أصدر الباحث في الاقتصاد السياسي عمرو عادلي، بالتعاون مع الباحث الأمريكي ناثان براون كتابًا مهمًا بعنوان «الدولة والمجتمع في مصر الحديثة: رد اعتبار وإعادة نظر»، الصادر عن دار المرايا عام 2023، ونقل إلى العربية -وليس ترجمة- لكتاب «مصر: دولة متثاقلة ومجتمع قلق» (2021) الذي كتبته معهما الباحثة شيماء حطب.

الكتاب هو مراجعة نقديّة للأدبيات الأكاديميّة، مصريّة ودوليّة، التي نُشرت حول مصر في الخمسين عامًا الماضية، وإعادة رسم خريطة المفاهيم والأطر النظرية التي تناولت بالرصد والتحليل الدولة والمجتمع والاقتصاد السياسي المصري خلال القرنين المنصرمين، أو ما يمكن اعتباره «مصر في العصر الحديث».

ينقسم الكتاب إلى فصول تتناول الأطراف الفاعلة في معادلة السياسة والاقتصاد في مصر وهما الدولة والنظام والمجتمع، ويُحلّل التفاعل التاريخي بينهم، ثم ينتقل إلى مناقشة مسار التنمية وجذوره في الاقتصاد-السياسي ويطرح تصورًا خاصًا للنسق الاقتصادي المصري كونه اقتصاد «هابيتوس»، وهو مصطلح تحليلي من السوسيولوجي الفرنسي «بيير بورديو»، ويعني البيئة المحيط بالأفراد التي تشكّل فهمهم للعالم وموقعهم فيه، فيرى الكاتب أن فاعلي الاقتصاد المصري اعتمدوا بالأساس في ممارساتهم الاقتصادية على روابط وعلاقات اجتماعية غير رسمية، كالعائلة والأسر الممتدة والصلات العشائرية والانتماءات الطائفية وروابط الجيرة والمنشأ والصداقات الشخصية، وهو إطار تحليلي أوسع من «الزبونية» و«المحاسيبية» التي ترّكز في تعامل هؤلاء الفاعلين مع الدولة، متجاهلة الاستثناءات الواضحة التي سردها الكتاب والاقتصاد غير الرسمي الذي يصل وفقًا لبعض التقديرات إلى 40%.

يبدو موضوع الكتاب نخبويًا أو موجهًا إلى مختصين يهتمون بأمور معينة في الشأن العام، لكن في الحقيقة، هو موجه بلغة خطابه وبنيته -في نسخته العربية- إلى شرائح أوسع من المثقفين والمهتمين بالمجال العام. رغم أن الكتاب يشوبه بعض التكرارات، خصوصًا في مقدمات الفصول، نتيجة التحرير المكثَف والمكثِف للأصل الإنجليزي، فتكمن أهميته في أنه يُعتبر مُحطِمًا للقناعات المتواضع عليها أو البداهات -على الأقل وضعها في محل تساؤل وتشكيك كبيرين- التي ترسخت عبر عقود طويلة، ليس فقط في الكتابات الأكاديميّة، بل أيضًا في الخطابات الصحفيّة والسياسيّة والشعبيّة -على وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً- سواء في الخارج أو داخل مصر نفسها.

وقائمة المواضعات هذه تطول على مدار الكتاب من قصدية ونفاذ السلطويّة وفشل مساعيها المحتم، تطابق الدولة مع النظام السياسي، مفهوم الدولة العميقة، تصور وحدة وتناغم الدولة أو المجتمع، وصولاً إلى مدى الآثار التنموية السلبيّة لكل من هزائم مصر العسكريّة بخاصة هزيمة 1967، الهيمنة العولميّة، الزيادة السكانيّة، وريعيّة الاقتصاد المصري أو كونه ذا توجه نيو-ليبرالي، الفساد والمحاسيبيّة… إلخ.

