كان المتوقَّع من التقدم الرهيب في وسائل الاتصال، وسرعة نقل المعلومات، وسهولة الوصول إليها، أن تزدهر المعارف الإنسانية أكثر وأكثر، ويزداد الوعي العلمي والطبي لدى عموم الناس، لكن للأسف الشديد حمل الواقع عكس هذا، فقد أسهم الصراع المحموم على امتطاء صهوة الترند، وزيادة معدلات التفاعل السلبي والإيجابي، لا سيَّما على مواقع التواصل، في أن تتوه الحقائق وسط المبالغات والاستعراضات البلاغية، وكان ما شهدناه في الأيام القليلة الماضية حول عقار السرطان الجديد نموذجًا لهذا الاضطراب، الذي يُعزِّزه أيضًا تفشي الجهل العام بالبحث العلمي وكيفية تقييم قوة أدلته، والمفاضلة بينها.

ركَّزت معظم عناوين المواقع الإخبارية على إشارتيْن مثيرتيْن رئيستيْن في تغطيتها لهذا الخبر. الأولى: هي شفاء المرضى الذين تناولوا هذا العقار بنسبة 100% من السرطان، والثانية: هي تساؤل يحمل من التقرير أكثر مما يحمل من الشك عن الوصول أخيرًا إلى نهاية مباراة صراع البشرية الطويل مع السرطان بالضربة الدوائية القاضية.

وهكذا يتلاعب صُنَّاع الترند مُجدَّدًا بمشاعر وعقول الملايين من مرضى السرطان وذويهم، المتعطشين لكل بادرة أملٍ في شفاء سريع ونهائيٍّ من السرطان، الذي يعاني الكثيرون منه ومن مضاعفاته، وكذلك من نقص فاعلية الكثير من علاجاته التقليدية وآثارها الجانبية العديدة.

والآن، بعد انقشاع غبار الترند ومبالغات وسائل الإعلام، نضع العقار الجديد على الميزان العلمي، ونزِن الحجم الحقيقي لهذا الاكتشاف في مسيرة حرب البشرية الطويلة ضد السرطان.

ماذا حدث؟

العقار المذكور اسمه دوستارليماب Dostarlimab، هو علاج مناعي، ينتسب إلى مجموعة الأجسام المضادة أحادية النسيلة، والتي أخذت في السنوات الماضية تحتل مساحة بارزة في علاج أنواعٍ عديدة من السرطانات الخبيثة، عن طريق استهدافها بشكلٍ دقيق بأسلوب يشبه عمل جهاز المناعة، أو يعمل على تحفيز جهاز المناعة الطبيعي لمهاجمة خلايا السرطان. وهذه الأجسام المضادة أحادية النسيلة تشبه الطلقات الموجَّهة، فإنها لا تضرب سوى أنواعٍ معينة من الخلايا السرطانية التي تحتوى على بروتين أو مُستقبِل معين، يتجه الجسم المضاد إليه حصريًّا، وبالتالي فوفق الأدلة العلمية الثابتة المتاحة، فلا يمكن من حيث المبدأ لنوعٍ واحد من الأجسام المضادة أحادية النسيلة أن يعالج كل أنواع السرطان.

اقرأ: إعادة برمجة المناعة: فتح جديد في طريق قهر السرطان.

والدراسة التي نُشرت نتائجها مؤخرًا في الأسبوع الأول من شهر يونيو/حزيران 2022، في  الدورية العلمية المرموقة NEJM وأحدثت تلك الضجة الزلزالية -على حد وصف صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية– في أوساط المهتمِّين بعلاج السرطان، أجُريتْ على شريحة صغيرة للغاية من المرضى، يبلغ عددهم 14 مريضًا، من المصابين بسرطان المستقيم في المرحلة الثانية والثالثة، أي قبل أن يتفشى في الجسم خارج إطار منطقة الجهاز الهضمي السفلي والحوض. وقد أُعطي المرضى العقار الجديد على مدى 6 أشهر، وبالمتابعة الدءوبة لما يقارب السنتين، لاحظ الباحثون شفاء كل هؤلاء المرضى، دون تسجيل أية واقعة لعودة السرطان إلى النشاط مُجددًا، ودون الحاجة إلى جراحاتٍ استئصالية، خلال أكثر من عامٍ كاملٍ بعد الكورس العلاجي.

لا أظن أن أحدًا قد رأى مثل هذا من قبل. لقد اختفى أثر السرطان جذريًّا لدى كل المرضى في دراستنا.
د.أندريا سيرسيك، الباحثة الرئيسة في الدراسة، والعاملة في مركز مرموق للسرطان في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، في تصريح للواشنطن بوست.

