ما يأتيني قرشيّ أفهم من هذا الفتى [يعني الشَّافعي]
مالك بن أنس
ما أحدٌ مسَّ محبرة ولا قلمًا، إلا وللشَّافعيّ في عنُقه منَّة.
أحمد بن حنبل
ما كان الشّافعيُّ إلا ساحرًا، ما كنَّا ندري ما يقولُ إذا قعدنا حوله، كأنّ ألفاظه سكَّر، وكان قد أوتي عذوبةَ منطق، وحسْن بلاغة، وفرْط ذكاء، وسيَلان ذهن، وكمال فصاحة، وحضور حجَّة.
يونس بن عبد الأعلى
وكفى الشَّافعيَّ مدحًا أنَّه الشَّافعي.. فإنّى أعتقدُ –غير غالٍ ولا مسرف– أنَّ هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام، في فقه الكتاب والسَّنة، ونفوذ النظر فيهما، ودقَّة الاستنباط، مع قوّة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجَّة، وإفحام مناظره.
أحمد شاكر

الحديث عن الإمام الشافعي (رحمه الله) في هذا المقال القصير صعبٌ جدَّا؛ فهو إمام الدّنيا، وفقيه الملَّة، ومجدِّد لها أمْر دينها، وفي سيرته وفضائله وفقهه ألّفتْ مئات الكتب والرَّسائل المطبوعة والمخطوطة، لكنَّنا نحاول أن نسلّط الضوء على أهمِّ ملامح حياة هذا الإمام، وإسهاماته العلميَّة، وتأثيره في عصره، ومن جاء بعده.

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس، ويمتد نسبه إلى أن يصل إلى هشام بن المطلب بن عبد مناف. فهو يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في عبد مناف. وأمَّا أمّه فكانت امرأة من الأزد. وُلد بغزَّة ببلاد الشام سنة 150 هـ، وهي السَّنة التي توفِّي فيها الإمام أبو حنيفة (رحمه الله)، ومات بمصر سنة 204 هـ.

نشأ الشافعي في أسرة فقيرة، ومات أبوه وهو لا يزالُ صغيرًا؛ فانتقلت به أمُّه إلى مكَّة؛ خشية أن يُغلَب على نسَبه، وكان ذلك وهو ابن سنتين. وهذه النّشأة الفقيرة مع ما اجتمع له من شرف النّسب كان لها أعظم الأثر في تكوين شخصيته العلمية فيما بعد. يقول الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله):

والنشأة الفقيرة، مع النسب الرفيع تجعل الناشىء ينشأ على خلق قويم، ومسلك كريم، إن انتفت الموانع، ولم يكن ثمة شذوذ؛ ذلك أنّ علوّ النسب وشرفه يجعل الناشئ منذ نعومة أظفاره يتجه إلى معالي الأمور، ويتجافى عن سفسافها، ويرتفع عن الدنايا.. ثم إن نشأته فقيرًا مع الطموح بنسَبه يجعله يحسّ بإحساس الناس، ويندمج في أوساطهم، ويتعرّف خبيئة نفوسهم، ودخائل مجتمعهم، ويستشعر بمشاعرهم، وذلك ضروري لكل من يتصدَّى لعمل يتعلق بالمجتمع، وما يتصل به في معاملاته، وتنظيم أحواله، وتوثيق علائقه. وإنَّ تفسير الشريعة، واستخراج حقائقها، والكشف عن موازينها ومقاييسها = يتقاضى الباحث ذلك.

وظهر نبوغ الشافعي في سنّ مبكّرة؛ فبدا ذكاؤه وسرعة حفظه، فحفظ القرآن صغيرًاولمّا يتجاوز سبع سنين، ثم اتَّجه إلى حفظ السَّنة، والاهتمام بالحديث، فحفظ موطّأ مالك وهو ابن عشر سنين، ولم يكتف بذلك، بل تفقَّه في العربيَّة وفصيحها؛ فأقام في البادية دهرًا، ومنهم تعلَّم الرَّمي وأجاد فيه؛ فما كان يخطئ سهمُه.


الشافعي من مكة إلى مصر

مر الشافعي بمراحل كثيرة في حياته العلمية تنقل فيها بين حواضر الإسلام في زمانه حتى استقر به المقام في مصر:

المرحلة الأولى: وكانت في مكَّة بعد انتقاله إليها من غزَّة مع أمِّه، وفيها أخذ عن علمائها من الفقهاء والمحدثين حتى أذِن له بالفتوى، وممّن أخذ عنهم بمكّة: سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد الزنجي، وداود بن عبد الرّحمن العطار.

