يذهب سارتر والوجوديون لقول إن الاغتراب عن الذات يقع تحت وطأة الظروف التي يعيشها المرء في الحياة، وفي هذا العالم الذي يتسم باللامعنى والخالي من الوجهة والقصد، ويقول «محمد الماغوط» مُعبرًا عن الوحدة الموحشة ومُجسدًا شعور اغتراب الذات: [1]

مخذول أنا لا أهل ولا حبيبة
أتسكع كالضباب المتلاشي
كمدينة تحترق في الليل
والحنين يلسع منكبي الهزيلين

ما بين صراع الأنا والاغتراب

في خضم الحياة المتسارعة الأحداث والتي لا تترك مجالًا للتوقف لبرهة من أجل الراحة، يجد الشخص نفسه وقد ضاعت بين الكثير من الأعمال التي قد تتراكم، ولكنها لا تنتهي ولا تتوقف. وسواء كان مجبرًا أم مخيرًا فعليه في كل الأحوال أن يخوض غمارها سعيًا لإثبات الذات، التي ينغمس من أجلها في القيام بالكثير من الأعمال المسندة إليه دون راحة أو كلل.

يحاول الإنسان إيجاد مساحة من التميز والاختلاف بين الآخرين. لكنه أحيانًا وأثناء سعيه لتحقيق ما يرغب فيه قد يُصدم بالفشل، وعدم التقدير، والكم الهائل من الأعمال المسندة إليه، والكثير من الضغوط التي تفوق طاقته. فيفقد نفسه من دون شعور ويُصاب باللامبالاة، وتحدث لديه رغبة في العُزلة، والانسحاب بعيدًا عن الحياة، وعن المجال الوظيفي، وعمَّن حوله، وحتى عن ذاته.

تموت لدى هذا الشخص كل رغبة في الإبداع ويُصاب بجمود في الأفكار ويبدأ بعيش صراع داخلي بين الواقع ونفسه والآخرين. ويدخل في دوامة ما يُعرف بـ «الاغتراب». والاغتراب ظاهرة قديمة تعود للحظة التي هبط فيها الإنسان من موطنه الأول (الجنة) إلى الأرض، فاجتاحته مشاعر التشتت وتولَّد لديه شعور الغربة، فأصبح الإنسان يشعر بنفسه غريبًا في وطنه وبين أهله حين يواجه ثنائيات التضاد حوله. [2]

كان هيجل أول من استخدم مصطلح الاغتراب استخدامًا منهجيًّا في فلسفته، لكن كارل ماركس هو من تناول مفهوم الاغتراب كظاهرة اجتماعية تاريخية وكمفهوم علماني مادي [3]، حيث وجده نتيجة طبيعية للرأسمالية، وربط الاغتراب بالعمل، فالإنسان يُنتج عملًا لكنه يصير عبدًا له، بمعنى أنه يشعر بالغربة عمَّا تنتجه يداه.

واستعمل ماركس مفهوم الاغتراب لوصف «اللاأنسنة» التي تنجم عن تطور علاقات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي. وهكذا حوَّل ماركس الاغتراب من ظاهرة فلسفية، كما استخدمها هيجل، إلى ظاهرة تاريخية لها أصولها التي تقع ظلالها على المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. [4]

وجوه الاغتراب العديدة

للاغتراب وجوه عديدة، منها الشعور بالاغتراب عن الوطن، والاغتراب النفسي، حيث يشعر الإنسان أنه غريب عن مجتمعه [5]، واغتراب الإنسان عن ذاته، حيثُ تنفك الروابط بينه وبين نفسه، ويعبر عن ذلك الماغوط واصفًا الفجوة الكبيرة بين واقعه الذي يعيشه وماضيه (فترة الطفولة):[6]

فأنا أسهر كثيرًا يا أبي
أنا لا أنام
حياتي، سواد وعبودية وانتظار
فأعطني طفولتي
وضحكاتي القديمة على شجر الكرز
وصندلي المعلق في عريشة العنب
لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري لأسافر يا أبي

وهناك الاغتراب الذي يفارق فيه الإنسان القريبين منه مثل أهله وأصدقائه. أما الاغتراب السياسي، فهو حالة يشعر فيها المرء بالخيبة وفقدان الأمل وعدم الرضا، والانفصال عن عالم السياسيين من قادة وأنظمة سياسية[7]، وعن السياسات الحكومية، ويتلبَّس المرء شعور الغربة والعجز واليأس وعدم الثقة.

