لم يتبق من فيروس كورونا ما يكفي لتحميل المسؤولية عليه. صناعة السينما في مصر دخلت 2022 بآثار طفيفة من الجائحة، وحققت أرقاماً إجمالية أقل وأفضل من المتوقع، ثم يتغير كل شيء عندما نضع في الحسبان تأثيرات التضخم والمنصات والسوق السينمائي الصاعد في المملكة السعودية.

إيرادات وأفلام الأسبوع الأخير من ديسمبر
*إحصاء الإيرادات حتى 21 ديسمبر 2022، إيرادات وأفلام الأسبوع الأخير من ديسمبر متوقعة على أساس خطط العرض المعلنة.

750 مليون جنيه تراكمت في شبابيك تذاكر دور العرض المصرية طوال العام لكلِ من الأفلام المحلية والأجنبية. يبدو الرقم خانقاً في النظرة الأولى، فهو أقل بنسبة 25% عن إيرادات 2019، وهو عام الأساس قبل كورونا، الذي تجاوزت فيه الإيرادات المليار جنيه لأول وآخر مرة. وبشكل واضح هو أفضل من 2021 الذي توقفت إيراداته عند 563 مليون جنيه.

لسنا وحدنا في هذا: شباك التذاكر العالمي من المتوقع أن يسجل انخفاضاً حول نسبة 30% من متوسط الثلاث أعوام ما بين 2017 و2019. الصين نالت أكبر نسبة انخفاض (أكثر من 45%) لاستمرار إجراءات الإغلاق الصارمة بعد عودة تفشي كورونا بعدة مدن، إضافة لمنعها عدة أفلام هوليوودية ضخمة، سواء لأسباب رقابية، أو استجابة للتصعيد السياسي الأمريكي ضدها.

خارج أميركا الشمالية والصين، وهو الجزء الذي ننتمي له بالعالم، من المتوقع أن تكون نسبة الانخفاض 25%، نفس النسبة التي تحققت بمصر. نحن في الأمان، نظرياً، حتى يأتي التضخم كجاثوم كابوسي مقيم.

جاثوم التضخم

مقارنة أرقام الإيرادات المباشرة بفارق عدة سنوات تصلح للبلاد التي لا تعاني من تضخم كبير في قيمة عملتها، وفي ما بين عامي 2019 و2022 هناك تضخم واضح في قيمة الإيرادات، لحساب هذا يمكن استخدام (مؤشر أسعار المستهلك) الذي يراكم نسب التضخم الشهرية الحكومية بناء على قياس أسعار سلة سلع محددة (في حالة مصر تكون نسب التضخم أقل بقدر واضح من أرقام التضخم الحقيقية)، سجل المؤشر 101.9 نقطة في يوليو 2019، و127.8 نقطة بنفس الشهر بـ2022، ليرتفع مؤشر الأسعار بنسبة 26% تقريباً.

للمقارنة يتم تحويل إيرادات 2019 إلى ما يعادلها في 2022، وهكذا تُعادل إيرادات 2019 حوالي 1270 مليون جنيه الآن، وبمقارنة إيرادات 2022 بمعادل 2019 تصبح نسبة الانخفاض حوالي 41%.

السيناريو الأقسى للتضخم عندما تنخفض (قيمة) الإيرادات مع عدم قدرة دور العرض على رفع أسعار التذاكر لمعادلة زيادة تكاليف التشغيل، كما حدث بالفعل في 2017 و2018، لكن خلال الثلاث سنوات الأخيرة نجحت دور العرض في تطبيق زيادات يتجاوز متوسطها التراكمي 35%. إذن، رغم زيادة الأسعار تظل هناك فجوة مع إيرادات 2019، ويعني هذا بوضوح حدوث انخفاض كبير في عدد التذاكر المباعة.

طبقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وصل عدد تذاكر السينما المباعة إلى 14.7 مليون تذكرة في 2019، وهو كان أعلى رقم يتحقق منذ 2009، ومن الواضح أن مبيعات 2022 ستكون أقل من 14 مليون تذكرة، وهذا رغم سلسلة الأرقام القياسية التي تحققت خلال العام.

بالنسبة للأفلام نفسها، يلعب التضخم دوراً تشجيعياً للأرقام القياسية المطلقة: في 2019 كان الفيل الأزرق 2 هو أول فيلم ينجح في كسر حاجز الـ100 مليون في الإيرادات، وتبعه بعد أسابيع فيلم آخر هو (ولاد رزق 2). في المقابل، كان «كيرة والجن» هو معجزة 2022 ونجح في تسجيل علامة أبعد بإيرادات تخطت 117 مليون جنيه.