يفعل الباحثان هذا عبر أربع وسائل منهجية:

  • أولاً: باستخدام مقاربة سوسيولوجيّة تاريخيّة تتمركز حول المستوى المؤسسي في التحليل، تنتبه إلى مسارات الاستمرار والانقطاع التاريخي لها، فتتحاشى التحليل البنيوي الصارم الذي لا يرى للفاعلين دورًا في تشكيل عالمهم، والمدارس التحليلية التي ترى أن الفاعلين يتمتعون بكامل الحرية في اتخاذ القرارات.
  • ثانيًا: توسيع مفهوم «السياسي» من ممارسة السلطة الرسمية ممثلة في الدولة أو النظام السياسي، إلى تناولها كعلاقات قوى ممتدة عبر المجال العام والخاص، على نحو ينظر للسلطة العامة كجزء من كل، وبشكل ديناميكي وتفاعلي مع الممارسات الاقتصادية والاجتماعية، يأخذ في الاعتبار التفاعلات والتمايزات بل والصراعات داخل هذه المجالات (الدولة والاقتصاد والمجتمع).
  • ثالثًا: إعادة النظر في المفاهيم والقناعات التحليليّة المترسخة في الخطابات التي تناولت مصر والمصريين في العصر الحديث، وذلك عبر مضاهاتها بالواقع المصري (بالإحصائيات والبيانات الرسمية وغير الرسمية) وعقد مقارنات بين السياق المصري والسياقات المماثلة في العالم مثل بلدان أمريكا الجنوبية وأفريقيا وشرق آسيا والصين والهند وتركيا… إلخ، مع الاحتفاظ وأخذ في الاعتبار الاختلافات والتمايزات بينهم.
  • رابعًا: وضع مصر في سياق إقليمي وعالمي أوسع، ما سماه الكاتب وضع «مصر في العالم، والعالم في مصر»، وهو على خلاف كثير من التحليلات التي تتعامل مع مصر كأنها قطعة معزولة في الفضاء الخارجي محصنة داخل فقاعة ضد أي تفاعلات خارجية كانت. مما يعني النظر إلى مصر -وهو أمر ضروري- كدولة نامية، أو بتعبير أفضل استخدمه الكتاب من دول «الجنوب العالمي» التي تعرضت إلى الاستعمار التاريخي من قِبَل الإمبراطوريات العظمى والتحديث من أعلى والخارج، والدمج غير المتكافئ مع الاقتصاد المعولم، والإملاءات السياسيّة والاقتصاديّة لاختلاف موازين القوى، وطبيعة أقاليمها المتقلقة سياسيًا… إلخ. وهذا غير أنه منظور يضع الأمور في نصابها، فهو يشير إلى:
أن مسارات التنمية لا يفسرها عامل واحد، وإنها عملية تاريخية مركبة فيها قيود ومحددات وكذلك فرص موضوعية تأتي من واقع الاقتصاد العالمي والظروف الجيو-سياسية، ولكن رد فعل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين عليها من خلال المؤسسات والسياسات هو الآخر عنصر حاسم.
(ص. 114)

ما يبدو مثيرًا، وربما أكثر أهمية بشكل ما، هو الكلمة المكتوبة في العنوان الجانبي قبل إعادة النظر وهي «رد اعتبار». أول ما يتبادر للذهن هو السؤال رد اعتبار إلى ماذا؟ أين الإهانة أو الغبن الذي وقع؟ لا تقال الإجابة صراحة في الكتاب، لكن يمكن استشفافها في بيان أن مقدرات الشعوب لا تكون رهينة لإرادات فردية مهما حازت من سلطة وقوة:

باختصار، تنشأ الدول عبر عمليات تاريخية طويلة المدى، فهي نتاج عمل بشري متضافر. ولا تقف حكرًا على الإرادات الفردية، فحتى وإن وجه دفتها الحكام والأنظمة، فإن ذلك لا يحدث دائمًا بسهولة أو بشكل فعال.
(ص. 46)

وهو ما يتكرر بمعان وسياقات عديدة في الكتاب، مُحطِّمًا السرديات الكبرى التي ترى أن مسار تطور المجتمع والدولة والاقتصاد في مصر في القرنين الماضيين، كمسار مُخطَّط مُسبقًا أو محتم أو له منطق واحد حكم تحولاته.

بشكل أعمق، يُفهم أيضًا أنه رد الاعتبار للعلِم والفهم الموضوعي، المشوهين بالعاطفة السياسيّة والشخصيّة، وذلك ليس انتصارًا لطرف معين مغبون حقه أو دعاية لجهة ما، لكن التأكيد، المتعلق بالكرامة قبل أي شيء، على الحاجة إلى التفكير المجرد والنقدي لفهم الواقع ومن ثم فتح إمكانية تغييره وتحسينه يومًا ما.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.