ويطول الاغتراب إلى مجالات أخرى منها مجال العمل، والذي يُعرف بـ «الاغتراب الوظيفي»، فيشعر الشخص «بأنه عبد لعمله وبأنه شيء وليس كيانًا إنسانيًّا فعالًا». وما أصعب فقدان الثقة بالذات والتعامل مع النفس وكأنها مادة لا روح فيها تحمل المشاعر والأفكار، وأن يفقد المرء جدواه في هذه الحياة الفسيحة والمليئة بالكثير من الأحداث.

الاغتراب في الأدب العربي

لم تعد ظاهرة الاغتراب غريبة أو غير معروفة في عالمنا العربي، بل على العكس تمامًا، فهي من الظواهر التي تناولتها العديد من الدراسات والروايات الأدبية العربية. ولعل من أبرزها ما جسدته رواية الروائي المصري نجيب محفوظ المنشورة أوائل الستينيات «السمان والخريف» من خلال شخصية البطل «عيسى الدباغ»، وهو السياسي الشاب وأحد المسئولين الكبار في حزب الوفد، والذي يعيش غربة نفسية ومكانية وزمانية وسياسية واجتماعية في وطنه، ويُجسِّد شعور الاغتراب عن الوطن، حين يفشل الفرد في الاندماج داخل وطنه ولا يعود الوطن يستوعبه أو يستوعب الجميع.

فبعد فقدان الدباغ منصبه وسقوط حزبه (الوفد) بعد ثورة يوليو 1952، وتخلي خطيبته عنه على إثر تلك الأحداث، يُصيبه شعور بعدم القدرة على التكيف مع الحياة ويرفض الانخراط فيها عبر العمل في أي منصب جديد، وهو الذي كان يتمنى أن يكون هو وحزبه ومنصبه السابق جزءًا من التغيير، لا أن تستدعيه الأحداث للبدء في حياة جديدة لا تشبه السابقة. [8]

كما جسَّدت رواية «أعالي الخوف» لـ «هزاع البراري» ظاهرة الاغتراب في ثلاث شخصيات عربية يحمل كل منهم شكلًا مختلفًا من الاغتراب عن الآخر، وتنعكس على النواحي النفسية والفكرية والذاتية لكلٍّ منهم.

يذكر الكاتب على لسان أحد تلك الشخصيات التي تعيش صراعًا حقيقيًّا يجعلها تنكر نفسها وكل ما يتعلق بها، وهي شخصية الدكتور فارس:

وحيد مأزوم بأسئلة وأفكار، أسئلة وأفكار أنا نفسي لا أعرف ما هي، صور مشوهة تلاحقني، أنصاف جمل، حياة مبتورة وأيام موتورة ألاحقها وتلاحقني، من أنا؟ كيف كنت؟ وأي مآل صرت إليه؟ حققت حلم غيري وخسرت نفسي، صرت مجرد أستاذ جامعي يُدرِّس مساقات مكررة في الإعلام. [9]

ولعل كل صور التيه وفقدان الذات تجلت في هذه الشخصية التي حققت كل شيء، إلا أن ذلك لا يشكل لها أي قيمة. بل على العكس وكأنه فشل يستحق إلغاء الذات من أجله.