لكن «الفيل» اقتحم قائمة أعلى 10 أفلام في شباك التذاكر المصري بعد معادلة التضخم وهو الآن في المركز التاسع، بينما لن ينضم «كيرة والجن» لنادي العشرة العابرين للتضخم.

اقرأ أيضاً: شباك تذاكر سينما مصر 2019.. الصعود إلى حافة المليار

الأفلام الأعلى إيرادات في شباك التذاكر المصري في 2022

  1. «كيرة والجن» – 117 مليون جنيه.
  2. «عمهم» – 56.7 مليون جنيه.
  3. «واحد تاني» – 41 مليون جنيه.
  4. «بحبك» – 52.7 مليون جنيه.
  5. «العنكبوت» – 36.3 مليون جنيه.

التنافس في غياب المنافسة

في 2022 زاد نصيب الأفلام المصرية في المبيعات أمام الأفلام الأجنبية إلى 65% (مقابل 59% في 2019)، يرجع هذا أساساً لضعف المنافسة أمام الأفلام الأجنبية، حيث لم ينجح سوى فيلمي Top Gun: Maverick وBlack Adam في تجاوز علامة العشرين مليون، وهو تراجع كبير حتى مقارنة بعام 2021 الذي سجل فيه Spider-Man: No Way Home أكثر من 21 مليوناً في أسبوع الافتتاح وحده.

السؤال هو: مع غياب هذه المنافسة، لماذا لم تنجح الأفلام المصرية في تحقيق أرقام أكبر؟ الإجابة في السؤال: بسبب غياب المنافسة.

بشكل عام، وقعت آخر منافسة خشنة بين فيلمين مصريين في موسم عيد الأضحى 2018، عندما اصطدم فيلما «البدلة» و«الديزل» مع تمتع كلاهما بفرص توزيع متكافئة.

اقرأ أيضاً: أفلام عيد الأضحى 2018.. من الفائز في حرب الإيرادات؟

لكن بداية من 2020، وخلال جائحة كورونا، أصبح التنسيق ضرورياً بين الموزعين لتجنب التنافس على شاشات العرض أثناء تقييد نسب الإشغال. انتهى الوباء وظل هذا الاتفاق غير المكتوب سارياً، وباستثناء مواسم الأعياد وبداية العام، مرة واحدة فقط انطلق فيلمان بنفس الأسبوع (تحت تهديد السلاح و#هاشتاج جوزني في بداية نوفمبر).

تأثير هذا كان واضحاً في إجمالي عدد الأفلام المعروضة الذي انخفض إلى 26 فيلماً طوال العام*، أقل حتى من 2021 الأكثر تأثراً بالجائحة و2013 الذي شهد حظر تجوال ليلي استمر عدة شهور. معظم أفلام 2022 لم تنجح في جمع 10 ملايين جنيه، وهناك 3 أفلام لم تصل إيراداتهم إلى 250 ألف جنيه؛ أقل من ميزانية تصوير يوم واحد.

*أفلام نهاية العام تُتحسب للعام الذي يضم معظم أسبوع الافتتاح، ولهذا يُحتسب فيلم «الكاهن» في 2022 لأنه بدأ في 29 ديسمبر 2021 (4 أيام في 2022)، وكذلك فيلم «نبيل الجميل خبير تجميل» المتوقع بدء عرضه في 28 ديسمبر (4 أيام في 2022).

يتحدد مصير الأفلام سلفاً حسب اسم الموزع وعدد الشاشات المتاحة لها، إذا كان السوق متحفظاً كما هو الحال بآخر 3 سنوات، يميل الموزعون لمنح فرص إضافية لأفلامهم الموجودة فعلياً في دور العرض حتى مع انخفاض معدل إيراداتها من أسبوع للتالي، ويصبح هذا أكثر أماناً من المغامرة بإصدار فيلم جديد.

ومع ندرة فرص العرض، لا يغامر المنتجون بتنويع أفلامهم. أكثر من نصف أفلام 2022 كوميدية وغالباً ما يتكرر نجومها، لم يتحمل العام إلا فيلمي أكشن وفيلم رومانسي واحد فقط، ودون أفلام اجتماعية على الإطلاق، كما انقرضت أفلام الآرتهاوس التي كانت تتسلل لدور العرض بسهولة نسبية قبل كورونا.

المشاهد يرى هذا: ارتفاع أسعار التذاكر، أعباء الحياة الأساسية أهم من السينما، وأفلام تفتقد التنويع. في المقابل صناعة السينما تضع نظرها على السعودية والمنصات.

