضهره اللي بيتقطم من الشنطة وكفاية من السابعة صباحًا حتى الرابعة عصرًا في المدرسة ويرجع يكمل دروسه الخصوصية.. هذا هو الكرب الحقيقي لولادنا.

وأَضافت «رانيا شوقي» (ولية أمر) في تصريحات لـ«إضاءات»:

سنة رابعة كانت كارثة المناهج، بنتي كانت مبتبطلش عياط، حالتها النفسية كانت سيئة جدًّا وممنوعين من الخروج، المنهج محتاج يقل للنصف وفي مواد ليس لها أي فائدة زي المهام الأدائية، بنضيع أسبوع كامل في هذه المواد.

أسباب الكرب

لم يختلف كلام هؤلاء الأمهات عن آراء كبار الأطباء النفسيين في مصر كثيرًا، فقد اتفق معها تمامًا الدكتور «إيهاب عيد»، أستاذ الطب النفسي وسلوكيات الطفل، ويقول أستاذ الطب النفسي في تصريحات لـ«إضاءات»: إن أزمة الكرب لدى الأطفال وما بعدها قد تتحول إلى «تروما» (صدمة نفسية)، وهو المرحلة الأصعب من الاكتئاب في حالة عدم علاجه.

وأوضح الدكتور إيهاب أن الوضع التعليمي قد يكون غير مناسب للكثير من الأطفال وغير ملائم لميولهم وقدراتهم، فالطفل يوضع في مكان تعليمي ومرحلة تعليمية غير مناسبة لقدراته، ويكون اتجاه القدرات لدى الطفل مختلفًا عن المكان الذي يتلقى فيه التعليم، فمثلًا قدراته الاستيعابية هي صفحة واحدة من الكتاب بينما يلقنه المعلم خمس صفحات، بالإضافة إلى الطريقة الرتيبة جدًّا التي لا يوجد بها إبداع في تعليم الطفل، كل هذا يقضي على الطفل ومهاراته في سن مبكرة.

«فقدان الشهية، قضم الأظافر، التأتأة، وفقدان التركيز وغيرها من العوارض الأخرى التي لا يعلم الآباء سببها الحقيقي، ولكن ندرك في النهاية أنها نتيجة لضغط كبير تعرض له الطفل أثناء عملية التعلم، ومن ثم يدخل في مرحلة الاكتئاب»، هكذا صرح الدكتور إيهاب خبير الطب النفسي.

وأشار إلى أن لديه نماذج كثيرة في عيادته تعاني من هذا الأعراض، ومنها طفل يبلغ من العمر 9 سنوات ظل فترة يعاني من الاكتئاب ويفضل العزلة والبعد عن اللعب مع أقرانه، ويلجأ أحيانًا كثيرة إلى الموبايل للهروب من المذاكرة.

الفروق الفردية

أوضح استشاري طب نفسي الأطفال الدكتور «إيهاب عيد»، في تصريحاته لنا أيضًا، أن اختلاف الفروق الفردية بين الأطفال على الرغم من التساوي في الأعمار هو السبب الرئيسي في أن يصبح التعليم أزمة نفسية للطفل، فليس كل طفل ناضجًا بالقدر الكافي بالإضافة إلى اختلاف درجات الذكاء بين الأطفال، في الوقت نفسه يكون الأطفال جميعًا مطالبون بتحقيق سقف أخلاقي وأكاديمي، بعضهم قد يكون غير قادر على تحقيقه.

وأضاف استشاري الطب النفسي: من الممكن أن يكون الطفل ذكيًّا، ولكن لم يصل لمرحلة النضوج التي تؤهله للقيام بواجباته، مما يصل به لمرحلة الكرب. وما يزيد الطين بلة هو عقد المقارنات الدائمة بين الطفل وأقرانه وإصدار أحكام مسبقة عليه بدون وعي سواء من الأهل أو القائمين على العملية التعليمية.