المرحلة الثَّانية: رحل الشّافعي إلى المدينة؛ لينهل من علم مالك، وكان قد حفظ الموطَّأ، فقابل مالكًا، وقرأ عليه الموطَّأ، ولزمه؛ فتفقّه عليه، وأعجِب به مالكٌ جدّا؛ لسعة حفظه وفصاحة منطقه، وأثنى عليه، وأخبره أنَّه سيكون له شأن، ولازم مالكًا حتّى وفاته. كما أخذ عن آخرين كإبراهيم بن سعد الأنصاري ، وعبد العزيز بن محمد الدَّارَاوردي ، وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي (وكان معتزليّا)، فلم يمنعه كونه من المعتزلة أن يأخذ عنه، وقد مدح مقاتل بن سليمان (الزّيديّ) وجعله إمامًا في التّفسير، وهذا يدلُّ على سعة أفقِه، وعظيم شغفه بالعلم.

المرحلة الثّالثة: في العراق، وهناك درس فقه العراقيين، فأخذ الفقه والحديث عن محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وأحبَّه حبَّا عظيمًا، وكان يجلّه ويكبره، وكان محمد يبادله الأمر نفسه، ويعظّمه تعظيمًا كبيرًا، كما أخذ أيضًا عن وكيع بن الجرَّاح، وعبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثَّقفي، وإسماعيل بن عُليّة.

وهكذا، فقد فاجتمع للشَّافعي فقه الحجاز وفقه العراق، فقه النقل وفقه العقل، فقه الأثر وفقه الرَّأي؛ فكان منه هذه الطَّفرة الفقهيَّة المحكَمة التي خبرت جميع المذاهب السَّابقة لها، وأحاطت بها من جميع جوانبها، وعرفت مواطن قوّتها وضعفها.

المرحلة الرَّابعة: إلى مكَّة مرّة أخرى، يدرّس في الحرَم المكّي، ويعقد بها أوّل مجالسه، ويلتقي بأكابر العلماء، فيأخذ عنهم ويأخذون عنه، وخلال هذه المدَّة لقي الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله)، فأخذ الأخير عنه، وتفقّه عليه. حتى إن أحمد بن حنبل (رحمه الله) جلس معه مرة، فجاء أحد إخوانه يَعتِب عليه أن ترَك مجلس ابن عيينة -شيخ الشافعي- ويجلس إلى هذا الأعرابي! فقال له الإمام أحمد:

اسكت! إنك إن فاتك حديث بعُلوٍّ وجدتَه بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف ألا تجده، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى!

المرحلة الخامسة: العودة إلى بغداد، وهذه المرّة قدم إلى بغداد معلِّمًا لا متعلّمًا، يحملُ فقهًا لم يُسبق إليه؛ فاجتمع إليه النّاس، وانثالوا عليه، ثمَّ تركها وقد أصبح له فيها مدرسة خاصَّة، وله أصحاب يتولّون نشر مذهبه فيما عرِف بعدُ بطريقة العراقيين. وهكذا فقد بدت طريقة الشافعي الفقهيَّة تظهر، وكانت تتميَّز بطابع خاص يميّزها عن غيرها، فلا هي بطريقة الحجازيين، ولا هي تشبه طريقة العراقيين، وكان ذلك نتيجة إحكامِه وإحاطته بفقههم جميعًا. يقول الفخر الرَّازي (رحمه الله):

الناس كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرّأي. أما أصحاب الحديث: فكانوا حافظين لأخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحدٌ من أصحاب الرأي سؤالًا أو إشكالًا سقوا في أيديهم عاجزين متحيّرين. وأما أصحاب الرأي: فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي (رضي الله عنه): فكان عارفًا بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، محيطا بقوانينها، وكان عارفا بآداب النظر والجدل قويّا فيه، وكان فصيح الكلام، قادرًا على قهر الخصوم بالحجّة الظاهرة، وآخذا في نصرة حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكل من أورد عليه سؤالًا أو إشكالًا أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث

المرحلة السَّادسة: مِصْر، وكان سبب ذهابه إليها دعوة من العباس بن عبد الله حفيد عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وكان خليفةَ المأمون على مصر. ويُروى عنه أنّه قال عندما عزم السّفر إلى مصر:

لقد أصبحتْ نفسي تتوق إلى مصر … ومن دونها قطع المهامة والقفر فوالله مـــا أدري الفــــــوز والغنى … أُساق إليها أم أســاق إلى القبر

وكان قبل أن يأتي إلى مصر عارفًا بأحوال أهلها، فقد سأل الرّبيعَ عن أهل مصر؟ فقال له: إنّهم فرقتان: فرقة تميل إلى قول مالك، وأخرى إلى أبي حنيفة. فقال له الشَّافعي: أرجو أن آتيهم بشيء أشغلُهم به عن القولين جميعًا. وقد كان ما قال رحمه الله.

