ما حدث في شارع عماد الدين بوسط القاهرة طوال قرن وأكثر من الزمان، ربما هو تجسيد لما حدث في مصر تمامًا. الشارع الذي كانت تضيئه ليلًا أنوار المسارح والسينمات والكازينوهات، صار موحشًا ذابلاً في الليل، يلمؤه ضجيج نهاري لا ينقطع، بعد أن غزاه غرباء قطع الغيار والمواتير والآلات الميكانيكية. استبدل الشارع بشرايينه التي كانت الفن الذي ينشد الخلود شرايين أخرى صلبة حديدية، تعمل في تروس تتآكل عبر الزمن، لينتهي عمرها الافتراضي في وقت من الأوقات.

في سنة 2005 كتب ألفريد فرج كتابه «شارع عماد الدين.. حكايات الفن والنجوم» الصادر عن دار الهلال، وفي ظني أن أهمية هذا الكتاب تأتي من أن الكاتب والمؤرخ المسرحي الكبير رصد الشارع في مراحل تحوله إلى ما نراه الآن، ربما من الخمسينيات وحتى فترة إصدار الكتاب. حينها – كما يقول ألفريد فرج في المقدمة – كان الشارع يشكو من أوجاع وأمراض، وقد طلب الكاتب من السلطات المختصة في مصر أن تعيد إليه بهاءه ونضارته وأضواءه.

منطقة الترفيه الأولى في الشرق الأوسط

يكثر الحديث في زمننا هذا عن مناطق الترفيه في الوطن العربي، ونستطيع بكل ثقة التأكيد على أن شارع عماد الدين، والذي هو جزء من منطقة الأزبكية، هو أول منطقة ترفيه في الشرق الأوسط.

كان الشارع، كما يصفه ألفريد فرج، مضيئًا إضاءة جذابة للزوار، وصاخبًا بالبهجة والحركة. وبه من المقاهي والمطاعم والكافتيريات أماكن اكتسبت أسماؤها شهرة كبيرة، ومنها «الكورسال، وسان جيمس، ومقهى سفنكس، وغيرها». وكما كان أصحاب المهن والحرف حريصين على التجمع في أسواقهم كالصاغة والنحاسين والعطارين، كان شارع عماد الدين هو ملتقى أهل الفن؛ فيه غنى عبد الوهاب وأم كلثوم، وأضاء مسارحه يوسف بك وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار.

منطقة الترفيه في زمن عماد الدين لم تكن بدعة. فكانت لها مثائل في كثير من الدول، هناك «برودواي» في نيويورك، وهناك «ويست إند» في لندن، و«البوليفار» في باريس.

منطقة الترفيه لم تكن للترفيه فقط، بل كانت للثقافة أيضًا، ويرتاح ألفريد فرج إلى تسمية الشارع بـ«المنتزه الثقافي» الذي يبكي الكاتب المسرحي على ما حدث له، وقد أراد – في وقت وضعه للكتاب – أن تفعل السلطات المصرية مع شارع عماد الدين ما فعله الرئيس الفرنسي بومبيدو مع «حي الهال» الواقع في وسط العاصمة، باريس، حيث كان «حي الهال» سوق الجملة للفاكهة والخضراوات، وقد قررت الحكومة الفرنسية نقل السوق إلى ضواحي المدينة، وبناء قصر ثقافة لباريس في موقعه، وهو قصر الثقافة العملاق الذي سمي باسم بومبيدو. وقد أخليت الساحة، وبُني مكانها أنابيب من الزجاج في طراز معماري غريب، يقدم لزواره المعارض والمكتبات والسينما التجريبة والبرامج الثقافية وغيرها.

شارع عماد الدين حاليًّا، يشق منطقة وسط البلد شقًّا، يقع بين حي عابدين، وآخره عند شارع رمسيس. والجزء الجنوبي منه يسمى شارع محمد فريد، أما الشمالي فلا اسم له إلا شارع عماد الدين. أما شوارع الجانبية فكلها تقريبًا مسماة على أسماء أهل الفن، فهناك شارع نجيب الريحاني وهناك شارع علي الكسار وشارع سيد درويش.

كيف دخل المسرح إلى مصر؟

الكتاب ورغم أنه يمتلئ بحكايات النجوم المصريين في نهايات القرن العشرين وبداياته، إلا أنه لم يتحدث بشكل واضح عن بدايات تألق شارع عماد الدين، واكتفى فرج – وهو الناقد والمؤرخ المسرحي البارز بكل تأكيد – بذكر بواكير نشأة فن المسرح في مصر المرتبط بشكل كبير بشارع عماد الدين. وينسب فرج الفضل لنشأة المسرح في مصر للكاتب اللبناني أحمد فارس الشدياق، الذي سبق محاولات اللبناني مارون النقاش والسوري أبو خليل القباني والمصري يعقوب صنوع، إذ كان الشرق – وفي قلبه مصر – قبل تلك المحاولات يطلب وينشد المسرح، حتى تكتمل النهضة الثقافية الحديثة التي أطلقها محمد علي باشا.

