في منطقة طحنتها الحرب الأهلية، وشهدت واحدة من أبشع مجازر الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث، نهضت من بين الرماد والأشلاء تلك الدولة الأفريقية الصغيرة، الواقعة على منابع النيل، لتتحول في سنوات قليلة إلى نموذج محل للإعجاب والإشادة حول العالم.

كغيرها من الدول الأفريقية خلال القرن الماضي شهدت رواندا، لعقود طويلة، نظام الحزب الواحد وانتخابات المرشح الواحد الذي يستبدل عبر الانقلابات العسكرية لا صندوق الاقتراع. الانتخابات الرئاسية التي تشهدها البلاد في الرابع من أغسطس/آب لهذا العام هي ثالث انتخابات متعددة المرشحين، والأولى بعد التعديل الدستوري في 2015.

لكن هذه المقدمة اختصار مخل يخفي وراءه صورة معقدة.


بطل الحرب والسلام .. أم طاغية؟

ينتمي بول كاجامي الذي يتولى الرئاسة في رواندا منذ عام 2000، والحاكم الفعلي للبلاد منذ 1994 إلى أقلية التوتسي في رواندا. قضى كاجامي سنين نشأته لاجئًا في أوغندا، وزار رواندا لأول مرة عندما كان عمره 20 عامًا. انغمس في الحروب الأهلية الأوغندية لجانب يوري موسيفيني، وعندما انتصر الأخير عينه مديرًا للمخابرات الحربية في الجيش الأوغندي.

ترك كاجامي أوغندا ليقود المعارضة الرواندية المسلحة (الجبهة الوطنية الرواندية) -المشكلة بصورة أساسية من التوتسي- في الحرب الأهلية الرواندية، والتي انتهت باتفاق سلام في تنزانيا لتأسيس حكومة انتقالية. إلا أن عملية السلام انهارت برمتها إثر اغتيال الرئيس الرواندي من قبل المتشددين الهوتو الذين شرعوا في إيجاد حل نهائي لـ «قضية التوتسي» عن طريق إبادتهم جميعًا.

اقرأ أيضًا:على حافة المذبحة: لماذا تسمح أمريكا بإبادة جماعية في سوريا؟

مئات من الآلاف ذُبحوا بالسواطير على أيدي جيرانهم وأصدقائهم، لأن الرصاص لم يكن كافيًا. كان الهدف ذبح جميع التوتسي في البلاد، بالإضافة إلى كل خائن من الهوتو يرفض المشاركة في المذبحة.

دشن كاجامي خطة 2020 التنموية لتحويل رواندا من دولة مدمرة إلي دولة متوسطة الدخل، وذات معدل نمو من الأعلي في العالم بنسبة 8% سنويا

اضطر كاجامي للعودة لامتشاق الحسام وتقدم سريعًا حتى تمكن من السيطرة على معظم أراضي البلاد؛ في حين هرب زعماء المجزرة إلى فرنسا، حيث حصلوا على ملاذ آمن لسنوات عدة، والكونجو، حيث أقاموا معسكرات للملمة قواتهم على الحدود مع رواندا، الأمر الذي أشعل شرارة الحرب الرواندية الكونجولية التي أسقطت نظام موبوتو وأقامت محله نظام كابيلا.

وبينما كان الموقف الدولي مخزيًا حد المهانة، عمل كاجامي على إحلال السلام في البلاد. عين كاجامي عددًا من زعماء الهوتو المعتدلين رئيسًا وآخر رئيسًا للوزراء، في حين احتفظ لنفسه بمنصب نائب الرئيس ووزير الدفاع والقائد العام للجيش، ما جعله الحاكم الفعلي للبلاد. كما أمر بإزالة جميع معالم التمييز العرقي بين الروانديين، بما في ذلك محو خانة العرق من بطاقات الهوية، والتي كان المحتلون البلجيكيون أول من ابتدعوها في رواندا.