تقليديًّا، يُعالَج سرطان المستقيم بتضافر مجموعة من العلاجات الكيماوية، مع العلاج الإشعاعي، بجانب العلاج الجراحي باستئصال المستقيم، والأعضاء القريبة منه إن امتدَّ إليها السرطان مثل المثانة البولية والبروستاتا … إلخ. ورغم أن ذلك البروتوكول العلاجي قد حقَّق نتائج جيدة في العديد من المرضى، حتى كانت نسبة النجاة من الوفاة خلال 3 سنواتٍ حوالي 77%، فإن الآثار الجانبية له مؤلمة، لا سيَّما مضاعفات استئصال المستقيم  مثل فقدان التحكم في البراز، والتهابات الأعصاب، والاختلالات في الوظائف الجنسية، والعقم.

لم يتم اختيار المرضى قيد الدراسة عشوائيًّا، فقد انتُقوا بعناية من بين هؤلاء الذين يعانون من خللٍ في جيناتهم يُعرفْ بنقص جين إصلاح عدم التطابق، والذي يسمح غيابه لخلايا سرطان المستقيم الغُدِّي -وأنواع أخرى من السرطان- أن تتحايل على جهاز المناعة، فلا يتعرَّف عليها كأجسام عدوة غريبة؛ لمحاربتها، فتأخذ في التكاثر والانتشار بشكلٍ مدمر للأنسجة الطبيعية، ويصعب علاجها بالعلاجات الكيماوية والإشعاعية التقليدية المتوافرة، ولا يكون هناك من حل سوى جراحات الاستئصال فادحة الآثار والمضاعفات. وتُقدَّر نسبة هؤلاء المرضى بحوالي 5-10% من المصابين بسرطان المستقيم. لكن ماذا يفعل عقار دوستارليماب الجديد في هؤلاء المرضى؟

اقرأ: مدخل إلى البحث العلمي الطبي: الدليل العلمي.

اقرأ: دليلك لأنواع الدراسات العلمية الطبية.

يعمل هذا العقار بآلية تسمى checkpoint inhibitor، حيث يثبِّط وسيلة طبيعية في جهاز المناعة تهدئ من رد الفعل المناعي ضد الأمراض والسرطان، وتستغلها بعض أنواع السرطان للنجاة من استهداف جهاز المناعة. وعندما يقمع العقار تلك الآلية، ينطلق جهاز المناعة من عقاله، ويهاجم الخلايا السرطانية بشراسة فيقضى عليها قضاءً مبرمًا، وهو ما حدث في المرضى الذين خضعوا للدراسة المذكورة، والذين لم يعد يظهر بأجسامهم أي أثرٍ لسرطان المستقيم، سواء بأشعة الرنين المغناطيسي أو بالمسح الذري أو بأخذ العينات وتحليلها باثولوجيًّا في المعمل.

زلزال حقيقي أم مجرد خطوة في طريقٍ طويل؟

وفقَ الأدلة العلمية المتاحة حتى الساعة، فعقار دوستارليماب يمثل فتحًا كبيرًا عند تلك الشريحة الضيقة من مرضى السرطان الذين يعانون من نقص جين إصلاح عدم التطابق، فهو يحقق معدلات شفاء مذهلة لديهم، ويكفيهم الحاجة للعلاجات التقليدية الكيماوية والجراحية، والتي أحيانًا تؤثر بالسلب على حياة بعض المرضى بشكلٍ يفوق الأثر المباشر للسرطان نفسه. لكننا ما زلنا بحاجة للمزيد من الدراسات، بأعدادٍ أكبر من المرضى المتطوعين الذين يعانون من نفس الاختلال الجيني الذي ذكرناه، سواء المصابون بسرطان المستقيم، أو غيره من السرطانات. ويمكن خلال أعوامٍ قليلة أن تتأكد النتائج الأولية الإيجابية الحالية في أنواعٍ أخرى من السرطان.

لكن إذا نظرنا بوجهٍ عام إلى مجمل الحرب ضد السرطان والمئات من أنواعه التي اكتشفناها حتى الآن، فلا يزال الطريق طويلًا، ولا يبدو حتى الآن أن تلك الحرب يمكن الانتصار فيها بضربةٍ قاضية واحدة، إنما بالفوز بالنقاط في مباراةٍ ماراثونية طويلة لا نعرف متى يطلق الحكم فيها صافرة النهاية. وادعاء أن عقار الدوستارليماب سيقضى على كل أنواع السرطانات مبالغة غير منطقية، نتمناها، ولا نعقلها.

وحتى لا نكون ملكيين أكثر من الملك، فدورية NEJM العلمية المرموقة، والتي راجعت الدراسة ونشرتها، ذكرت في خلاصتها حول نتائج الدراسة: أنها تثبت فقط أن لعقار دوستارليماب والعقارات المشابهة له في آلية العمل، فاعلية وحساسية شديدة في علاج سرطان المستقيم المقتصر على الانتشار محليًّا، ولدى المرضى الذين يعانون من نقص جين إصلاح عدم التطابق، وما يزال هناك حاجة لمزيد من المتابعة طويلة المدى لهؤلاء المرضى لمدة سنوات للتثبت من انتفاء ظهور السرطان الخبيث مستَقبلًا.