وفي مصر أدركَ الفوزَ والغنى ؛ فانتشر مذهبُه، ونال الغنى بما كان يأخذُه من سهم ذوي القربى، ثمَّ ناله الموت أيضًا بها بعد أن بقي بها نحوًا من أربع سنوات، وقد بلغ 54 عامًا. وفي مصر اكتمل نضجه، واستوى فكره، وعدل عن كثير من آرائه السّابقة، حتّى اشتُهر أنَّ للشَّافعي مذهبين: المذهب القديم، والمذهب الجديد.

يرى الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله) أن توجيه الإنسان إلى المعرفة والتأثير يتحكّم فيه أربعة عناصر، وهي: مواهب الشخص، ومن يصادفهم من الموجّهين والشيوخ، وتجاربه وحياته الشخصية، وعصْره والبيئة الفكرية التي لابستْه. والحقيقة أنَّه قد اجتمع للشَّافعي من هذه الأربعة ما يكفلُ له الرّياسة في زمانه، والتَّأثير في جيله، وكلِّ من أتى بعده.

– كان الشّافعي حادّ الذكاء، يتّجه فكرُه إلى دراسة الكلِّيات التي منها تُستخرج أحكام الجزئيات، وكان من نتيجة هذا الفكر الثّاقب وضعه لعلم أصول الفقه، كما كان فصيح اللسان، قويَّ البيان، وكان نافذ البصيرة، قويّ الفراسة، وله في ذلك قصص وأعاجيب.

– كان جريئًا في قول الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، لا يضرّه أن خالف السّائد من الأقوال إذا اعتقد أنّه الحقّ، حتّى إنّه اتُّهم بالرّفض تارة، والنّصب تارة أخرى، وكتب في ذلك شعرًا يقول فيه:

إذا نحن فضّلـنـا عليّــا فإنَّنــا … روافض بالتَّفضيل عند ذوي الجهـل وفضـلُ أبي بكر إذا ما ذكرتُه … رميتُ بنصبٍ عند ذكري للفضل فلا زلتُ ذا رفْض ونصْب كلاهما … أدينُ به حتى أوسد في الرّمل

– لم يمنعه إخلاصه لمالك أن يعلن مخالفته له، ولا حبّه لمحمّد بن الحسن أن يناظره وأصحابَه فسمّى ناصر الحديث.

– كان الشّافعي تتوافر فيه أمارات الإخلاص، وله في ذلك أقوال عجيبة طارت كلّ مطار، ومن ذلك قوله: «وددت أنّ الناس لو تعلّموا هذا العلم، ولا يُنسَب إليّ شيء منه» وقوله: «ما ناظرتُ أحدًا إلا على النّصيحة» وقوله: «ما ناظرتُ أحدًا فأحببتُ أن يخطىء» وقوله: «إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي».

– كان قويّ الشخصيّة، يتسامى عن سفاسف الأمور، خبيرًا بنفوس النّاس وأحوالها، يتواضع في غير مذلّة، يعرفُ قدر نفسه ولا ينزلُها دون منزلتها، له فراسة عجيبة، يقول يحيى بن معين عنه: «لو كان الكذب له مباحًا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب» ويقول هو عن نفسه: «لو أعلم أنّ الماء البارد يُنقص مروءتي ما شربتُه» ويقول: «اللبيب العاقل هو الفطِن المتغافل» ويقول: «الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبَض والمنبسِط» ويقول: «الوقار في النّزهة سُخْف».


الشَّافعي وعلم الكلام

كان الشافعي يبغض علم الكلام، كعادة الفقهاء والمحدّثين في عصره؛ إذ كان القائمون على هذا العلم المعتزلة، وكانت طريقتهم فيه تباين طريقة السّلف، كما كانوا يحرّضون الخلفاء على أذى العلماء المخالفين لمنهجهم، كما فعلوا مع الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله)، ومع ذلك فقد كان الشافعيّ عالمًا بالكلام، وبلغ فيه مبلغًا عظيمًا كما روي ذلك عنه، لكنّه كان يكره السّير فيه؛ لأنّه لا طائل من ورائه، ولأنّ الخطأ فيه ليس هيّنًا إذ تكون نتيجته الرَّمي بالكفر. ومع هذا البغض من الشافعي لعلم الكلام إلا أنّه أثِر عنه كلامٌ في كثير من أبوابه، والتّي يتّفق فيها مع رأي الجماعة الإسلاميّة، أو بما يسمّى تاريخيّا «أهل السّنة والجماعة»، كرأيه في الصّفات بأنّها ليست مغايرة للذات، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ورؤية الله يوم القيامة، وأنّ الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص.