العالم السفلي لأرقام تامر القياسية

أصبحت هذه عادة سنوية لدى تامر حسني: أن يعلن إيرادات أفلامه في أنحاء العالم بالجنيه المصري، ليسجل لقباً غامضاً ومراوغاً يُدعى (أعلى إيرادات في تاريخ السينما العربية)، بدأ هذا منذ فيلم البدلة (2018)، ثم «الفلوس» (2019)، و«مش أنا» (2021)، وأخيراً في «بحبك».

في مصر، اكتفى «بحبك» بالمركز الثالث في الإيرادات (53 مليون جنيه)، بل إنه سجل إنجازاً فريداً بخسارة تقدمه في أسبوعي الافتتاح لصالح فيلم «عمهم» الذي احتل المركز الثاني بإيرادات 57 مليون رغم كون الأقل انتشاراً في دور العرض بعيد الأضحى.

لكن في السعودية أفلام تامر تسجل نجاحاً واضحاً. في 2021 جاء فيلمه «مش أنا» بالمركز الخامس ضمن أعلى 10 إيرادات بالمملكة خلال العام برصيد بلغ 8.2 مليون دولاراً أمريكياً، ليسبق أفلام هوليوودية ضخمة مثل No Time to Die وFast & Furious 9.

المنهج الدعائي لأفلام تامر يعتمد على تحويل الإيرادات خارج مصر إلى الجنيه لخلق رقم مبهر (تخيل عندما يعادل نصف مليار جنيه)، لكن التنافس بين أفلام من دول مختلفة يحتاج إلى تثبيت عملة وسيطة هي الدولار، مع وضوح سعر العملة المحلية وقت التحويل، إضافة لتطبيق معاملات تضخم الدولار لمقارنة أفلام عُرضت بأعوام متباعدة.

في 2022 حقق «بحبك» إنجازاً جيداً في الإمارات بإيرادات 3.3 مليون دولار، وهو رقم قياسي بالنسبة لتامر وللأفلام المصرية في الإمارات، وفي السعودية حقق ما يقارب ضعف إيرادات فيلمه السابق: 15.6 مليون دولار وضعته بالمركز الثالث في قائمة أعلى 10 أفلام في تاريخ شباك التذاكر السعودي (مع التحفظ على لفظ تاريخ لحداثة عهده)، ومع إضافة إيرادات مصر بأسعار الدولار في يوليو 2022، يصبح مجموع إيرادات الفيلم 20.7 مليون دولار، ولا تزال هناك إيرادات إضافية بباقي الدول العربية وأميركا الشمالية التي لا تعلنها شركات التوزيع، وهو ما يحمل الفيلم لقائمة (أعلى إيرادات في تاريخ السينما العربية)، ولكن في المركز الثالث، بعد الجزائري-الفرنسي «بلديون» (2006)، واللبناني «كفرناحوم» الذي حصد 64.4 مليون دولار في 2018 (76.4 بمعادلة التضخم) وكان معظمهم من الصين.

اقرأ أيضاً: ما الذي تغيّره السعودية في صناعة السينما المصرية؟

السعودية المقر الرئيسي

السعودية الآن هي السوق الرئيسي للأفلام المصرية، بما يتجاوز أي أهمية تاريخية للسوق المصري، ففي 2021 جمع «وقفة رجالة» 15 مليون دولار في شباك التذاكر السعودي (مقارنة مع 2.6 مليون من مصر والإمارات سوياً)، كما حقق «ماما حامل» مفاجأة ثانية بإيرادات سعودية 5.9 مليون دولار. وفي 2022 انضم للتوب 10 التاريخي السعودي فيلماً «من أجل زيكو» و«عمهم»، وبالقرب من قائمة العشرة سيأتي أيضاً فيلم «واحد تاني».

بسهولة يمكن ملاحظة العامل الكوميدي المشترك بين هذه الأفلام، فبعد النجاحات المفاجئة في 2021، يوجه المنتجون المصريون مشروعات الإنتاج الجديدة لمحاولة استنساخ تلك الناجاحات، وهذا من دون حساب تأثير التمويل السعودي خلال المراحل المبكرة من الإنتاج.

وبشكل أقل وضوحاً، تلعب المنصات دوراً مشابهاً. كل الأفلام التي لم تنجح في السينمات المصرية لم تكن تستهدف شباك التذاكر المحلي بأي حال، بل إن عرضها السينمائي هو مجرد ترويج لبدء إطلاقها على المنصات، المشاهد يعرف هذا فينتظر بدء عرضها على المنصات وتسربها لمواقع القرصنة، وفي حالات أخرى لا تصل الأفلام لدور العرض المصرية، مثل فيلم الرجل الرابع، وهو فيلم كوميدي صغير التكلفة عُرض تجارياً في معظم الدول العربية إلا مصر، ثم استقر أخيراً على منصة شاهد السعودية.