وقد شاهد المصريون المسرح الذي أقامه الفرنسيون في ميدان الأزبكية أثناء حملة بونابرت على مصر، ولكن مؤرخًا كبيرًا كالجبرتي مثلًا لم يهتم به، وكذا لم يكتب عنه باستفاضة رفاعة الطهطاوي في كتابه عن باريس، حتى جاء الشدياق الذي وظَّفه محمد علي في أول جريدة رسمية بمصر وهي «الوقائع المصرية»، وقد وصف المسرح في فصل كامل بكتابٍ له بعنوان «كشف المخبأ في فنون أوروبا»، ويعتبر ألفريد فرج ما كتبه الشدياق هو أقدم وأوفى وصف لفن المسرح صدر باللغة العربية في منتصف القرن الـ19.

وصف الشدياق المسرح في أوروبا وقد شاهد رأي العين مسرحيات شكسبير تمثل أمامه وقت أن كان في رحلة بمالطا وغيرها من البلاد الأوروبية، وقد استطاع – كما يقول فرج في كتابه – أن ينقل هذا الفن بكافة تفاصيله (من حيث التمثيل والديكور والأكسسوار وطبيعة الموضوعات) إلى الجمهور العربي، مع نبذة عن تاريخ نشأة هذا الفن في اليونان، وله مقولة في الكتاب أن: «فرنسا أفضل في فن التراجيديا، وإنجلترا أفضل في الكوميديا».

وأشار الشدياق إلى أنه ما يحزنه فعلًا هو عدم وجود مسرح في المنطقة العربية وفي مصر على وجه الخصوص في مرحلة النهضة التي كانت تمر بها، باعتبار أن المسرح صار من نسيج الحياة الاجتماعية والمدنية والثقافية، ووعاءً فكريًّا وفلسفيًّا وفنيًّا.

كتب الشدياق ذلك قبل منتصف القرن الـ18، ولكنه عندما عاد في 1886 إلى مصر وجد دار الأوبرا في انتظاره، وكذلك مسرح الأزبكية القديم، في تهيئة واضحة لاستقبال نهضة مسرحية وفنية كبرى في مصر، وقودها الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش ونجيب الريحاني وعلي الكسار ويوسف وهبي وبديع خيري وبيرم التونسي.

الرباعي الذهبي الذي صنع النهضة من عماد الدين

نستطيع و «بالفم المليان» التأكيد على أن المسرح هو الفن الأول الذي غزا شارع عماد الدين، وهو أبو الفنون الذي خرج من جلبابه فن الأوبريت مثلًا، ويذكر ألفريد فرج في كتابه تلك النهضة الوجدانية التي شهدها الفن المصري تزامنًا مع ثورة 1919، فكان أوبريت «العشرة الطيبة» لسيد درويش مثلًا، وهو أوبريت ألفه بديع خيري ووضع موسيقاه سيد درويش، وأنتجه نجيب الريحاني!

الأهرامات الثلاثة لفن الأوبريت المصري يضاف إليهم ولا شك اسم آخر وهو بيرم التونسي، وقد نقل هذا الرباعي الفن في مصر – بشكل عام – وليس فقط الأوبريت أو المسرح الغنائي، من الظل إلى النور، فكان مسرحهم هو مسرح القطاع الخاص المستنير، الذي تدرج في الارتقاء بالمسرح من فن «الريفيو» أو الاسكتش الاستعراضي الذي يُقدم في الصالات والكازينوهات، إلى فن مسرحي له قواعد.

استطاع هذا الرباعي أن ينقل لغة المسرح والأوبريتات من لغة مصرية تخالطها ألفاظ فرنسية وإنجليزية (ما سُمِّي بالفرانكو آراب) وقد قدَّم الريحاني منها اسكيتشات «كشكش بك» مثلًا، إلى لغة مصرية خالصة، نابعة من الشارع والثقافة المصرية.

يؤكد ألفريد فرج أن هذا الرباعي (بديع ودرويش والريحاني وبيرم) هو الأصل أو الأساس، وأحاط بهم مجموعة كبيرة من الأسماء منها الشاعر الكبير أحمد شوقي ويوسف وهبي وعزيز عيد وزكي طليمات وعلي الكسار وتوفيق الحكيم، فيما بعد.