الشافعي في قضية الصحابة والإمامة

يرى الشّافعي أنّ الإمامة لا بدّ منها، وأنّها تكون في قريش، ولا يُشترط فيها الهاشميّة، وأنّها تكون بغير بيعة عند الضّرورة، كأن يعلوها أحدُهم بالسّيف، ويذعن له الجميع، وهو ما يسمّى فقهيًّا «بالحاكم المتغلّب»، وكان يرى أحقّية أبي بكر بالخلافة، وأنّه أفضل الصَّحابة، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ. وفي الخلاف بين عليّ ومعاوية = كان يرى أنّ معاوية وأصحابه كانوا هم الفئة الباغية، وكان محبّا لآل البيت، حتّى إنّه اتّهم بالرّفض، كما اتّهم بانضمامه إلى العلويّين الخارجين على الرّشيد الخليفة العبَّاسي، وربَّما هذا الاتّهام كان ناشئًا عن اشتهاره بحبّ آل البيت، وعليّ على وجه الخصوص، حتّى إنّه اعتمد سيرته في حربه على البغاة.


الشَّافعيّ وتأسيس أصول الفقه

الفخر الرازي

كان للشَّافعي السَّبق في التَّصنيف في هذا العلم الشّريف، فكتَب «الرّسالة»، وهي أوَّل ما دوِّن في أصول الفقه، وحمله على ذلك طلبٌ من عبد الرحمن بن مهدي، فلمّا ألَّفها وأرسلها إلى ابن مهديّ نظر إليها وقال: «لما نظرت الرّسالة للشافعي أذهلتْني؛ لأنني رأيتُ كلام رجل عاقل، فصيح، ناصح، فإني لأُكثِرُ الدعاء له». ثمّ أعاد تأليف «الرِّسالة» مرَّة أخرى، وهو بمصر، وهي النسخة التي بين أيدينا الآن.


أصول الشافعي

ونستعرض الآن نبذة موجزة عن أهمِّ أصول الشَّافعي؛ إذ أهمّ ما يميّز الشّافعي وضعه هذه الأصول، وهي أهمّ ما ينبغي أن يتعرّض له دارس ترجمة الشَّافعيّ؛ لأنّ الحديث عن عالِم من العلماء تتجلّى أهمّيته في ذكر ما اختصَّ به عن غيره.

1- الكتاب والسُّنة: فهما مصدرا الشّريعة، وغيرهما تابعٌ لهما، وهما في مرتبة واحدة إذا صحَّت السُّنَّة؛ إذ تكون السُّنة في كثير من الأحيّان مبيّنة لمجمل الكتاب، وإن كانت من أخبار الآحاد، وأنّها لا تعارض القرآن، فصاحبها لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحَى. ومما نقل عنه في ذلك: «كلّ متكلِّم من الكتاب والسُّنة فهو الحقُّ، وما سواه هذيان».

2- الإجماع: والمراد به إجماع الفقهاء الذين أوتوا علم الخاصَّة، ولم يقتصروا على علم العامَّة، ويُقدّم على القياس.

3- أقوال الصَّحابة: يرى الشَّافعي أنَّ اتفاق الصَّحابة حجَّة، فإن اختلفوا يرجّح بينهم بدليل آخر، وإذا انفرد صحابيّ بقول ليس فيه نصّ فهو أولى من القياس، وإذا كان قول الصَّحابي في مسألة اجتهاديَّة فلا يكونُ حجَّة على غيره من المجتهدين.

4- القياس: وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر معلوم حكمه؛ لاشتراكه معه في علَّة الحكم. والشّافعي أوّل من قعَّد فيه القواعد، وأصَّل أصولَه، ورتَّب مراتبه، وكان يرى فيه رأيًا وسطًا بين الأحناف والمالكيّة، فلم يتوسّع فيه توسّع أبي حنيفة، ولم يتشدَّد فيه تشدّد مالك.

5- الأصل في الأشياء: يرى الشَّافعي أنّ ما لم يرد فيه نصٌّ، الأصل فيه أنَّه مباح إذا كان في المنافع، ومحرَّم إذا كان في المضارّ.