الاغتراب في الأدب الأمريكي

وبالحديث عن «الأنا والاغتراب» لا يمكن إلا أن نتطرق إلى أشهر شخصيات الرواية الأمريكية التي جسَّدت هذا المفهوم وهي «بارتلبي النساخ»، الذي يعمل في مكتب محاماة في شارع «وول ستريت» الكبير.

يجلس إلى نافذة مطلة على حائط من طوب ينجز أعمال النسخ بدون توقف طوال اليوم، وفي صمت، وحين يطلب منه صاحب العمل القيام بأعمال إضافية فإنه يرد فقط بجملة: «أُفضِّل ألَّا أفعل»، دون ذكر أي مبرر أو القيام بمحادثة مع صاحب العمل. وفي ذلك إشارة واضحة لإلغاء الذات وعزلها ورفضها للاستجابة.

فيقرر صاحب العمل التخلي عنه ويغير مكان المكتب وينتقل إلى مبنى آخر، لكن بارتلبي يبقى في ذات المبنى السابق الذي كان فيه المكتب دون حركة، يجلس على الدرج نهارًا وينام على مدخل المبنى ليلًا، مما اضطر المستأجرون ومالك المبنى إلى إبلاغ الشرطة لتقبض عليه، ليسجن ويموت في السجن.

وأثناء بحث صاحب العمل عن حقيقة تلك الشخصية يكتشف أن بارتلبي ما كان سوى شخصية تخلت عن ذاتها نتيجة العمل لسنوات ببريد الموتى والتعامل مع متعلقاتهم في واشنطن، ومن ثَمَّ طُرد فجأة من عمله بسبب تغيير الإدارة، ليعمل كنساخ في مكتب المحاماة. [10]

إن عزل الذات هنا لا يختلف عن الموت في معناه الحقيقي، فلا يصبح هناك فارق إلا في الحضور الجسدي. لذا كان لزامًا على المرء ألا يكرس نفسه لأمر معين ويستنزف طاقته فيه، مما قد يُفقده توازنه في بقية أمور الحياة الأخرى.

المراجع
  1. يادكار لطيف جمشيد. (2005). اغتراب الذات–اغتراب النص قراءة نقدية في نصوص محمد الماغوط الشعرية، (8)12 , JOURNAL OF EDUCATION AND SCIENCE.‏ 162-190 .
  2. شعبان وعادل هنداوی. (2017). تجليات الاغتراب في رواية الحب في المنفى لبهاء طاهر. فيلولوجى: سلسلة الدراسات الأدبية واللغوية، 34(67)، 65-86.
  3. عبد الله عبد الله. (2020). الاغتراب النفسي وعلاقته بالصحة النفسية لدى طلاب الجامعة. مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، 8 (1)، 197- 170 http://dspace.univ-eloued.dz/handle/123456789/6723.
  4. UKEssays. (November 2018). Theory of Alienation by Karl Marx. Retrieved from: https://www.ukessays.com/essays/sociology/theory-of-alienation-by-karl-marx-sociology-essay.php?vref=1.
  5. عبد الله عبد الله. (2020). الاغتراب النفسي وعلاقته بالصحة النفسية لدى طلاب ا لجامعة. مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، 8 (1)، 197- 170 http://dspace.univ-eloued.dz/handle/123456789/6723.
  6. يادكار لطيف جمشيد. (2005). اغتراب الذات–اغتراب النص قراءة نقدية في نصوص محمد الماغوط الشعرية، (8)12 , JOURNAL OF EDUCATION AND SCIENCE.‏ 162-190 .
  7. نعمتی قزوینی ومهدوی پیله رود. (2021). تجلیات الاغتراب وبواعثه في شعر غادة السمان. دراسات في العلوم الإنسانية، 27(4)، 132-144.
  8. محفوظ، نجيب: السمان والخريف، دار الشروق، القاهرة، ط٥، 2012.
  9. البراري، هزاع: أعالي الخوف، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط١، 2014.
  10. هرمان، ملفل: بارتلبي النساخ، دار نينوى، دمشق، 2010.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.