حسبي الله ونعم الوكيل في مطربي المهرجانات، الأغاني فيها كلمات لا تتخيلوا كم الإسفاف والانحطاط االلي فيها، كلمات مكانها محكمة الجنايات، الناس دول عايزين ولادنا يعيشوا تحت بير السلم ماسكين سيوف، يقطعوا بيها رقاب بعض.
أفرزت هذه المهرجانات ما يسمى (مستمعي الغريزة)، وأصبح مؤدو المهرجان هم الأب الشرعي لهذا الانحدار الفني والأخلاقي، وقد أغرت حالة التردي هذه بعض نجوم السينما في المساهمة الفعالة والقوية في هذا الإسفاف، لذلك بات من الضروري إعادة النظر في جميع تصاريح الغناء.

كل تلك العبارات هي على لسان نقيب المهن الموسيقية المطرب «هاني شاكر»، والذي أثار حالة كبيرة من الجدل خلال الأيام الماضية، بسبب هجومه المستمر على مطربي المهرجانات الذين اشتهروا في السنوات الأخيرة، وحققوا نسب مشاهدات واستماع كبيرة سواء على موقع اليوتيوب، أو المنصات الغنائية العالمية مثل سبوتفاي وغيرها من المنصات.

ومع الهجوم على أغاني المهرجانات بتهمة أنها غير أخلاقية وتحمل العديد من المعاني الإباحية في كلماتها والتي تؤدي إلى ما يسميه هاني شاكر بالتدني الأخلاقي، نجد بنظرة سريعة نعود بها بالزمن للماضي، أن هذه ليست المرة الأولى التي يظهر بها في تاريخ مصر الغنائي كلمات غنائية تحمل معاني إباحية أو حتى يمكن أن يعتبرها الجمهور خارجة عن الآداب والأخلاقيات، ولكنهم لم يهاجموها أو تم منعها يومًا ما.

المقال يحتوي على محتوى غنائي قد يكون غير مناسب للأطفال.
تنويه

الموروث الشعبي القائم منذ سنوات

إذا كانت لك جدة كبيرة في العمر أو عايشتها منذ سنوات طوال، لا يمكن أن يفوتها أن تحكي لك عن نوعية الأغاني التي كان يتم طرحها وتداولها في سنوات شبابهم والتي قد تبتعد عن زماننا ما يقرب من 50 عامًا، وكان بها بعض مما يعتبرونه هم «دلع» ويتم احتسابه بلغة هذه الأيام على أنه خلاعة، لتحفل أغاني تلك الموروثات الشعبية بكلمات إباحية، تُغنى في الأفراح بين السيدات وبعضهن وفي ليالي الزفاف المتعددة والابتهاج بهذه الأفراح.

«بيضة بياض اللبن وأحلى من الفلة وآدي صدرها ريش نعام صفطه الهوى غنا والعين تشيل وقية م الكحل آبو دلال»، «يا منجد عليّ المرتبة واعمل حساب الشقلبة، يا منجد عليّ المرتبتين وأعمل حساب رفع الرجلين»، «طالع يناغشها نازل يناغشها كسّر غوايشها ع الكحلة والمرايا»، «عيني ع العازب عيني عليه حاطط لباسه تحت راسه والمخدة بين رجليه»، كانت هذه بعضًا من كلمات الأغاني التراثية المختلفة التي تداولها المصريون، دون أن يُعرف لها أصل بالأساس، أو من قام بكتابة تلك الكلمات ومن نشرها وسط المجتمع ولكنها متواجدة منذ عشرات السنوات، ولم يتم الحكم عليها يومًا بالمنع أو أنها تأخذ المجتمع إلى طريق الهلاك الأخلاقي.

وطبقًا لكتاب «موسوعة التراث الشعبي» للكاتب محمد الجواهري، فإن أغاني الموروثات الشعبية كان بها ما هو صريح من الأغنيات الجنسية، بالإضافة إلى استخدامهم الدلالات للتعبير عن المقصود الجنسي بشكل خفي، وكان على سبيل المثال: حيوان الأرنب يدل على الشهوة، وتم استخدامه في التعبير عن العمليات الجنسية حيث أن أنثاه تقوم بالإنجاب كثيرًا ويمكنها أيضًا أن تحافظ على عذريتها.