6- الاستصحاب: وهو ثبوت أمر في الزَّمان الثَّاني بناء على ثبوته في الزَّمان الأوَّل؛ فإذا عرفنا حكمًا في الزّمن الماضي، ولم يظهر لنا ما يدلُّ على عدَمه = حكمنا الآن في الزّمان الثاني بأنّه ما زال باقيًا على ما كان عليه. فمثلًا: الأصل في الإنسان براءة ذمّته ، فلو اتُّهم إنسان بديْن ولا توجد بيّنة عليه = فإنّنا نستصحب هذا الأصل، وهو البراءة.

7- الاستقراء: وهو تتبّع أمور جزئيَّة، ليُحكَم بحكمها على أمر يشتمل على تلك الجزئيَّات، بعد تتبّع حالها على ثبوت الحكم الكلِّي لتلك الجزئيات، وبواسطة ثبوته للكلِّي يثبُت للصُّورة المتنازع في حكمها. مثال: تتبّعنا أحوال النّبي عليه الصَّلاة والسّلام، فوجدنا أنَّه ما كان يصلّي الفرائض على الدَّابة، وإنَّما كان يصلي النوافل فقط، فلمَّا صلى الوتر على الدَّابة علمنا أنَّ الوتر من جملة المندوبات، لا الواجبات.

8- الأخذ بأقلّ ما قيل في مسألة من المسائل: وذلك إذا كان الأقلّ جزءًا من الأكثر، ولم يجد دليلًا غيره = فيؤخّذ بأقلّ ما قيل؛ لأنّه حصل إجماعٌ ضمنيٌّ على الأقلّ. مثال: دية الذِّمي اختُلف فيها على ثلاثة أقوال: فقيل: ثلُث دية المسلم، وقيل: نصف دية المسلم، وقيل: نفس دية المسلم. فأخذ الشَّافعي بالثُّلث بناء على هذا الأصل.

ومن الأصول التي ردَّها الشّافعي ولم يأخذ بها:

1- المصالح المرسلة: وقد ردّ الشافعي هذا الأصل، مخالفًا به الإمام مالك.

2- الاستحسان: وهو ترجيح القياس الخفيّ على الجليّ في بعض المسائل، وهو ما يقول به الأحناف.

3- عمل أهل المدينة: يرى المالكية أن عمل أهل المدينة فيما أجمعوا عليه حجَّة، وقد ردَّ الإمام الشافعي هذا الأصل؛ لأن الصحابة قد انتشروا في البلاد عند الفتوحات الإسلامية، ولم يكونوا محصورين في المدينة.

4- شرْع من قبلنا: يرى بعض العلماء أنَّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا بما جاء إلينا عن طريق الوحي لا كتبهم المحرَّفة، وقد أبطل الشّافعي هذا الأصل؛ لأنَّ الإسلام نسخ ما قبله من الشّرائع، ولم يعد فيها حجَّة.


غلبة المذهب الشافعي

كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلَّمون في مسائل من أصول الفقه، ويستدِلَّون، ويَعترِضون، ولكن ما كان لهم قانون كلِّي مرجوع إليه في معرفةِ دلائل الشريعة، وفي كيفيَّة مُعارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي عِلمَ أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلَّة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علمِ الشرع كنسبة أرسطو إلى علمِ العقل.

انتشر المذهب الشَّافعي بمصر وتغلّب على المذهبين: الحنفي والمالكي، حتى جاءت دولة الفاطميين، ففرضوا مذهب الشيعة الإمامية بالقوَّة، ثمَّ عاد للمذهب الشَّافعي صيته وقوَّته مرَّة أخرى بعد مجيء صلاح الدِّين الأيُّوبي، وإزالته ملك الفاطميين، وإحياء المذاهب السُّنية من جديد، ثمّ جاءت دولة المماليك بعد الأيّوبيين فلم يتغيَّر الأمر أيضًا، بل كان القضاء فيها على مذهب الشَّافعيَّة، حتى جاء العثمانيُّون، فحصروا القضاء في المذهب الحنفي. كذلك انتشر مذهب الشَّافعي في بلاد الشَّام، وزاحم مذهب أبي حنيفة في العراق، ودخل بلاد فارس حتَّى غلب عليه مذهب الشِّيعة فيما بعدُ، وللمذهب الشَّافعي انتشار واسع أيضًا في بلاد اليمن، والحجاز، وخراسان، وسجستان، وما وراء النَّهر.

ولعلَّ هذا الاستعراض اليسير لحياة الإمام الشَّافعي، ولبعض آرائه وفقهه = يخبرنا بوضوح عن أسباب هذا الانتشار والذّيوع، فرضي الله عن الإمام، ورحمه وقدّسَ روحَه الطَّيبة.