أصبح كاجامي رئيسًا في العام 2000، وفاز في 2003، حيث عقدت أول انتخابات رئاسية تعددية في البلاد، بـ 95% من أصوات الناخبين ثم بـ 93% منها في 2010.

دشن كاجامي خطة 2020 التنموية، لتحويل رواندا من دولة مدمَّرة غارقة في الفقر والاقتتال إلى دولة متوسطة الدخل، وذات معدل نمو من الأعلى في العالم (8% سنويًا)، مستلهمًا تجربة سنغافورة، ومركزًا على تحويل البلاد إلى مركز لـ «اقتصاد المعرفة».

خصصت الحكومة سدس ميزانيتها للتعليم وتزايد عدد المنخرطين في التعليم الأساسي وعدد الجامعات في البلاد. تضاعف متوسط دخل المواطن عدة مرات، وتراجعت معدلات الفقر المدقع، وأصبحت معدلات وفيات الأمهات والأطفال -وهي واحدة من أهم معايير تقييم جودة الخدمة الطبية- في رواندا من الأدنى في أفريقيا؛ الأمر الذي مثل معجزة استحقت الثناء والإشادة حتى من الزعماء الغربيين كتوني بلير وبيل كلينتون.

الرئيس الرواندي بول كاجامي


لسنا بحاجة لقائد أبدي

تفكيرنا قائم على مصلحة الشعب، حين نعد الموازنة نركز على التعليم والصحة، ونهتم بالتكنولوجيا، والمهارات، والاختراع، والإبداع. طوال الوقت نفكر بالشعب، الشعب، الشعب

إلا أن الصورة ليست وردية تمامًا. تتهم المعارضة كاجامي بتأسيس «نظام قمعي شمولي يتحكم من خلاله بجميع جوانب الحياة في البلاد»، على حد وصف هيمبارا، الذي كان أحد مساعدي كاجامي، إلا أنه يقيم في المنفى الآن.

ﻻ يوجد في رواندا معارضة حقيقية، والمنافس الوحيد في الانتخابات أمام كاجامي هو الناشط البيئي فرانك هابينزا رئيس حزب الخضر الديمقراطي

كما تشير منظمات حقوق إنسان ومراقبون غربيون إلى تلاعب الحكومة الرواندية بأرقام الإحصاءات لعكس صورة أكثر إشراقًا مما حققته فعلًا على أرض الواقع. حتى الانتخابات التعددية التي خاضها كاجامي في 2003 ثم في 2010، وصفتها هيومن رايتس ووتش بأنها تأتي في مناخ من الخوف والقمع للمعارضة والنشطاء.

لا توجد في رواندا معارضة حقيقية؛ الأمر الذي يراه مقربون من الحكومة محمدة في ذاته. فالجبهة الوطنية الرواندية، بتشكيلاتها المتشعبة إلى أصغر القرى، تسيطر على الحياة السياسية في البلاد. وحتى كبرى أحزاب المعارضة (المفترضة)، تسارع وتتسابق عند كل موسم انتخابي لإعلان دعمها وتأييدها للرئيس كاجامي، وترفض طرح أي مرشح أمامه.

المنافس الأساسي في هذه الانتخابات أمام كاجامي هو الناشط البيئي فرانك هابينزا، رئيس حزب الخضر الديمقراطي المعارض ذو الأربعين عامًا.

ولد «هابينزا» لأب من الهوتو وأم من التوتسي، وابتدأ حياته السياسية عضوًا في الجبهة الوطنية الرواندية (حزب الرئيس كاجامي) قبل أن يقرر في 2009 تأسيس حزب الخضر كحزب معارض للحكومة. لاقى الحزب صعوبات في التسجيل، وفي العام التالي وُجد نائب رئيس الحزب رويسيريكا مقطوع الرأس، واضطر هابينزا للهرب للسويد، حيث لجأ مع عائلته.

عاد هابينزا مرة أخرى وحده دون عائلته هذه المرة في 2012، وتمكن من استخراج ترخيص لحزبه في 2013 قبيل الانتخابات البرلمانية، ثم تخلى عن الجنسية السويدية ليتمكن من الترشح للانتخابات الرئاسية.