أما كتاب «أغاني النساء في صعيد مصر» للكاتب محمد شحاتة، أكد أن تلك الأغاني بما فيها من كلمات إباحية كانت تستخدم في تعليم الفتيات ما يجب فعله في ليلة العرس، وحياتهن الجنسية.

وقالت الناقدة والمطربة فيروز كراوية في تصريح لـ«إضاءات»، إنه في نهاية القرن الـ19 لم تكن السيدات يتجولن في الشوارع وبالتالي كان يتم إحضار المطربات لديهن في المنزل لإحياء حفلات خاصة بهن، وبدأ الأمر في التطور ليتحول إلى الطقاطيق، التي امتزجت بها بعض الكلمات الخفيفة على السمع والتي تحول بعض منها إلى إباحي بعض الشيء وبه بعض الكلمات الجنسية نتيجة التأثر بالموروثات، وجاءت بداية تلك الأغنيات في الأفراح، والتي ما زالت متواجدة حتى الآن في القرى والمحافظات.  

ماذا اختلف حين تغنى سيد درويش بالمخدرات؟

يُعاب حاليًا في مطربي المهرجانات الشعبية من باب أنهم يتغنون بكلمات بها تشجيع للخمور والمخدرات وما شابههما: «واشرب خمور وحشيش»، لنجد أن هذا أمر لم يكن بالحديث إطلاقًا على الغناء المصري حيث غنى الراحل سيد درويش للكوكاكيين، وكتب بديع خيري:

اشمعنى يا نخ الكوكايين كخ، دا أكل المخ، هلكنا اعمله على غيرنا،رايح لي تطخ، وجاي تبخ شطب، هو أنت شريكنا حتى في مناخيرنا.

وكان ذلك دفاعًا عن مخدر الكوكايين بشكل صريح، وغنى أيضًا «التحفجية» للحشاشين، ولم يغنّ درويش دفاعًا عن «الكيف» فقط، ولكنه أيضًا تغنى مع الآنسة حياة صبري، كما كان يُطلق عليها أغنية تحض على فعل الرذيلة بشكل صريح والتي أتت تحت اسم «على قد الليل ما يطول»، وجاءت بعض من كلماتها كالآتي: «يا كتاكيتها يا ننوسها يا قطاقيطها يا حنتوسها، اديني بوسة وكمان بوسة، شفّتي بتاكلني أنا في عرضك».

«المجتمع قديمًا كان لديه وعي ولديه قبول، وكنا في أوج مرحلة التنوير، وإرهاصاتها في مرحلة العشرينيات، وما بعدها المفكرون المصريون أخذوا مكانتهم، واستعادت الثقافة المصرية عافيتها بعد ما عانته، ووصلنا إلى التطور مع ثورة 1919، وظهرت لدينا أسماء كسيد درويش وفاطمة رشدي، ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم، وعلى مستوى الكتابة كان لدينا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وقدم هؤلاء أعمالاً حينها إذا تم عرض ظهورها حاليًا سيصل صناعها إلى المحاكمة وسيتم إعدامهم، ولكن كنا في مرحلة تنوير والشعب والجمهور كان متقبلاً لذلك، لأن الأخير كان يحاول أن يتطور»، هذا ما صرح به الناقد الفني مصطفى الكيلاني.

والذي أضاف في تصريح خاص لـ«إضاءات»، أن الردة التنويرية والفنية بدأت في مرحلة السبعينيات وما بعدها، والتي انهارت معها القيم، وكان من ضمنها الفن، وهذا ما تسبب في صعود التيارات الدينية المتشددة والتي أثرت على الفكر المصري بشكل كبير ونتج ما نراه حاليًا من تحريم وتكفير والغضب تجاه أي تيار غنائي مختلف، وإعلان الوصاية على ما يقدم للجمهور بحجة الحفاظ على الذوق العام، أو الوصاية الأخلاقية والدينية كما رأينا من تصريحات خلال الأيام الماضية.