دور المرأة: بطلة، مخرجة، صاحبة مسرح، ومديرة فرقة

في الكتاب يذهب ألفريد فرج إلى دور المرأة في نهضة المسرح المصري في بدايات القرن العشرين، مستشهدًا بمحاضرة ألقتها الدكتورة دينا أمين الأستاذ الزائر بجامعة بنسلفانيا الأمريكية، أشارت فيها إلى أول ممثلتين مصريتين اشتركتا في عرض مسرحي كان في سنة 1870، وهما ميليا دايان وشقيقتها. ثم انتقلت إلى أول نجمة مصرية للمسرح وهي منيرة المهدية، أول امرأة مالكة ومنتجة ومديرة فنية للمسرح الغنائي، وقد سبقتها بالتأكيد فاطمة اليوسف التي كانت في قمة مجدها، ولكنها اعتزلت وأسست مجلة «روزاليوسف».

في تلك الفترة ظهرت أسماء نسائية لمعت في شارع عماد الدين، وكان منهن عزيزة أمير التي أنتجت فيلم «ليلى»، والذي يؤكد فرج أنه أول فيلم مصري صامت، وكان ذلك سنة 1927، وكذلك فاطمة رشدي التي أطلقت عليها الصحف «سارة برنار الشرق»، وهي مؤسسة فرقة فاطمة رشدي المسرحية، وقدمت خلالها العديد من العروض المسرحية العالمية، وكانت تقوم فيها بدور الإخراج ورئاسة الفريق، إضافة إلى الكتابة والمعالجة والتمثيل بالطبع.

وإلى جوار هؤلاء النجمات تحدث ألفريد فرج عن الحضور الجماهيري النسائي كذلك في العروض المسرحية، والذي أفرز الكثير من النجمات اللاتي كن في الأصل جماهير لتلك العروض وهذه النجوم. يذكر الكاتب أن مسارح عماد الدين كلها كانت تقدم حفلات ماتينية (نهارية)، وكانت تلك الحفلات هي المفضلة للنساء والفتيات المصريات.

من بين هؤلاء الفتيات حكى فرج قصة أمينة رزق وخالتها أمينة محمد اللتين اقتحمتا مسارح شارع عماد الدين وهن صغيرات، وفي مرة جاءتا لمشاهدة مسرحية كان يقوم ببطولتها يوسف وهبي، ونجحتا في التسلل إلى الكواليس، فقابلهما وهبي نفسه وسألهما عما يفعلان، فبكت الخالة أمينة، بينما لم تنطق أمينة رزق من هول الموقف، لكن يوسف بك رأى فيهما حب الفن، فأشركهما في مسرحية «راسبوتين»، فاتحًا أبواب النجومية لهما.

لا ينسى ألفريد فرج وفود أم كلثوم للغناء على مسارح عماد الدين، ولا حفلات عبد الوهاب وإسهاماته فيما كان يقدم خلال تلك الفترة.

ماذا حدث؟

مع ازدهار الإنتاج السينمائي في مصر، في النصف الأول من القرن العشرين ازدهرت صناعة دور العرض، لتجد مكانها في الشارع المحبب لأهل الفن وهو عماد الدين، ولما اندلع حريق القاهرة سنة 1952 أتى على بعض المسارح ودور السينما التي اشتهر بها شارع عماد الدين، ولكن مع عودته خلال فترة الستينيات والسبعينيات اختفت الكازينوهات وتلاشت المسارح، وحوَّل أصحابها بعضها إلى دار سينما. كان شارع عماد الدين في تلك الفترة المكان الأبرز الذي يضم العديد من دور العرض، من بينها كوزموس وكريم وبيجال وليدو وغيرها، مع وجود مسرح الريحاني وبعض أطلال مسارح أخرى.

ولكن مع غزو سينما المولات أُغلقت حتى سينمات شارع عماد الدين، ولم يبقَ منها سوى كوزموس وكريم التي تحولت إلى زاوية، وتم افتتاح سينما رينيسانس، بالإضافة إلى بقاء مسرح الريحاني كحاله، ولكن ليس بنفس زخم العروض بكل تأكيد.

صرح ألفريد فرج بشكواه في بداية الكتاب، وفي متنه ظل يتحدث عن الزمن ونجومه، وفي آخره بكى حال الشارع في لقاء مع السيدة فوزية الكسار أمينة مخزن ملابس المسارح في شارع عماد الدين، وفي مخزنها وجد ملابس كل الشخصيات التاريخية التي تم تجسيدها على مسارح الشارع، فتجول بين أروقة زمن صلاح الدين الأيوبي وقادته وسيوفه، وبين ملابس هاملت الحائرة وأوفيليا المنتحرة، وكذلك ما ارتدته شخصيات ألف ليلة وليلة وطرابيش الأفندية وسبح المجاذيب.

أنهى ألفريد فرج كتابه متسائلًا عمن يمتلك خزائن مسارح عماد الدين في الزمن المقبل، وقد جاء الزمن المقبل، ولا نعرف إجابة.