أما المرشح الثالث فيليب مبايمانا فهو صحفي، قضى نصف حياته في فرنسا وبلجيكا، واسمه مجهول لدى الروانديين الذين لم يسمعوا به إلا منذ أسابيع قليلة؛ فيرى الروانديون أنفسهم أن ترشحه لا يعدو كونه (مزحة) في أفضل الأحوال.

لا يعني هذا أن السباق الرئاسي الرواندي مفتوح ومتاح لمشاركة كل معروف ونكرة. على سبيل المثال، فتوماس ناهيمانا، وهو قس كاثوليكي مثير للجدل، منع من دخول البلاد إثر إعلانه نيته للترشح في مواجهة الرئيس كاجامي.

لا أعتقد أننا بحاجة لـ (قائد أبدي)
الرئيس الرواندي بول كاجامي

كذلك، وفي بلد تصنف دوليًا كواحدة من أكثر دول العالم مساواة بين الجنسين، وحيث يشكل النساء أغلبية في البرلمان الرواندي، لم يسمح (السقف الزجاجي) لشابة ذات 35 عامًا بخوض سباق الرئاسة.

ديانا رويجارا؛ وهي ابنة أحد أثرى رجال الأعمال الروانديين، والذي لطالما كان من داعمي كاجامي، قبل أن تتوتر العلاقة بين الطرفين ويتوفى إثر حادث مثير للجدل اتهمت عائلته الحكومة بالوقوف وراءه؛ أعلنت نيتها للترشح وشنت هجومًا لاذعًا على كاجامي، متهمة إياه بالفساد وقمع المعارضين.

عقب ذلك بيومين فقط تسربت على شبكة الإنترنت صور عارية لرويجارا،ثم تم إقصاؤها من السباق الانتخابي بدعوى عدم جمعها لما يكفي من التوقيعات الصحيحة المؤهلة للترشح.

تقول لجنة الانتخابات أن رويجارا لم تتمكن من جمع 600 صوت صحيح، وأنها عمدت إلى تزوير عدد من التوقيعات، لكن عريضة شعبية لتعديل الدستور في 2015، بحيث يسمح لكاجامي بالترشح لثلاث فترات رئاسية جديدة، قد حظيت بتوقيع ملايين من المواطنين الروانديين في فترة وجيزة، وفقاً للجنة ذاتها.

https://www.thenation.com/article/rwandas-elections-and-the-myth-of-womens-empowerment

يبقى انسداد الأفق السياسي المشكلة الأبرز في رواندا. ففي الوقت الذي يبدو فيه مرشحو المعارضة أصواتًا عالية دون رؤية حقيقية لقيادة البلاد أو تحقيق نجاحات وخدمات للمواطنين أكبر من تلك التي يقدمها النظام القائم. يقف كاجامي مستندًا إلى إنجازات حقيقية عادت على الروانديين بالازدهار والسلام وحققت تنمية ونموًا اقتصاديًا بدرجة مشهودة من النزاهة، وسط قارة تعج بالفقر والمجاعات والحروب اللانهائية والحكام الغارقين في الفساد حتى آذانهم.

وبينما يرى الكثيرون في كاجامي بطلًا أوقف الاقتتال الأهلي والمذابح الجماعية في رواندا وقادها لتصبح نموذجًا فذًا في التنمية استحقت لأجله لقب (سنغافورة أفريقيا)، يرى الآخرون فيه طاغيةً مستبدًا لا يتحمل سماع صوت المعارضة ولا يقبلها؛ يبقى الأكيد أن شمس هذا النهار، عندما تغرب على جبال رواندا العالية، ستغرب معلنة أن كاجامي، الذي وصفه بيل كلينتون ذات يوم بأنه «أحد أعظم القادة في عصرنا الحاضر» سيستمر رئيسًا للبلاد، حتى 2024، ربما 2034، لكن ليس للأبد.