لماذا يتم تجاهل تاريخ مصر الفني لصالح فزاعة الأخلاق؟

مع علو صوت نقيب الموسيقيين تجاه مطربي المهرجانات المصرية الحاليين، ومهاجمة البعض من الجمهور لهم، متحججين بكلمات الأغنيات تارة وأسماء المطربين تارة أخرى، نجد أن هناك تجاهلاً عن عمد أو غير عمد لتراثنا المصري القديم، لنجد كوكب الشرق أم كلثوم تُغني «الخلاعة والدلع مذهبي»، والتي جاءت بعض من أبيات تلك الطقطوقة كالآتي: «الخلاعة والدلاعة مذهبي، من زمان أهوى صفاها والنبي، لما يخطر حبي عندي بمشيته، تلقى قلبي له يميل من فرحته، شوف دلاله ولا قده وطلعته»، والتي قالت عنها «كراوية»، إنها كانت عبارة عن تمرد من أم كلثوم عما كانت تتعرض له من سخرية كونها فلاحة لا ترتدي ملابس أهل القاهرة، لتُجاري أهل القاهرة حينها وتقدم تلك الأغنية، خاصة ومصر في مرحلة خروج المرأة من منزلها وبداية مراحل الانفتاح الحقيقية وتحرير المرأة تاريخيًا.

ولم تكن أم كلثوم وحدها من قدمت هذه النوعية من الأغاني، فقد أعاد الموسيقار والمطرب سيد مكاوي غناء أغنية «لابس جبة وقفطان وعاملي بتاع نسوان»، بعد أن تم غناؤها للمرة الأولى على لسان شفيقة القبطية عام 1912، ثم أعادها بعده أحمد عدوية عام 1985.

ونجد أغنية «سمرا يا سمرا» لكارم محمود، التي كان أحد مقاطعها «انتي الكاس وشفايفك خمرا»، والتي لم يعترض حينها أحد على تلك الكلمات من المؤسسات الرقابية ولم يعدها أحد ضمن الأغنيات الخارجة عن الإطار الأخلاقي.

ومع مقارنة ذلك بأغاني المهرجانات التي يحاول النقيب حاليًا منعها وإزالتها أيضًا من موقع الفيديوهات الأشهر «يوتيوب»، في مواجهة غير ملائمة للتطور على الإطلاق، وذلك بمعاونة بعض من الجمهور الرافض للتغيير والساعي لحجب ما يجهله من أذواق أخرى في السوق الفني، أكد الناقد الفني مصطفى الكيلاني أن ما نراه من هؤلاء هو نتيجة للتشدد الديني والأخلاقي الذي تقوقع داخله البعض، فانقسم المجتمع إلى نصفين، أحدهما الرافض للمهرجانات وما على شاكلتها بشكل عام، والنصف الآخر المؤيد لها والمؤيد بشكل عام ومتعنت لكل ما يوافق عليه الاتجاه الآخر، ليغيب المتوسطون في زحام التشدد الذي تعيشه مصر فكريًا حاليًا.

ولكن الفنانة فيروز كراوية كان لها رأي آخر، حيث رأت أن أغاني المهرجانات هي كلمات نابعة من المجتمع الذي يعيشه هؤلاء، ولكن مع انتشارها ووصولها إلى طبقات اجتماعية غير التي خُلقت بها انزعج أبناء هؤلاء الطبقات مما يستمعون إليه، فحدث التغيير ليوافق عليه البعض ويرفضه الآخر.

وأنهت حديثها بأنه دائمًا ما يتمنى المبدع أن تصبح الرقابة أقل، حتى يستطيع أن يقدم ما هو جديد ومختلف، ولكن حاليًا أصبحنا أمام مُعضلة عظمى وهي وجود فئة لا يمكن أن تمنع الرقابة محتواها، وفئة أخرى هناك مراقبة كبيرة عليها، لذا فيجب أن تحسب الكلمة بحروفها.

ورأت كراوية أن الحل لما نعانيه هو تعليم الموسيقى منذ الصغر وفي المدارس والأماكن التعليمية، وفتح أبواب الحفلات الموسيقية أمام الجمهور، مؤكدة أننا نعاني من شح في الحفلات في القاهرة فما بالنا في المحافظات والأماكن الشعبية وغيرها؟ فكيف لنا أن نمنع الجمهور وأصحاب المواهب وغيرهم من منافذ التعليم والتعلم ونجبرهم بعدها على سماع نوع واحد وموسيقى معينة؟