توفيق أوضاع الطفل غير الناضج تجبر الأم على تقليل درجته العلمية وسنته الدراسية والعكس صحيح، قد يكون للطفل قدرات استيعابية أكبر من سنه، لذلك أوجه رسالة للقائمين على العملية التعليمية: أعطونا الفرصة نضع الأولاد في المرحلة الدراسية المناسبة في مراحل رياض الأطفال، ولا بد أن يكون التقييم للطفل حقيقيًّا وبناءً على أسس علمية صحيحة وليس مثلما يحدث الآن، النتيجة الحتمية لطريقة التعلم وعدم تناسبها مع الميول هي الكرب في التعليم.
الدكتور إيهاب عيد في حديثه لـ«إضاءات»

وتشرح الدكتورة «إيمان الجوهري»، استشاري الطب النفسي، في تصريحات لـ«إضاءات»، أن الطفل يشعر بقيمته حسب درجاته، وهذا أسوأ نمط في التعليم، لأنه يجعل الطفل أكثر عرضة للاكتئاب. وتضيف: حينما يشعر الآباء بتغير سلوك الطفل، يجب استبعاد أسلوب العقاب تمامًا وإغداقه بمشاعر الأمان والطمأنينة، والتحدث معه دائمًا عن مسئولياته وحقوقه، وفي حالة عدم قدرة الأب أو الأم على احتواء مخاوف أولادهم وشعورهم بالعجز أمام حالات الكرب، فيجب اللجوء إلى طبيب نفسي فورًا.

بناء الشخصية

تقول الدكتورة «بثينة عبد الرءوف»، الخبير التربوي، في تصريحات لـ«إضاءات»، إنه توجد علاقة وثيقة بين الاكتئاب لدى الأطفال والتعليم بسبب الضغط الشديد على الأطفال بخاصة أوقات الامتحانات، أي طفل يقضي يومه بين المدرسة والدروس والمذاكرة ولا يجد متنفسًا للعب أو إشباع مهاراته تكون نتيجته الحتمية اكتئابًا أو اكتساب سلوكيات سلبية.

لا بديل عن التوازن المعرفي والسلوكي في تنشئة الأطفال. أوضحت الخبيرة التربوية بثينة عبد الرءوف، أن بناء الشخصية لا ينفصل عن بناء الناحية المعرفية لأي طفل، وما تقوم به الأسر المصرية لا ينتمي بأي حال من الأحوال لأسس بناء الشخصية، فالتركيز على النواحي المعرفية لتحصيل الدرجات الدراسية بدون تنمية النواحي المهارية الأخرى لا يبني شخصيات سوية متزنة.

وأكدت أن المحصلة النهائية لمثل هذه المناهج هو إنتاج أجيال تعاني من السلبية لا تبني ولا تقدم شيئًا لمجتمعاتها، بالإضافة إلى إنتاج أنماط أخرى من الشخصيات مثل الشخصية العنيفة التي عانت من الضغط والكبت طيلة حياتها.

وشددت على ضرورة توعية الأسر بأن الناحية المعرفية درجة من درجات بناء الشخصية، التي لا غنى عنها ولكن هناك نواحي أخرى يجب تنميتها عند الطفل، فليس بالتعليم وحده ينجح الطفل ويكون قادرًا على مواجهة مشكلاته في المستقبل، وإنما يجب الاهتمام بإشراك الطفل في الأنشطة والمهارات وتنميه مواهبه وإعطاؤه متنفسًا ليجد نقاط القوة بشخصيته.     

نمط التعليم

أشارت الدكتورة «ثريا عبد الجواد»، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، في تصريحات لـ«إضاءات»، إلى أنه يجب مراعاة التنوع الاجتماعي والاقتصادي لكل شريحة اجتماعية حين التحدث عن الكرب عند الأطفال، ولكن هناك عاملًا وحيدًا مشتركًا بين جميع الأسر وهو نظام التعليم.

وأكدت الدكتورة ثريا أن بعض أشكال التعليم أوجدت الكرب عند الأطفال لأنه فقد دوره الأساسي، وأصبح مستواه ينحدر تدريجيًّا، وبالرغم من لجوء بعض الأهالي المقتدرين إلى الدروس الخصوصية فإنه لا يمكن استبدال دور المدرسة الريادي في تأسيس الطفل، لأن المدرسة مجتمع كامل يتفاعل فيه الطفل ويتعرض فيه لأنماط مختلفة من  البشر تجعله أقوى في مواجهة أزماته النفسية، هكذا تضيف أستاذة علم الاجتماع.

وتقول الدكتورة ثريا إن تهيئة العملية التعليمية لبناء أطفال موهوبين وأسوياء نفسيًّا، يجب أن تبدأ بالمناهج الجديدة والوسائط التعليمية ووسائل الإثابة، وأن تكون المؤسسات التعليمية جاذبة للطفل عبر الموسيقى والرياضة والمسرح واكتساب المهارات، وعمل برامج رعاية مواهب حقيقية للأطفال.

دور الأسرة

ويرى الدكتور «محمد عبد الله»، الحاصل على دكتوراه الإعلام والطفل ومنشئ محتوى رقمي عبر قناته «مش لعب عيال»، إن الدور الأكبر في قضية اكتئاب أو كرب الطفل يأتي من داخل مجتمعه الصغير، وهو الأسرة.

وأوضح الدكتور محمد عبد الله، في تصريحات لـ«إضاءات»:

تأتي المشكلة غالبًا من تعامل الأسرة مع أزمات الطفل تعليميًّا، فحينما ينخفض مستواه الدراسي وتنخفض درجاته تجد الأسرة منزعجة وتستخدم أسلوب المقارنات، كما أن الأهالي دائمًا يصدرون فكرة تكدس المناهج وصعوبتها، على الرغم من أن هناك أطفالًا في سن الخامسة يحفظون القرآن كاملًا، لأن التهيئة النفسية للطفل ضرورية ويكون للأسرة العامل الأكبر هنا.

«كما أن توفير بيت صحي قائم على الاحترام بعيدًا عن المشاحنات يكون له أثر إيجابي، فلا بد من احتواء الأب والأم للطفل وتهيئته نفسيًّا في مرحلة ما قبل دخول المدرسة، وإقناعه بأهمية الالتزام بالقواعد والتعليمات سواء في الأكل والنوم وممارسة الرياضة كلها خطوات أولية تساعد على تقبل الطفل لنظام المدرسة»، وفقًا لما أكده الدكتور محمد عبد الله.

علاج الكرب

وذكر الدكتور محمد عبد الله، منشئ محتوى رقمي مختص بتربية الأطفال، أنه يجب عدم الضغط على الطفل وإجباره على ترك اللعب من أجل الدراسة، لأن اللعب ضرورة للطفل مثل التعليم، فلا بد أن يكون هناك عملية تنظيم لوقت الطفل، كما أن أخذ رأي الطفل في الكثير من الأمور حتى إذا لم تكن مهمة نوع من أنواع العلاج النفسي للطفل، بالإضافة إلى النزهات الفردية للطفل، فحينما يصطحب الأب أو الأم الطفل في نزهة خارجية بمفرده بعيدًا عن أفراد الأسرة ليتخذه صديقًا له، من أفضل أنواع العلاجات لحالات الكرب.

نظام الإسقاط والنصح غير المباشر من أفضل الوسائل لمواجهة كرب الأطفال، فمثلًا حدوتة ما قبل النوم أو حكي قصص تحتوي على معانٍ مباشرة تعالج مشكلة الطفل، من أفضل العلاجات؛ لأن الطفل غالبًا يكون ذكيًّا جدًًا، ويستوعبها أكثر من النصح المباشر.